قصة الخرطوم .. مدينة أسسها الأتراك وطورها البريطانيون

 


 

 

 

 

تحكي السطور التالية قصة مدينة الخرطوم، نشر الكاتب الجزء الأول من مقاله في العدد رقم 18 من مجلة السودان في رسائل ومدونات، ونشر الجزء الثاني منه في العدد رقم 19 من المجلة نفسها، والمقال يحكي قصة مدينة واحدة لا مدينتين ولا ثلاث، فجل اهتمام كاتب المقال الانجليزي سي إي جيه ووكلي؛ قد تمركز على الخرطوم فقط؛ ولم يتحدث فيه عن ام درمان ولا عن الخرطوم بحري إلا لماماً.
هذه الترجمة تناولت جزءاً مما نشره في العدد رقم 19، وقد ركزت على النصف الثاني منه والخاص بقصة عمران الخرطوم، مبتدئة بلحظات رفع العلمين البريطاني والمصري على ساريتيهما في يوم 4/9/1898م واللتان نصبتا على جدران قصر غردون المتهدمة، أي بعد يومين من معركة كرري في الثاني من سبتمبر عام 1898م، والكاتب الانجليزي يقدم بلا شك وجهة النظر البريطانية للأحداث، والترجمة لا تعني بالطبع تبني المترجم لوجهة النظر هذه.
في نهاية الترجمة سيجد القارئ الكريم بعض الشروح والملاحظات لما ورد في الجزء المترجم من المقال، أما الملاحظات العاجلة التي لا تحتمل الانتظار وقد تضيع فائدتها بسبب تأخيرها، فقد اوردناها بين قوسين مزدوجين للإشارة لكونها ليست من النص الأصلي وانما من شرح المترجم. فالي ترجمة المقال:
ساريتان نصبتا اعلى جدار القصر ((سراي غردون))، وقف السردار ((كتشنر)) بمواجهتهما ومعه ضباطه ورجال آخرون خلفه، وهناك امامه؛ وعلى بعد خطوات منه انتصب اربعة قساوسة من كنائس مختلفة وكل واحد منهم يمثل كنيسته: وهي كنيسة انجلترا، والكنيسة الاصلاحية الميثودية والكنيسة المشيخية، والكنيسة الرومانية الكاثولكية.
كان السردار اول الواصلين، ومشى نحو المبني ذو النوافذ المقفلة بالطوب؛ والتي أمر غردون بالبناء عليها لحماية من في داخل المبنى من طلقات البنادق القادمة من جزيرة توتي، وقد ظهرت الكثير من الندوب والثقوب لطلقات نيران الدروايش وقذائفهم على الجدران.
في العاشرة صباحاً وبإشارة من السردار عزفت الفرقة البريطانية مقاطع من نشيد (فليحفظ الله الملكة)(1)، وحينئذ رُفع علم المملكة المتحدة فوقف الجميع لتحيته، ثم عُزف السلام القومي المصري بواسطة فرقة مصرية(2)، ورُفع العلم المصري فوق السارية الأخرى، هتف الحاضرون باسم الملكة ثلاث مرات ثم ثلاث أُخر باسم الخديوي، وفي هذه الاثناء كانت مدافع الباخرة (ملك) تقوم بأداء التحية مطلقة القذائف، وعندما اخذ دويها يتلاشى بدأت الفرقة البريطانية في عزف (اللحن الجنائزي من شاول)(3)، وقد وقف كل الحضور حاسري الرؤوس، واعقب ذلك عزف لحن جنائزي آخر من الفرقة المصرية وصاحب ذلك صرخات باكية من الحضور المحليين.
سالت دموع الملحقين الايطالي والالماني عند هذا المشهد ومعهما سال دمع عدد ليس بالقليل من الحضور الاخرين، تلا ذلك تقديم الصلوات وعزف مناحة بموسيقى القرب برفقة ايقاع طبول مكتومة، وانتهى القداس بأداء لحن صلاة الشكر المفضل لدى غردون.
عندما دخلت القوات البريطانية – المصرية الخرطوم كانت المدينة في حالة يرثي لها، فقد استحال كل شيء الى حطام، فلا يوجد منزل واحد قد سلم من التلف، إذ تم انتزاع كل قطعة خشب من المنازل، وهدمت الجدران لتسهيل مهمة خلع قوائم الابواب والاعتاب واطارات النوافذ.
