قانون النظام العام في المهدية

 


 

 


morizig@hotmail.com
مقدمة مهمة :
يقول د. أبوسليم : " عملت لفترة طويلة في تحقيق هذه الوثائق (يقصد منشورات المهدية) وضبطها، وقد تيسر لي أن أعدّ عنها رسالة جامعية نلت بها درجة الدكتوراة في جامعة الخرطوم.  ....الى قوله ....وقد رجعت في ذلك (أي في تحقيقها) إلى كل ما أمكن العثور عليه من مصادر المهدية وضاهيت نصوصها وحققتها إلى أقصى ما يبلغه جهدي، وأرجو أن أحيل من يريد المزيد عن المصادر إلى كتابي "المرشد إلى وثائق المهدي" الذي أصدرته دار الوثائق المركزية ، وهو سجل مستوفٍ للوثائق وأغراضها ومصادرها وتواريخ صدورها. وهذا المصنف ( يقصد كتاب منشورات المهدي) يبدأ بخمس رسائل صدرت عن محمد أحمد بن عبد الله (المهدي) في السنوات الحرجة التي سبقت إعلان المهدية، وقد بدأنا بها لأنها تعطي فكرة طيبة عن نشاط المهدي وحركاته قبيل المهدية " (منشورات المهدية صفحة . ج) 
وفي الحقيقة يحتوى كتاب الدكتور أبو سليم على 107 من رسائل المهدي التي أرسلها للولاة، وقادة جيشه، وشيوخ الطرق الصوفية، والعلماء، والسياسيين، وغيرهم.  وتعتبر هذه الرسائل وثائق مهمة وموثوقة جدا لدراسة وتقييم فكر المهدي الديني وممارساته السياسية واحكامه القضائية.  ولا أحد يستطيع أن ينكر أثر المهدية في حياتنا حتى لحظة كتابة هذه السطور، فالمهدية حاضرة في السياسة، وحاضرة في الملبس، وحاضرة في العبادة، وحاضرة في اسماء الأحياء السكنية، وحاضرة في اسماء الرتب العسكرية (الملازمين)، وحاضرة في المنهج التعليمي، وحاضرة في أسماء الجامعات...... وهلم جرا!!
ولهذا كله نجد أنّ من الضروري جدا دراسة فكر وممارسات الثورة المهدية لنقطع بها دابر أثرها السيء علينا ونذر منها ما هو حسن وجيّد لينمو ويتطور.   وهذا المقال لا يهدف لكشف المسكوت عنه كشفا أكاديميا وحسب وإنما المقصود منه أيضا ربط الماضي بالحاضر والمستقبل لنتجنب استنساخ اخطاء الماضي وتعبأتها في مواعين جديدة وحتى لا يعيد لنا التاريخ نفسه واظنه قد فعل.  
روى احد الاخوة في موقع "سودانيزأونلاين" أن الأستاذ محمود محمد طه كان يقول بعد أن أصدر نميري بعض القوانين الشريعية كنا : " نرجو أن تكون فتنة المهدية قد جنبت السودانيين فتنة مشابهة ."   وبالطبع هذا كلام صحيح لأنّ الماضي يؤثّر على الحاضر، و أي ثورة شعبية فاعلة تؤثر برمتها على ما بعدها من أحداث إذا لم نقابل منهج تلك الثورة بالتمحيص والدراسة والنقد والتحليل والتقويم.  ولكن للأسف لا أذكر أني قرأت دراسة للأستاذ محمود محمد طه ولا لأي مفكر سوداني يتناول فيها المهدية بالنقد العلمي الوافي ويوزن اعمالها بميزان الشرع والعقل والعلم لكي يجنب الناس فتنة مشابهة!   وللأسف "الرجاء" و "التمنى" وحدهما لا يغنيان شيئا ولا يقوّمان معوج ولا يقدمان حلول.

