في شأنِ جيلِ الصدَّى أو أهلَ البصائرِ في الحركةِ الإتحاديةِ

 


 

 


عبيد حاج الأمين : رائد الوطنية السودانية

boulkea@gmail.com

تقديم :

جاهدتَ لا مُتبرِماً تخشى الرَّدى    وسهِرتَ تعملُ والأنامُ هجودُ

وارتك أكنافَ الخُلودِ مُناضلاً           بيني وبينك يا عُبيدُ بَعيدُ

بهذه الأبيات خاطب توفيق صالح جبريل صديقهُ المناضل عبيد حاج الأمين, النموذج الأنضج لجيل الصدى في الحركة الإتحادية, وأجيال الصدى كما أطلقت عليها في هذه السلسلة من المقالات, هم الرموز الذين جسدوا أفكاراً متقدمة وقدموا رؤى ثاقبة عبر الفكر والممارسة, ولكنهم لم يجدوا الحظ الكافي من البحث والدراسة, فظلت سيرتهم متوارية في مؤخرة ذاكرة الأحزاب الوطنية تنتظرُ من ينقب عنها ويبعثها من جديد.

وفي وقتٍ نفذت فيه ذخيرة الأحزاب السياسية وبرامجها, وهى تسعى لتجديد أفكارها لمواجهة الواقع الماثل بكل ما يكتنفهُ من صراعات واستقطاب كاد أن يجُرَّ الوطن إلى شفير الهاوية, يُصبح أمر دراسة أجيال الصدى أمراً في غاية الأهمية.

ومن ناحية أخرى يجدر بنا أن ندرس إتجاهات تلك الأجيال ومجاهداتها الوطنية من باب الإنصاف ورد الحقوق إلى أهلها, فالأمم والشعوب التي تحترم أنفسها, تسعى لتكريم أبناءها لأنه مثلما أنَّ للأوطان في دماء الأحرار من أبنائها أياد سلفت وديون مستحقة, فإنَّ للأبناء في ذاكرة أوطانهم منازل للفخر والإجلال والإعزار.

النشأة :

ولد عبيد حاج الأمين بأمدرمان لأبٍ من الهاشماب وأمٍ من الخندق, ونشأ بمنزل الأسرة بزريبة الكاشف بالقرب من محطة مكي ودعروسة بأمدرمان, وبعد أن أتم دراسته الإبتدائية إلتحق بكلية غردون القديمة , ونتيجة لنشاطه الوطني تم فصله من الكلية فألتحق بالعمل في وظيفة مفتش تحت التمرين في السكك الحديدية بعطبرة حيق لاحقته المضايقات فترك العمل وعاد ادراجه إلى أمدرمان, وعمل بعد ذلك في مصلحة السجون وأخيراً بالبريد والبرق.

ترأس جمعية الإتحاد السوداني وأسس مع علي عبد اللطيف جمعية اللواء الأبيض التي قادت أحداث ثورة 1924 , وحوكم بالسجن حتى توفي في العام 1932 إثر إنهيار صحته بفعل الإهمال والمرض, ووري جثمانه الثرى حيث كتب على قبره قول شوقي :

قفْ دون رأيكَ في الحياةِ مُجاهداً     إنَّ الحياةَ عقيدةٌ وجهادُ

إرهاصات الوثوب :

كان الرُّبع الأول من القرنِ العشرين بمثابة منصة الإنطلاق التي شكلت واقع السودان الإجتماعي والثقافي والسياسي لسنوات عديدة تالية, فعلى صعيد المجتمع كانت ملامح الفرز الطبقي قد بدأت بالتشكل حصاداً لسنوات الإحتكاك مع الحكم الوافد الذي حمل معهُ حداثة أوروبا بإنتاجها الآلي وتعليمها النظامي وأساليبها الإدارية المتقدمة والتي كانت بدورها ثماراً لعصر التنوير والإنطلاق من قيود الكنيسة وعهود الظلام.

وعلى الجانب السياسي كان الجيل الجديد من السودانيين الذي نشأ وترعرع ووعى في كنف الحكم البريطاني المصري قد بدأ في إعلان تمرده على جيل الأبوة متأثراً بشعاع الثقافة الآخذ في الإنسراب من جهة الشمال.

