زفرات حرى
إذا كنا قد شخَّصنا بعضاً من علل الواقع المأزوم وأثرنا المَواجِع عن حالة السودان الذي افتقد كثيراً من سيادته وكبريائه الوطني حيث صارت أخبارُه وتمرداتُه وحروبُه ومشكلاتُه بنداً ثابتاً في نشرات الأخبار في فضائيات الدنيا وإذاعاتها ووكالات أنبائها وصحافتها، وبات وِجهة لكل طامع يسعى لتحقيق أجندة أو يبحث عن دور «أممي» يلمِّعه في المحافل الدولية.. إذا كنا قد كتبنا عن ذلك فإنا سنحاول اليوم تلمُّس بعض الوسائل التي يمكن أن تسهم في معالجة الأزمة الحالية.
أبدأ بالقول إن أول ما ينبغي فعله هو توحيد منابر التفاوض تحت إدارة واحدة ذلك أن جميع المشكلات متداخلة، فأزمة دارفور التي يديرها د. غازي ود. أمين حسن عمر مثلاً لا يمكن فصلها عن القضايا المرتبطة بالاستفتاء حول تقرير مصير الجنوب بما في ذلك مشكلة أبيي، فكل تلك القضايا تُدار تحت رعاية أمريكية وبالتالي فإن قضية دارفور لن تتحرك قيد أنملة طالما أن أمريكا توظفها في خدمة أجندتها وإستراتيجياتها بمعنى أنها لن تُحسم لوحدها بمعزل عن القضايا الأخرى ولذلك فإن من الخطأ في رأيي أن نعمد إلى تفصيل إستراتيجية خاصة بأزمة دارفور بعيداً عن القضايا الأخرى الأمر الذي يقتضي أن نوحِّد جميع أزمات السودان ذات البُعد الخارجي ـ وأعني تحديداً قضايا الاستفتاء ومشكلة دارفور ـ تحت إدارة واحدة بحيث توضع لها إستراتيجية واحدة بدلاً من الإستراتيجيات المعزولة بعضها عن بعض.
لتوضيح رأيي بشكل أفضل أقول إن أزمة دارفور باتت متداخلة مع مشكلة الجنوب كما أن الحركة تتخذها من قديم ـ منذ أيام «قرنق وبولاد» ـ ورقة ضغط لتحقيق أجندتها لإقامة مشروع السودان الجديد أما اليوم فعلاوة على إقامة المشروع المذكور فإنها تُستخدم للحصول على تنازلات كما أنها مرشحة للتفجير قبل وبعد وبالتزامن مع إجراء تقرير المصير، ومعلوم أن هناك تنسيقاً يجري بين الحركات الدارفورية المتمردة والحركة الشعبية برعاية أمريكية بل إن «حركة تحرير السودان» بشقيها منبثقة أصلاً من «الحركة الشعبية لتحرير السودان» واسم الحركتين يشي بذلك، كما أن هدف تلك الحركة الدارفورية «عبدالواحد ومناوي» يتطابق مع هدف الحركة الشعبية ولا أحتاج إلى أن أُذكِّر بذلك اللقاء الذي عُقد في واشنطن بين أركو مناوي وباقان تحت رعاية جيندي فريزر مساعدة وزيرة الخارجية السابقة للشؤون الإفريقية وراعية مشروع السودان الجديد أيام الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش وذلك بعد توقيع مناوي لاتفاق أبوجا وقبل عودته للسودان ودخوله القصر الجمهوري كبيراً لمساعدي رئيس الجمهورية، بل إن حركة خليل إبراهيم «العدل والمساواة» بالرغم من عدم طرحها للعلمانية كونها قريبة من المؤتمر الشعبي ـ باتت تنسق مع الحركة الشعبية خاصة وأن هناك تفاهماً كبيراً بين الحركة والمؤتمر الشعبي في إطار تجمُّع جوبا.
لذلك كله فإن إستراتيجية دارفور لن تنجح في رأيي ما لم تصبح جزءاً من إستراتيجية متكاملة مع القضايا الأخرى وتحت إدارة واحدة أقترح لرئاستها د. غازي صلاح الدين بحيث يُعاد تشكيلها بما يبعد الحمائم ويأتي بصقور لا يقلون شراسة عن الشيطان باقان ولا بأس من د. أمين حسن عمر الذي أعلم أنه صقر باز لولا تأثره أحياناً ورضوخه لبعض الحمائم من أصحابه المنبطحين كما يمكن أن يُعهد بالملف الموحَّد لنافع وغازي كليهما فما من قضية تُمسك بتلابيب البلاد حاضراً ومستقبلاً مثل القضايا التي نحن بصددها الآن والتي تُعتبر الأخطر وتحدث خلال أخطر أيام في تاريخ السودان الحديث.