هنا وهناك كان القادمون الجدد تصيبهم الصدمة وهم يشاهدون هياكل عظمية ظلت بنفس الوضع الذي قتل عليه اصحابها صبيحة ذلك اليوم المروع ((26/1/1885)). اما اشجار النخيل وبساتين الفاكهة على طول النيل الازرق فقد ظلت كما هي، وفي هذه البساتين بقي بعض العاملين من الذين كانت مهمتهم امداد بيت الخليفة وامرائه بالفاكهة والمنتجات البستانية الأخرى، حيث أن آخر من بقي من سكان المدينة كان قد تسلل منها وغادرها عند اقتراب القوة المكلفة بإنقاذ غردون.
بقايا الشارع الرئيسي المتعرج الذي يشق المدينة ممتداً من الشرق للغرب كانت تبدو للعيان، ومن هذا الشارع يمكن تتبع ما كان موجوداً من قبل من مبانٍ رئيسية. اما الشارع المحاذي لضفة النهر فلم يبق منه اثر إلا بعض المراسي المتباعدة والتي بقي واحد منها إلى الغرب من القصر.
نٌقل كل ما يمكن حمله من مواد القصر إلى ام درمان، وبدا شكل ما تبقي من القصر كمبني اتت عليه النيران. الطابق العلوي الذي كان موجوداً على الجانب الشمالي من القصر تم هدمه من اجل الحجارة والطوب، وقد تكومت الأنقاض امام الجدران وكانت بارتفاع النوافذ. ورغم ان كل الأجزاء الخشبية والاسقف قد اختفت إلا أنه يمكن التعرف على الصالات والغرف وكذلك على السلم الذي سقط غردون عنده، وفي هذا المكان وٌضع الآن لوح نحاسي بغرض تحديده. اما حوض الاسماك البيضاوي والنافورة في المربع الجنوبي فقد بقيا كما كانا رغم انه قد جرى تفكيكهما بواسطة الدروايش ((الأنصار))، وبقيت ايضا اشجار الفاكهة وشجرة الورد الخاصة بغردون، وبقيت ايضا شجرة او اثنتين من الاشجار المجلوبة من الخارج والتي كانت يوماً ما علامات بارزة في حديقة قصر مهيب، وتمثل هذه الحديقة القديمة؛ وقد كانت بمساحة فدانين؛ تمثل الآن جزءا صغيراً من الحديقة الحالية.
مجموعة من المنازل المنهارة كانت موجودة في مكان الحديقة القائمة الآن في الجانب الشمالي لمكاتب الحكومة، وكانت هناك قلعة للدراويش ذات جدران سميكة يوجد في مكانها الآن منزل الحاكم ووزارة الحرب، وفي اعلى النهر ((باتجاه الشرق)) كانت هناك مخازن الغلال وفي محلها الآن اسطبلات القصر، وفي اقصى الشرق كانت الورشة ولا يمكن الوصول اليها إلا عبر ممر ضيق جداً وقذر، وتحتل مباني مصلحة الأشغال العامة الحالية موقع مخازن سلاح الاسلحة، ومخازن الحربية والمخازن العامة، أما المخزن الباقي فيقع الى الجنوب من مباني مصلحة البيطرة وهو مخزن ومصنع الذخيرة.
يحتل رصيف اصلاح البواخر الحكومية القديم موقعاً في منطقة المقرن، وكانت تقع بالقرب منه قلعة للدراويش ظلت باقية في مكانها الي قبل عدة سنوات من الان، وازيلت ضمن التحسينات المصاحبة لقيام كوبرى النيل الابيض، وقد اختفى الرصيف بفعل تآكل ضفة النهر، ولم يتبق منه شيء يُذكِّر به الا ذرية عمال الرصيف القديم من سكان حلة منقرة في المقرن.
القبتان والضريح على الجانب الشرقي من شارع فكتوريا ((شارع القصر)) والواقعتان على شارع عباس ((شارع البرلمان)) بقيتا سالمتان، وتضمان رفات اثنين ممن شغلوا منصب حاكم عام السودان؛ وهما محمد باشا ابو ودان ((صحة الاسم احمد باشا ابو ودان)) (1839-1844)، وموسى باشا حمدي (1863-1865)، وتحيط بالقبتين قبور كبار الموظفين والضباط.