ونتيجة لهذين العاملين طفت على السطح خيوط تشابك وارتباط جمعت بين جيل المثقفين والطبقة الوسطى الناشئة في البلاد وخاصة في المدن. وإذا كان – كما يقول الأستاذ محمد المكي إبراهيم –إعتبار قصيدة من الشعر نقطة في الزمن يؤرخ على أساسها, فإنَّ قصيدة "البنا" النونية الشهيرة هى النقطة التي بدأ منها الهجوم على معاقل الإقطاع وإنتزاع السلطة القيادية من جيل الآباء وتسليمها للطبقة الوسطى بمتعلميها وتجارها :

والناسُ في القطرِ أشياءٌ ملفقةٌ  فإن تكشف فعن ضعفٍ وعن هونِ               

فمن غنيٍ فقيرٍ في مروءتهِ  ومن قوىٍ بضعفِ النفس مرهونِ

ومن طليقٍ حبيس الرأىِ منقبضٍ فأعجبُ لمنطلقٍ في الأرضِ مسجون

وأخر هو طوعُ البطنِ يبرزُ في زي الملكو وأخلاق البرازينِ

وهيكلٍ تبعتهُ الناسُ قي سرفٍ كالسامرىِ بلا عقلٍ ولا دينِ

يحتالُ بالدينِ للدنيا ليجمعها سحتاً وتوردهُ في قاعٍ سجِّينِ

ويتواصلُ التمرُّد على جيل الآباء في سخرية "صالح عبد القادر" منه في هذين البيتين :

الا يا هندُ قولي أو أجيزي   رجالُ الشرعِ صاروا كالمعيزِ

الا ليت اللحِّى كانت حشيشاً   فتعلفُها خيولُ الإنجليزِ

وكذلك غضبة "مدثر البوشي" المُضرَّية الفخمة الألفاظ :

يُقالُ رجالٌ لا ورَّبُك أنهم جديرونَ أن يُقال الفواطمُ

فما روَّع العلياءُ إلا عمائمٌ تساومُ فينا وهى فينا سوائمُ

في هذه الأجواء المليئة بإرهاصات التطلع لوثبةٍ جديدة تتجاوزُ واقع القهر والجهل والإنقسام والسيطرة الأبوية كان جنينٌ يتكون في رحم المجتمع السوداني يدعو لتجاوز القبيلة والعشيرة ويُبشِّر بميلاد قيادة جديدة, إنه الجيل الذي سيبذرُ البذرة الصادقة للمفاهيم الجديدة للوطنية السودانية, وفي طليعة هذا الجيل وقف عبيد حاج الأمين :

( ويقبلُ الليلُ بكلكلهِ, ويتفرق الصحاب, ويُهرعُ عبيد يرتدي ملابسه ويخرجُ على دراجته يتلوى بها وعليها, ويختفي في الظلام حتى إذا ما أدرك حي أبوروف شارع الخبير هبط من دراجتهِ, و تلفت يُمنة ويسرة, وقرع باب أحد البيوت قرعاً خفيفاً ودخل إلى فناءِ منزلٍ موحشٍ كالمقبرة, وتوجه نحو إحدى حُجرتى المنزل ولقى جماعة هناك في المنزل كانوا في إنتظار قدومه وحيَّاهم وجلس, وشرعوا في الحال يُناقشون في همس, وكلما فرغوا من موضوع كلفوا أحدهم بتدبيجهِ في الورق وآخر بطبعهِ على الماكينة والآلة الكاتبة, وحرصاً على أن يظلَّ أمرهم مطوياً, وخوفاً من عيون المخابرات المبثوثة هنا وهناك يخرج أحدٌ منهم ويجوب الشارع ويزرعهُ ذهاباً وإياباً لتتبعهُ الكلاب ويعلو نبيحها حتى يختفي صوت الماكينة الكاتبة. وتنتهي الجماعة من عملها في تلك الليلة ويخرج الرفاق كلٌ إلى بيتهِ بعد أن أودعوا صاحب المنزل أوراقهم ومطبوعاتهم, ويخرج عبيد على ظهر دراجته يشق بها وعليها الظلام وتستقبله والدته "عرفة" وهو يتسلل خفية إلى المنزل. وتتدفق المنشورات في كل تجمعات الناس, في بيوت الأعراس والمآتم, ويتَّسع النشاط السِّري ليشمل بعض الموظفين والتجار والطلاب, ويُسجِّل التاريخ لجمعية الإتحاد السوداني السرِّية أنها أول تنظيم سياسي في تاريخ البلاد لا تقوم مقاومتهُ على أساسٍ قبلي ).

عبيد حاج الأمين ومفهوم الوطنية :   

كانت جمعية الإتحاد السوداني بمثابة الدَرَج الأول في سلم الحركة الوطنية السودانية النازعة نحو مفاهيم متقدمة لمعنى الوطنية الذي يتجاوز حدود الإقليم والقبيلة والجهة, وكان عبيد حاج الأمين رائد التفكير القومي الذي أرسى دعائم النظرة التركيبية للثقافة السودانية, وكانت هذه الرؤية نتاجاً منطقياً للتطور الإجتماعي الذي أصاب السودان في الرُّبع الأول من القرن الماضي.

