في نعيّ واحدٍ من الناس: معروف خليل: البحرُ يمتدُّ بإمكاناته القصوى

 


 

 

izzalarab giwey [izzanaizzana@yahoo.com]

كان المنزل الكائن بالفتيحاب مربع خمسة والذي استأجره المغفور له علي عبد القادر الحاج في تواريخ باكرة لانتمائنا له – أي المنزل- يندرج في مراحل تطوره بأنه مرّ بتخلقات عدة حيث انتقل جيلا بعد جيل في سلسلة أبناء الحاج عبد القادر فبعد رحيل عليّ إلي رحاب ربه الفسيحة نهض بمسؤوليته الشقيق والصديق عبد الرحمن عبد القادر الذي ضاقت عليه رحابة خرطوم الإنقاذ التي أبت نفسها إلا أن تتريّف لينعم بطيب الرهد أبو دكنة وعليل نسيم تُردَتها في رحلة عكسية تنشد الراحة النفسية وتلفظ المدينة وضوضاءها ليقود دفة هذا المنزل الفريد أخوهما معتصم .

كان المنزل نسيجا من المعرفية والمثاقفة يسكنه الهدوء لدرجة يكاد يشكو فيها إزعاج بيوت الأٌسر المجاورة , كان يجمع المتشابهين من مواليد برج السرطان كما يصنفهم محمد الحسن يعقوب في اهتمامه بالتبحر في تراكيب الفلك ورصد السلوك البشري ومجاوزته بما يقوله البرج للدرجة التي أخافت طارق منوفلي حين قال له ذات يوم " أوع يا طارق تخلّي الشمس تطلع وأنت نائم لأنك من مواليد برج الحمل والبرج ده السنة دي ما كويسة معاهو " واستدل في ذلك بمقتل جون قرنق في ذلك العام وهو من مواليد برج الحمل؛ وكانت تزدان لياليه بأشعار عثمان خالد والتحليلات السياسية لمحمد محمد خير قبل أن يتم تعديله وراثيا ويركب قطار الإنقاذ ذات حاجةٍ ومعايش , وكان الاتحاديون ينصبون خيامهم هناك في أمسيات للفكر والأدب – محمد إسماعيل الأزهري , عثمان عمر الشريف وشباب من الجيل الذي عصفت به الإنقاذ وهناً,  وكان لكرة القدم نصيب كبير في مساجلات بين أنصار الهلال والمريخ قبل أن يمسخها التعصب الأعمى علي هذه الأيام وكان يقود هذه المساجلات العم عبد الحي سعد الله حين يكون في رحاب المنزل مزمل أبو القاسم وخالد عزا لدين .

في مرحلة لاحقة شهد المنزل منتديات كان جديرا أن توثّق حفزها باهتماماته الموسوعية ومناقشاته العميقة عبد المنعم عجب الفيا في شؤون الأدب والتراث والتدقيق في بعض مسائل الالتباس اللغوي وكان معتصم عبد القادر يناوش الجميع بانكبابه علي الحفريات في التاريخ وحواره مع الاجتماع والثقافة عبر كتابات سيد القِمَني وفِراس السوّاح . والمنزل أطياف أخري وأجيال, طلاب جامعيون وخريجون جدد ومعلمون وإعلاميون وتجار ومهندسون في الميكانيكا وكهرباء السيارات وفنانون تشكيليون , باختصار- كان المنزل فسيفساء أو جلباب درويش يغنّي قوام السودان " من كل روضة زهرة "  .

بالنسبة لي كان المنزل بوابة كبري لمعرفة أهل كردفان – اعتدالهم ووسطيتهم وإبداعهم في كثير من ضروب الفن وكذلك ألفتهم ومودتهم العميقة مع الغير وعلوّ في الهمة كان يخجلني به ابنا علي عبد الماجد وكثيرا ما استدبر هذه الحقبة فأنظر لنفسي بعين عدم الرضا أداءً برفقة هؤلاء الأصدقاء.

وكان معروف خليل نسيج وحده بين كل هؤلاء فهو وحده يمثّل فئة كثيرة وأغلبية وكان وحده أيضا لونا وطعما ورائحة في هذه الفسيفساء , كان يرتاد المنزل زائرا  قبل أن يصبح عضوا فيه في حقبة لاحقة وفي كلتا الفترتين كان يترك عطره ويمضي وكان بينه والجميع قواسم مشتركة , وبما أنّه كان منجَم قواميس فقد كانت كل هذه القنوات تسري بينه والآخرين في تناغم دون اختلال ولا يترك إلا الأثر الطيب في نفسِ مُلاقيه .