كان محمد باشا ابو ودان قد جرى استدعاؤه للقاهرة ولكنه رفض الذهاب (4)، وأُرسلت بعثة لاعتقاله واحضاره ولكن لم يكتب لمهمتهم النجاح بسبب وفاته المفاجئة بالحمى؛ والتي زاد من حدتها كما يقال سم وضعته له زوجته، والتي سرعان ما اقامت له ذلك الضريح. اما موسى باشا حمدي فقد مات بالجدري وكذا زوجته.
هنا وهناك ترقد كتل من العظام والجماجم تشير الي الاماكن التي حدثت فيها مذابح ضارية ((عند سقوط الخرطوم))، وحينما بدئ في شق شارع فكتوريا ((شارع القصر)) عام 1901م؛ وكان ذلك عبر كتل من المخلفات يبلغ ارتفاعها اربعة اقدام؛ عُثر على العديد من الهياكل العظمية، وكلها لأشخاص كانوا يركضون هاربين على ما يبدو باتجاه القصر؛ أو باتجاه ضفة النهر حينما بوغتوا وقتلوا.
التحصينات القديمة ((التي اقامها غردون)) لا تزال موجودة كما كانت لحد ما، ورغم ان الخندق الخارجي قد رُدم، ولم يتبق شيء من بوابة بري، لكن منظر بوابة الكلاكلة ((مكانها الآن موقع كبرى الحرية)) يمكن رؤيته من ناحية شارع جبل اولياء، وقد فتح هذا الشارع عبر اعمال التسويات والردم الترابية، اما تقاطع خط السكة الحديدية مع الطريق شرق محطة الخرطوم المركزية فلا يزال يسمى من قبل الاهالي ب (باب المسلمية).
بعض اجزاء المدينة لا تزال محتفظة بأسمائها القديمة وعلى سبيل المثال فالحي الذي يقع جنوب المديرية الحالية لا يزال اسمه حي سلامة الباشا، أما منزل الحاكم وحديقته فيقعان في حي جنينة الفيل، وقد حدث في السابق ان استجلبت ستة او سبعة افيال من الهند ونقلت من سواكن للخرطوم عن طريق بربر؛ وقد كان هدف السير صموئيل بيكر ((صاحب فكرة استجلابها)) هو استخدامها في ترويض واستئناس افيال جنوب السودان، وقد غادرت الافيال الخرطوم ووصلت الى الكوة وكان هذا آخر عهد الناس بها ولم يسمع بها احد بعد ذلك.
بعد اعادة الاحتلال وضعت الباخرة (بوردين) في الخدمة مرة اخرى، وكانت قد حملت على متنها في شتاء عام 1898 أحد علماء الآثار ونقلته من عطبرة باتجاه الجنوب، وكان هذا الآثاري قد دعته الحكومة لزيارة مروي. لم يكن مظهر الباخرة جيداً، فقد تم ازالة سطحها وغرفها، أما الاجزاء الخشبية فقد استخدمها الدراويش لتغذية نيران غلايتها، وكل ما تبقى منها هي عوارض السطح الحديدي، وجسر حديدي ضيق خلف الغلاية والمنصات الحديدية الصغيرة في كل طرف. بينما تعرضت المدخنة للعديد من الثقوب بفعل الطلقات النارية ولم يبق منها بشكل مناسب الا بضع بوصات، وكان من النادر رؤية أي طلاء عليها. وقد تعرض هيكل الباخرة للترقيع في عشرات الاماكن، وتعرض غطاء صندوق مروحة تحريك السفينة للكثير من التلف والنتوءات، ولا تجد عوامتين بنفس الحجم أو الشكل او الطول او السمك، وقد انثني الاطار الحديدي وتحول لأشكال غريبة. ومع ذلك فقد كان المحرك يعمل رغم ان عمود الكرنك اصيب بضربة ويدور حول رمان بلي متآكل بصورة سيئة، وتحتاج البساتم لصوف.