قانون النظام العام في المهدية :
لم تعرف المهدية القانون المدون والمبوب بصورته الحديثة وإنما كانت تصدر الأحكام في دولة المهدي شفاهة أو كتابة في رسالة خاصة من المهدي أو الخليفة عبد الله أو القاضي المكلف بالقضية. ولذلك لم يكن هناك قانون للنظام العام يسمى "قانون النظام العام" كما يوحى عنوان المقال. والعنوان في الحقيقة فرضه عليّ الجو السياسي العام لتوصيف تلك الاحكام التي تخص السلوك في الشارع العام، وهذه الأحكام لها جذور في دولة المهدي وقد اصدر المهدي وخليفته عدة احكام تخص السلوك العام إليكم أمثلة منها :
يقول المهدي في المنشور رقم (42) صفحة 185-187  : "  وعلى النساء الجهاد في سبيل الله : فمن صارت قاعدة وانقطع عنها ارب الرجال فتجاهد بيديها ورجليها.  وامّا الشابات فيجاهدن نفوسهن، ويسكنّ بيوتهنّ  ولا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، ولا يخرجنّ لغير حاجة شرعية، ولا يتكلمن بكلام جهراً ، ولا يسمعن الرجال اصواتهن إلا من وراء حجاب، ويقمنّ الصلاة ويطعنّ ازواجهنّ، ويتسترن بثيابهن.
فمن وقفت كاشفة رأسها ولو لحظة عين، فتؤدب بالضرب سبعة وعشرين (27) سوطا.
ومن تكلمت بصوت عال فتضرب سبعة وعشرين (27) سوطا.
ومن تكلم بفاحشة فعليه ثمانون (80) سوطا.
ومن قال لاخيه المؤمن يا كلب يا خنزير، او يا يهودي، او يا ديوث، او يا معرّص، او يا فاجر، او يا سارق، او يا زاني، او يا خائن، او يا ملعون، او يا كافر، او يا نصراني، او يا لوطي، فيضرب ثمانون (80) سوطا ويحبس سبعة (7) ايام.
ومن تكلم مع أجنبية وليس بعاقد عليها ولا (حديثه) لامر شرعي، لا يجوز ذلك الكلام (منه) فيضرب سبعة وعشرين (27) سوطا.
ومن شرب الدخان يؤدب ثمانون (80) سوطا ويحرق التنباك ان كان عنده وكذلك من خزنه بفمه ومن عمله بأنفه. 
ومن باعه او اشتراه (أي التنباك والسجاير) وان لم يستعمله فيؤدب كذلك ويحبس سبعة (7) أيام.
ومن ترك الصلاة عمداً فهو عاص لله ورسوله، وقيل كافر وقيل يقتل.
وجاره (جار تارك الصلاة) ان لم يقدر عليه (بالموعظة) يكلم به امير البلد، فان لم يكلمه يضرب (الجار) ثمانين (80) سوطا ويحبس سبعة (7) أيام، وقيل امواله غنيمة.
وبنت الخمس سنين ان لم يسترها اهلها يضربون من غير حبس.
ومن علم بان أمته (مملوكته) معها رجل بغير عقد وصبر على ذلك يوما ولم يتكلم قيل يقتل، وقيل يحبس، وقيل ماله غنيمة."

أمر المهدي في المنشور رقم (50) صفحة 205 بالآتي : " أما تارك صلاة الجمعة والجماعة وراتب المهدي (عليه السلام) بدون عذر شرعي فيضرب ثمانين (80) سوطا شفية ويحبس ثلاثة (3) ايام."