وبما أنَّ الجديد يتخلق دوماً في رحم القديم, فإنَّ النزوع لشدِّ المفاهيم الجديدة إلى نسيج الماضي الآخذ في الأفول قد أدى إلى إنقسام جمعية الإتحاد السوداني وبرز عبيد حاج الأمين كقائدٍ لطليعة التفكير الجديد :

( وبإيجاز نستطيع أن نفترض أنَّ السبب الأساسي للإنقسام وسط أعضاء الإتحاد السوداني القياديين لم يكن هو إختلاف الرأي حول "وحدة وادي النيل" فقد إتفقوا أن تكون وحدة وادي النيل هى هدف حركتهم. وكانت نقطة خلافهم هى أَىُّ قسمٍ من السودانيين مُخوَّلٌ للحديث بإسم الشعب السوداني ؟ وقد مال بعض الأعضاء القياديين مثل "سليمان كشة" إلى قبول إدِّعاء الزعماء القبليين والدينيين أنَّ الشعب قد فوَّضهم للحديث بإسمه, لكن آخرين مثل "عبيد حاج الأمين" لم يقبلوا هذا الزعم )

وقف عبيد في وجه تمثيل الزعماء, ولم يعبأ بمحاولات الحكومة لمصالحتهِ مع هؤلاء الزعماء عندما وسطَّت له الشيخ "الطيب هاشم" أحد أعيان أسرة الهاشماب, ورغم ضغوط الأسرة عليه فقد كان إثنان من أشقاء والده من العلماء الذين رافقوا الوفد الذي زار بريطانيا في عام 1919 لتهنئة الملكة بإنتصار بريطانيا في الحرب العالمية الأولى. لقد إختار عبيد الإنحياز لجانب الشعب بكل فئاته وأعراقه فحقق ما أراد.

عبيد حاج الأمين وعلى عبد اللطيف :

رغم إختلاف الأصول العرقية لكلا القائدين, فقد جمعتهما هموم الطبقة التي ينتميان إليها بآمالها وآلامها وتطلعاتها, وقد كان عبيد بنظرته الثاقبة ووعيه الذاتي بتلك التطلعات تجسيداً حقيقياً لإبن الطبقة الوسطى الذي تحرَّر من هموم الأصل العرقي وقيود القبيلة, فانطلق ليؤسس مع على عبد اللطيف جمعية اللواء الأبيض, التي كانت إشارة لميلاد الجنين الوطنى المعافى من تشوهات النسيج الإجتماعي الجاذبة للوراء.

لم يشُدَّهم وهم الإستعلاء العرقي الذي أصبح يتكررُ كثيراً هذه الأيام بل دفعهم وعيهم بإتجاه المستقبل ومآلاته وقد وعوا ظرفهم التاريخي وتحدثوا بلغته فانحازت لهم الجماهير, لأول حركة منظمة في مواجهة المستعمر وذيوله. وأحسب أنَّ عبيداً كان مفكر الثورة, وفي هذا أتفق مع الدكتور القدال في قوله :

( كنتُ من الذين يميلون إلى أنَّ عبيد حاج الأمين كان "العقل المفكر" بالنسبة للجمعية والثورة وأنَّ على عبد اللطيف كان "الزعيم الشعبي" ).

ولعلنا نحتاجُ أن نعقد مقارنة حقيقة لدور كل من الرجلين. كانت مقالة "ناصح وطني أمين" ووثيقة "مطالب الأمة" بمثابة الإعلان عن تحالف الطبقة الوسطى والمثقفين وتمثلت تلك المطالب في زيادة فرص التعليم ونزع إحتكار السُّكر ومراجعة الأوضاع في مشروع الجزيرة وإسناد الوظائف للسودانيين إضافة لرفع الحيق عن المزارعين وتخفيف الضرائب.

وكانت جمعية اللواء الأبيض في ظل قيادة على عبد اللطيف وعبيد حاج الأمين تمثلُ نزوعاً حقيقياً نحو سودان متعدد الأعراق ومتنوع الإنتماءات.

الحركة الإتحادية وتراث أجيال الصدى :

يزدادُ الجدل داخل الحركة الإتحادية حول تحديات الواقع الماثل والتي تهدّد بتفكك الوطن وتشرزمه, والحزب الإتحادي شأنهُ شأن الأحزاب الأخرى يتحملُ قدراً من المسؤولية عن الحال الذي آل إليه السودان, فالحزب الذي قاد النضال الوطني وأخرج المُستعمر, وجد نفسهُ بعد قرابة ستين عاماً من الإستقلال وجد نفسه مع الآخرين في موقع المُجيب عن السؤال : هل نحن عرب أم أفارقة ؟

إنَّ إعادة إكتشاف التراث الذي خَّلفهُ جيل الوثبة الذي وقف عبيد حاج الأمين في طليعته, ودراسته وتطويره كفيلٌ بأن يُعطي الإجابة عن هذا السؤال الذي يبدو للوهلة الأولى ساذجاً.