مكّنته مهنة التجارة المتنقلة من أن يستجمع السودان بتعدده في شخصيته وكأني به قد جمع كل الجمال الوافر في شخصية كل إقليم وخلّق منها قواما اسمه " معروف خليل ". ربطته هذه المهنة بجنوب السودان فكانت علاقاته علي مستوي السلاطين والكبار في السُلّم الاجتماعي علي مستوي معظم قبائل الجنوب وكانت تلك بوابته لمعرفة معظم لغاته ولهجاته وبالتالي انفتحت أمامه أبواب أخري لمعرفة عادات وتقاليد هذه القبائل , وبما أن استمرار الحرب في الجنوب خلق صورة ذهنية في الذهن الشمالي والجنوبي معا تقوم علي عدم ثقة أحد الذهنين في الآخر إلا أن معروفا والحرب في أوجها كان يستودع سره وماله في كثير من الأحيان لبعض أصدقائه من الجنوبيين المقيمين في الجنوب مما يجعلنا نقرر أن الفقيد كان جسرا نموذجيا لخلق الوحدة بين الشمال والجنوب – تلك الوحدة التوّاقة لمثل سلوكه القويم وظنونه الحسنة التي ما كان لها أن تنهض لولا الاحتكاك والمعايشة اليومية والمثاقفة في قالبها البسيط الذي أساسه المواطن البسيط في الشمال تجاه المواطن الآخر الجنوبي وهذا ما لا يحتاج لصحائف مسوّدة من اتفاقياتٍ وترسيمِ حدود فالمشاعر والوجدان السليم لا يخضع لمعايير الترسيم , وكانت الدهشة قد عقدت ألسنة ركاب مركبة عامة حين نشب خلاف بين امرأتين تنتميان لقبيلتين جنوبيتين وتصدّي معروف لفضّ الاشتباك راطنا بلهجتيهما وكانت شماليته سببا في إنقاذ الموقف.

في عام 1993 تقريبا تقاسمنا غرفة في ذلك المنزل المذكور ولم نتقاسم سواها فقد كان في كل مناحي الحياة الأخرى صاحب اليد العليا وهذه الصفة تمثّل " عمود النّص" في حياة فقيدنا العزيز لا ينتظر وراءها شكرا من أحد ولكنه يفعل الخيرات إنفاقا ويمضي في حال سبيله لا ينتظر شكرا ولا يرجو ردّا للجميل ولم يمنعه ذلك من تسقّط أخبار جميع الذين ساكنهم إذ إنه همّة لا تفتر في الرحال. كانت تلك التواريخ جبلا من المعاناة والإملاق ولكنه عالجها بابتسامته الظاهرة دائما في المُحيّا وباطنها سخريته الخالصة وهو يشدّ العمامة علي طريقته حيث يقلل من الوطأة بقوله:" هه, أدّيها حُوليقة " ويطوف محلّقا وهو خِماص ويعود بِطانا يحمل في مُخلاته ما فيه الحدّ والحل؛ ولعل المُقل التي بكته وهي شتي مثلما كان أطياف منزلنا السالف فقد شيّعه أهل كردفان تجارهم ومحاموهم ومعلموهم ونظارهم وفي المقدمة شيوخهم وكلهم يجمعه حبل مودته المتين ويستدعي إنفاقه ويده الطولي التي لا تخشي القتر وكأني به يستدعي صفات الرسول الكريم "ص" التي جعله بعضها موردا للرسالة الخاتمة " كان يقري الضيف ويرفع الكَل ويُعين علي نوائب الدهر" فإذا كانت هذه الصفات تورث النبوة فمن باب أولي تورث في زماننا هذا الصلاح  وهل هذا الصلاح إلا القبول من الناس.

كان معروف خليل علامة في الذوق الرفيع من حيث المعاملة خاصة مع كبار السّن الذين كانوا يحلون ضيوفا علينا في مربع خمسة فقد كان عارفا بالسبيل الذي يصل شِغافهم في غير ما تكلّف وعنت في إبداء التقدير والاحترام.

اللهمّ يا فالق الإصباح والحب والنّوى اجعله مقبولا عندك أضعافا مضاعفة لقبوله عند الناس في الحياة الدنيا وأكرمه بالإتيان في ذلك اليوم حاملا صحائفه بيمينه... آمين   

 

آراء