رغم هذا كله ظلت هذه الباخرة تواصل ابحارها ضد التيار بمعدل ميل ونصف في الساعة. أما الواح الغلاية فقد رَقَّت واصبح سمكها ضعيفا بدرجة لا تصدق، والأنابيب كلها تعاني من التسريب، والاكثر دهشة هو عدم وجود صمام أمان، فاصبح على المهندس كلما شعر بأن كمية البخار ربما كانت أكثر من اللازم؛ ان يقوم يفتح السدادة النازلة من فوق الغلاية وإخراج ما يعتقد انه كمية زائدة من البخار؛ ثم يعود بعد ذلك لتغذية نيران الغلاية من جديد.
التروس الحالية لضفة النهر بنيت أبعد قليلا عن القديمة ويوجد امتداد صغير لجدار النهر طوله حوالي مائتي ياردة امام القصر. قبل ثلاثين عاماً كان من الممكن تتبع اثار هذه الجدران على سطح الارض التي يمر بها طريق التروس الجديدة.
تحتل مكاتب المديرية ومصلحة الري المصري الان المكان الذي كانت فيه من قبل البعثة النمساوية القديمة وكانت لها حديقة في الجزء الشمالي، وبها طريقين مشجرين بأشجار النخيل على شكل صليب منحدر نحو النهر. بنيت المديرية على الاساسات القديمة لمبنى البعثة النمساوية، وكذلك الجرس المتصدع الذي كان يستخدم لعدة سنوات لجمع عمال مصلحة الاشغال العامة فقد حفر اساسه ايضاً عند موقع مبنى البعثة.
اعادة تعمير المدينة كانت تبدو للوهلة الاولى مهمة شبه مستحيلة، وقد ابدى اللورد كتشنر اهتماماً ملحوظاً بخطة العمل التي تنص على تخطيط المدينة على شكل علم المملكة المتحدة وبصورة مكررة، وهذا التخطيط كان مناسباً وبصورة مميزة لخدمة الاغراض الدفاعية، وفي الوقت الحالي فان معظم الشوارع القُطرية ((كما في العلم)) تم شقها.
من الطبيعي ان يكون اول مبنى تكون بداية الاعمال به هو القصر، وقد استخدمت مواد الطابق الارضي في قصر غردون القديم كلما امكن ذلك لتشكل طبقة الاساسات، وقد جرت اعمال الإنشاء للقصر الجديد على يد حرفيين من الجنود ومعهم مجموعات من العمال المحليين.
كان القصر الجديد جاهزاً جزئياً للسكن فيه بنهاية عام 1899م، وأول من استقر فيه هو الجنرال السير جون ماكسويل (5) والذي اصبح لاحقاً القائم بأعمال الحاكم العام ومعه زوجته الليدي ماكسويل.
جيء بشتلات اشجار اللبخ والتي كانت قد زرعت في وادي حلفا قبل عدة سنوات بغرض البدء في زراعة اول الشوارع المشجرة، وتم نقلها بالقطار، وكان اللورد كتشنر قد زرع آلافاً من شتلات الجميز في حديقة القصر بغرض استخدامها في الشوارع، ولكن لم يكتب الحياة إلا لواحدة منها سميت بشجرة كتشنر، إذ تكفل النمل الابيض بالقضاء عليها.
وبينما كان بناء القصر على وشك الانتهاء بدئ في بناء مكاتب الحكومة ووضع حجر الاساس لعدة مباني أخرى ومن ضمنها كلية غردون.
اول منزل اكتمل تشييده كان منزلا أٌقيم مؤقتاً على مقدمة النهر وقد شُيَّد لإقامة مراقب المخازن وموضعه الآن هو نادي السودان، وأُزيل بمجرد اكتمال المنزل الدائم، اكتمل بناء منزل الحاكم في عام 1900، واكتملت مكاتب الحكومة في بداية عام 1901 فنقلت المصالح الحكومية من ام درمان، إذ ظل موظفو الحكومة يسكنون في ام درمان الى عام 1904، وكانوا يعبرون النهر يومياً الى الخرطوم بالمعدية، والتي تعبر بهم من البوابة الجنوبية الى مبنى البريد (الآن مبنى وزارة الحربية).
في عام 1900 وٌضع حجر الاساس للمسجد ((الكبير)) وكان اول مبنيين من المقرر بناؤهما هما بنك مصر (الآن مقر بنك باركليز دي سي او)، ويعقبه مبنى البنك الاهلى المصري، وقد نشطت البعثة الامريكية بعد عدة اشهر من الاحتلال، وبعدها باشرت البعثة النمساوية نشاطها في موقع إدارتها السابق. واصبح النعام يرعى في مكان حديقتها السابق.