أمر المهدي في المنشور رقم (88) صفحة 295 : "بأنّ الذي يحلف بالحرام من الآن فصاعدا يؤدّب أولا ويكفر كما قال المهدي عليه السلام و (من) ثمّ تخرج زوجته من عصمته بصداقها وأملاكها ولا يراجعها ثانيا أبداً."
وقال في نفس المنشور : " والمرأة التي يوجد في رأسها صمغ (ربما هي الباروكة) تضرب ثمانين (80) سوطا ويؤخذ من زوجها ثلث ماله ."
وفيه أيضا : "وأيضا كان المهدي عليه السلام نهى عن الفراش على الميت، وبلغني (المتحدث هنا هو الخليفة عبد الله التعايشي ) أنه جارى فعل ذلك (أي أن العمل بالفراش مستمر)، ورأينا أنّه من الآن فصاعدا من بعد اجتماع الناس لتجهيز الميت ودفنه، إذا عادوا وفعلوا وفرشوا له كالعادة السابقة فيؤخذ نصف مال الميت نفسه، ونصف مال وليه الذي فرش له، وتورّد هذا لبيت المال."
خاتمة :
هذه الاحكام طبقت فعلا على أهل السودان في يوم من الأيام، ونلاحظ توسع المهدي في مسألة الضرب بالسياط ومصادرة الأموال، حتى أن خليفته أمر بمصادرة نصف أموال الميت إذا أقام له أهله "فراش" عزاء!! وهل يا ترى على الميت ذنب؟  وهل هذا من العدل والدين؟ وهل أمر الله ورسوله بذلك؟
وعندما انتصر الانجليز في كرري بفضل الاسلحة الامريكية الحديثة المتمثلة في مدافع "المكسيم"  او "الماكسيما" التي حصدت فرسان السودان حصدا ، سيطر الانجليز على البلاد واستمروا في عقوبة الضرب بل توسعوا فيها حتى ادخلوها حيشان المدارس فكانوا يضربون طلاب كلية غردون التذكارية لاتفه الأسباب!  ثمّ تفشى الضرب في المدارس كالنار في الهشيم وكم وكم علت ظهورنا سياط العنج ونحن أطفال صغار فى الابتدائي بسبب الهرجلة وشقاوة الطفولة ! 
وهكذا تفشت ثقافة الضرب في المجتمع  فغشيت حتى بيوت الأعراس فبدأها أهلنا الجعليين كرد فعل لسياسة التعايشي ضدهم،  فجأوا بظاهرة "البطان" التي أرادوا أن يستفزوا بها الخليفة وجنده ويرسلون لهم رسالة صامتة فحواها : لا السوط ولا السيف يخيفنا وها هنّ بناتنا يشهدنّ على ذلك، وها هو مطربنا يغني يدفعنا نحو الرجولة قائلا : "السوووط.. السوط يا جنى..السوط أحرّ من الموت ياجنى"، فإذا لقاء الموت عندنا أسهل من نيران السوط، ونحن لا نخاف الإثنين معا فافعل ما شئت ضربا و قتلا وسجنا فلن ترى منا إلا الثبات !   هذه هي رسالة "البطان" التي تحدى بها الجعليون الخليفة ومازالت هي نفس الرسالة وراء ظاهرة "البطان" الذي انتشر في كثير من أرض السودان فصار ظاهرة للرجولة والتحدي بوسيلة سالبة.  و ظاهرة "البطان"  ليست بقديمة في المجتمع السوداني وليس لها ذكر في كتب الرحالة الذين زاروا السودان وخاصة بوكهارت، ولا ذكر لها في كتب التاريخ القديم على حد علمي ومعرفتي، وهي قد بدأت بلا خلاف في أرض الجعليين في شندي والمتمة ثم انتقلت للقبائل الاخرى، وبعض المحللين يردها لردة فعل من الجعليين لحملة الدفتردار الانتقامية بنفس الرسالة أعلاه، ولكن أنا أردها لمذبحة المتمة وعداوة الخليفة للجعليين وحربه لهم فهي من الناحية النفسية لاحداث المتمة أقرب لأن حملة الدفتردار كانت خاطفة وعامة تأثر بها جميع السودان.
فإذن "البطان" في الأفراح، والضرب في المدارس، والضرب في الخلاوي، هو ثمرة من ثمار الضرب الذى توسعت في استعماله دولة المهدية كعقوبة لأي جريمة ومخالفة وسلوك غير مقبول لديها، وتابعها في ذلك المستعمر اللعين بعد كرري .
ومن المؤسف أن نرى قضاة السودان الحديث ما زالوا متأثرين بالمهدية في احكامهم القضائية من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون!  فهم الوحيدون دون سائر القضاة في العالم يتوسعون في تطبيق عقوبة الجلد لتشمل كل او معظم العقوبات التعذيرية مع أن الحكم بالجلد لا يكون ملزماً للقاضي الاٌ في جريمتين فقط من جرائم الحدود هما الزنا والقذف وفقا للنص القرآني. أما الجلد في الخمر فيمكن استبداله بالغرامة او السجن لأن عقوبة الخمر تعزيرية و ليست حدية فيجوز فيها الاجتهاد.

فهل يا ترى أن الوقت قد حان لمراجعة عقوبة الجلد و مسألة التوسع فيها كعقوبة للمخالفات الجنائية وخاصة ضرب  النساء تعزيراً ؟  وهل يمكن أن نحصر عقوبة الضرب ونضيّق عليها في القانون السوداني على المستوى الرسمي و على مستوى العادات والعرف أيضا؟




 

آراء