إنَّ الحركة الإتحادية مطالبة أكثر من أية وقت مضى أن تعطي الأجيال الجديدة إجابات عن مسائل كثيرة يقف في مقدمتها سؤال الوطنية والشخصية السودانية, فهى – أي الحركة الإتحادية - مُتهمَّة بأنها مُحتكرة لإثنيات بعينها وأنه لا يوجد فيها تمثيلٌ للسودان العريض ؟  ماذا حدث ؟ وما هو سبب الإنقطاع عن تراث الآباء المؤسسين لهذه الحركة ؟

إنَّ إرث اللواء الأبيض "ثاني حركة إتحادية بعد جمعية الإتحاد السوداني" يُجيبُ بإمكانية أتساع مواعين الحركة الإتحادية لتسع الجميع, فالجمعية التي ترأسها على عبد اللطيف الجنوبي, وكان من أعضائها عبيد حاج الأمين إبن الشمال النيلي, ومحمد الخليفة عبد الله التعايشي إبن الغرب, وعبد الفضيل الماظ النوباوي, وخليل فرح النوبي, كانت تمثل نواة حقيقية لسودانٍ موحد يلتئمُ فيه الجميع على قدم المساواة, ويتم فيها تقدُّم الصفوف وفق معايير الكفاءة والجدارة الشخصية, وليس الأصل العرقي والأرومة والمنبت.

إنَّ سؤال الهوية يبدو اليوم أكثر إلحاحاً من أية وقت مضى بسبب الإستقطاب الحاد, والرِّدة الفكرية والسياسية والإجتماعية التي جعلت الكل يتحصنون بأعراقهم وقبائلهم في وطنٍ مرشحٍ للإنشطار والتفكك في أية لحظة.

يلي سؤال الهوية في إطار مسألة بعث التراث من أجل التجديد الفكري مسألة المضامين الجديدة لشعار "الإتحاد" في سودان القرن الحادي والعشرين, فهل دعوة الإتحاد التي برزت مع جيل عبيد حاج الأمين لا تزال هى ذات الدعوة التي يتطلع إليها الإتحاديون ؟

هل هو إتحاد الكفاح المشترك ضد العدو الأكبر "بريطانيا" أم أنَّ هذه الدعوة قد إتخذت مضامين جديدة تختلف عن سابقاتها وباتت تحتضن مفاهيم المصلحة المشتركة وضرورة الإلتئام في كيانات كبرى آخذين في الإعتبار التحولات الدولية التي أجبرت الأمم على التوحُّد مثلما حدث في أوروبا ؟ وهل تتسِّع هذه الوحدة لتشمل دولاً أخرى في أفريقيا وخصوصاً منطقة القرن الإفريقي "إرتريا, إثيوبيا, الخ" ؟

إنَّ البحث في تراث أجيال الصدى يُحيلنا مُباشرة إلى الإجابة عن سؤال التحوُّل الإجتماعي والإقتصادي الذي يعبِّر عن مصالح الغالبية الجماهيرية الصامتة. لقد عبَّر عبيد حاج الأمين ورفاقه عن طموحات جيلهم في وثيقة "مطالب الأمة" فأين هى برامج الإتحاديين التي تجابه مشاكل الفقر والبطالة والتصحر والهجرة والنزوح ؟ وأين هى مخططاتهم لعلاج الأزمات العميقة التي تعاني منها الطبقة الوسطى التي كانت تمثل ميزان العدل الطبقي في السودان ؟

لقد جسَّد عبيد حاج الأمين ورفاقه نموذج القيادة المرتبطة بجماهيرها, الحاملة لتطلعاتها والساعية لتحقيقها من وسط صفوف ذات الجماهير, وقد عاشوا ظروف الفصل من العمل والتشريد والسجن والنفي فاستحقوا عن جدارة قيادة الجماهير وتقدُّم الصفوف. لم ينشغلوا بالمنافسة الشخصية على الزعامة, فعندما إنتقل عبيد من جمعية الإتحاد السوداني كان رئيسها دون منازع, ولم يثنه ذلك عن قبول العمل تحت رئاسة على عبد اللطيف, بل إندفع في خضم المعركة الوطنية, وحمل الراية منافحاً في فترات غياب علي. إنها الدروس التي يجب أن تعيها الحركة الإتحادية وهى تقلِّبُ صحائفَ ذلك الجيل الواثب.

 

آراء