في عام 1900 طلب اتحاد مكون من عدة شركات لندنية من كتشنر منحه حقوق التنقيب عن الذهب في منطقة بني شنقول، وقد وافق كتشنر على الطلب شريطة قيام ذلك الاتحاد بتشييد فندق في الخرطوم وصيانته، وعلى هذا الاساس برز الفندق الكبير لحيز الوجود في عام 1902م، وقبل سنتين من ذلك كان فندق فكتوريا بالقرب من النيل الازرق في الطرف الغربي من المدينة قد افتتح، والفندق مكون من عدة منازل ذات طابق واحد بجوار فضاء مفتوح نُصبت فيه خيام عمال الخدمة في الفندق.
في هذه الاثناء كان بعض الناس في ام درمان لا يزالون يتقدمون بطلبات للترخيص لهم بالحفر لاستخراج كنوزهم المطمورة؛ والتي دفنوها في الخرطوم قبل سقوط المدينة.
في حوالي عام 1901 تحولت المدينة الى (كمينة) طوب ضخمة، حيث كانت صناعة الطوب تُقام في أي مكان فيه قطعة من الارض مستوية وسرعان ما يجري تنظيفها واعدادها للعمل، وتقام الكمينة عادة بالقرب من الموقع الذي سيقام فيه البناء الجديد؛ مع تجاهل تام لمسالة اغلاق الطرق؛ او الضرر الذي سيتحمله أصحاب المساكن المؤقتة الذين شاء حظهم ان يكونوا تحت الرياح ((والدخان)).
السكان غير المحليين ابدوا في بداية الامر عدم رغبة في استخدام أي مادة للبناء عدا الطوب الاخضر ((غير المحروق))، ولكن بعد عدة مواسم من الامطار العنيفة وما خلفته من دمار؛ ادركوا اخيراً ان المنازل الدائمة بالرغم من بطء عملية بنائها أطول عمراً.
شهد العام 1902 زيادة مضطردة في عدد السكان، فقد وفدت اعداد كبيرة من الاغريق، ومع ذلك لم يكن منظر المدينة مع نهاية العام مشجعاً.
قام الجنود بتشييد الثكنات ((البركس)) في خط يسير مع التحصينات القديمة، وكانت المباني الحكومية المكتملة آنذاك تشمل القصر ومكاتب الحكومة، وثكنات البريطانيين، ومصنع الثلج، وحوالي ستة منازل لكبار الموظفين، أما الاغلبية من السكان المحليين فقد اقاموا (رواكيب) تتكئ على الجدران المتهدمة وتستند على الاركان القديمة.
كانت حركة عمران المنازل قد بدأت ولكن القليل منها اكتمل، وقد جعل شح مواد البناء ونقص الايدي العاملة المحترفة مهمة اعادة بناء المدينة ترتدي ثياب الامل المتضائل.
اربعة شوارع رئيسية من الشرق للغرب بدات تظهر جزئيا وهي شارع النهر وهو الان شارع كتنشر، ((شارع النيل))، اما شارع كتشنر السابق، فقد اعيدت تسميته ليكون شارع غردون ((شارع الجامعة))، وظهر شارع كرومر (الان شارع السردار) ((حاليا شارع الجمهورية))، وظهر شارع عباس والذي احتفظ باسمه ((حاليا شارع البلدية))، وقد تمددت المدينة جنوبا ووصلت إلى موقع المسجد الحالي ((المسجد الكبير)).
في عام 1903 كان سوق الاهالي والذي كان مقره السابق هو ساحة المسجد الكبير قد تم ترحيله ليكون في موقعه الحالي ((السوق العربي))، وفي السنة التالية أخذت الخرطوم وبكل تأكيد تتخذ شكل مدينة، كانت الشوارع قد تم تسويتها وتنظيفها من المخلفات، وظهر طريق مرصوف من القصر الى الفندق، ووصل للمدينة تمثال غردون بعد ان بقي لفترة مؤقتة بين ضفاف نهري التيمز والنيل.