حذارِ من الانبطاح الذي أوشك أن يوردنا موارد الهلاك ويجب أن «نتحزّم ونتلزّم» فيما تبقى من أيام حتى تاريخ الاستفتاء ولكم أعجبتني عبارات قليلة اختزل فيها الأديب الشاعر علي يس مداده في عموده اليومي بصحيفة «الإنتباهة» فقد قال الرجل مُتسائلاً: «هل يتصور عاقل أن مصير صدام حسين والعراق كان سوف يكون أسوأ مما كان لو أنه كان قد صمد منذ البداية ورفض دخول المفتشين أو أمر بقطع أعناقهم فور دخولهم إلى العراق»؟! علي يس أراد أن يقول إن «انبطاح» صدام في أيامه الأخيرة بالرغم من رجولته التي لا يختلف فيها اثنان لم تُنجِهِ من كيد من لا يحترمون الضعفاء ولم «تُحنِّن» عليه من لا أخلاق لهم ولا قيم تردعهم عن استخدام كل أساليب الشيطان في تحقيق أجندتهم الشريرة، كما أراد علي يس أن يحذِّر من مصير صدام الذي قطعنا شوطاً بعيداً في الاقتراب منه.
أود أن أسأل ماذا سيحدث للحكومة إذا طردت جون كيري وغرايشون وقالت لهما إن من يُجدد العقوبات بعد أيام قليلة من الوعود السراب بالرغم من كل ما بذلناه ليس جديراً بأن يقوم بدور الوسيط في قضايانا؟! بربكم ممّ تخاف الحكومة بعد أن جُدِّدت العقوبات التي لم تُرفع في يوم من الأيام؟! قيل للقرد: «إننا سنسخطك فقال متسائلاً: هل ستقلبوني غزال»؟! لقد جرَّبت الحكومة الانبطاح أمام أمريكا فلماذا لا تجرب الشدة عن طريق إنهاء الدور الأمريكي وطرد غرايشون؟! لماذا تختار الحكومة أسلوب محمود عباس أبو مازن بالرغم من أنها معجبة بصمود حماس وخالد مشعل؟!
بيد الحكومة كروت ضغط كثيرة تستطيع أن تُبرزها في وجه أمريكا والحركة الشعبية أهمها أن الرئيس البشير يستند إلى قاعدة جماهيرية عريضة من المؤيدين الذين أعلم يقيناً أنهم محبطون اليوم من المواقف الضعيفة والمهينة أمام الحركة الشعبية وأمريكا وصويحباتها.. إن البشير أكثر من يفهم حقيقة وطبيعة هذا الشعب الذي خرج في تظاهرة عفوية لم ترتب البتة لأنه شعر بالإهانة التي لحقت به في شخص رئيسه... إن ما حصل عليه البشير من تأييد خلال الانتخابات الماضية لم يحصل عليه أوباما وغيره من زعماء الغرب المتآمر على السودان اليوم.
يستطيع الرئيس أن يخاطب الجمهور بخطاب متلفز تُدعى له القنوات المحلية والعالمية والإذاعات ليحدِّثهم عن أمريكا وما فعلته وما تريده للسودان الشمالي وهو رجل يجيد الحديث وأن يطرح عليهم قرار الحكومة بطرد المبعوثين الأمريكيين والأوروبيين وسيجد من التأييد ما لم يجده أيام صدور قرار محكمة الظلم الدولية وسيلتف حوله الشعب وينصبه بطلاً قومياً للسودان الشمالي.
آن الأوان لتغيير خطابنا إلى شعب السودان الشمالي بعد أن انفصل الجنوب ولنا في الفريق أول سلفا كير عظة وعبرة، فالرجل لم يتحدث في يوم من الأيام باسم شعب السودان بالرغم من أنه النائب الأول لرئيس الجمهورية بل كان يتعامل مع شعب السودان الشمالي على أساس أنه شعب آخر مستعمِر، كما أن الرئيس البشير يعلم أنه لم يعد رئيساً للجنوب المنفصل الذي تحكمه الحركة الشعبية ويرأسه سلفا كير، ولذلك فإن عليه أن يتعامل مع هذه الحقيقة ويخاطب شعبه وينبِّهه إلى الأخطار التي تواجهه والكيد الدولي الذي يستهدفه وسيرى من شعبه الوفي ما يسُرُّه.