المديرية والمستشفي العسكري ( الآن مستشفى النهر) ومصلحة الاشغال أخذت تعمل الآن وتم تشييد المزيد من المباني، وفي هذه السنة وصلت اعداد كبيرة ومتزايدة من الزوار للعاصمة، وكان المستر انجلو كاباتو والاخوة لويزو من رواد التعمير في المدينة، وقاموا ببناء محلات مبهرة وحذا القاطنون الاوربيون حذوهم في بناء المحلات والمكاتب والمنازل.
في الجزء الجنوبي من المدينة جرى تحويل الركام بسرعة الى طوب وباستثناء ركام المسجد القديم والذي لا يزال موجوداً؛ وركام السجن؛ فلا يوجد أي اثر ملحوظ لمدينة الخرطوم القديمة إلا عند اطرافها.
قبل العام 1904 كانت مهام شرطة المدينة يقوم بها الجنود المصريون، لكن ذلك العام شهد بداية انشاء شرطة مدنية.
صحيفة نصف شهرية (توقفت منذ عدة سنوات) اخذت في الصدور، وبدأت الركشة اليابانية(6) تجوب الشوارع، واكتمل بناء المسجد، واصبح من الصعب الآن أن تجد ولو منزلاً واحداً خالياً في المدينة. وشهد الشتاء قدوم فوج به 480 فردا من السياح. وشهد هذا العام ايضاً قفزة هائلة في اسعار الاراضي فقطعة الأرض التي كانت تتداولها الايدي في عام 1902 بواقع مليمين للمتر المربع؛ ارتفع سعرها ليصبح 200 مليماً، ثم قفزت في السنة التي تليها لتكون 1200 مليم، ثم قفزت بعد اثني عشر شهراً لتكون 2500 مليم.
زاد عدد السكان في عام 1905 بخمسة آلاف نسمة، وصحب ذلك نشاط ملحوظ في البناء وتخطيط المدينة من جانب الحكومة. وقد اسُتجلبت عشرة آلاف شجرة وزُرعت في المدينة، واكتمل بناء السجن المركزي، وتم تعبيد شارع الخديوي واكتمل بصورة جزئية شارع السردار؛ وتم افتتاح خط الترام البخاري بين ام درمان والخرطوم، كما بدأت في نفس السنة اعمال المياه والاضاءة الكهربائية.
في نهاية عام 1900 كان هناك 300 مصباح زيتي قد تم وضعها في الشوارع، وكانت لا تعطي اضاءة جيدة؛ ولكنها مع ذلك كانت تساهم في التقليل من حدة الظلام خاصة في الليالي التي يغيب فيها القمر؛ واستمر ذلك الى عام 1906، وقد كانت الشوارع في تلك الفترة مليئة بالمزالق والحفر والفخاخ، وكان السير فيها لا يخلو من خطورة.
ادى انشاء نظام المياه في عام 1906 الى التخلص من الطريقة القديمة في توزيع المياه والتي تقوم على قرب المياه المحملة على ظهور الحمير، وكانت الآبار في منتشرة في المدينة كلها وقد كان موجوداً منها في عام 1908 اكثر من ثمانمائة بئر.
أنشئ الجدار الجديد المواجه للنهر خارج القصر بغرض حماية الاساسات التي كانت خارج الجدار القديم، وقد امتد هذا الجدار الجديد ووصل الى مبنى مصلحة الاشغال العامة في عام 1904، ثم بعد سنتين وصل الى مرسى المعدية القديم بجوار النادي السوداني، وفي عام 1907 وصل الى الموقع الحالي للقيادة العامة لقوة دفاع السودان. وهذه المعدية كانت تنقل الركاب من محطة السكة الحديدية في الخرطوم بحرى؛ وقد اصبح الآن مبناها القديم تابعاً لمصلحة المخازن.
في عام 1907 بوشر بمشروع حماية ضفة النهر في المقرن وقد تقرر أن العمل يجب ان ينتهي بينما يكون النهر منخفضا؛ وبكلفة قدرها اربعين الف جنيه استرليني. هذا الجزء هو الان رصيف المقرن وهو اكثر عمقاً وثقلاً عن الاجزاء الباقية؛ وهذا بسبب التشققات التي حدثت في العمل الاول.
على الارض المنخفضة الى الغرب من المدينة وُضعت اساسات المتحف والهيئة الاقتصادية والتي عرفت فيما بعد بأساسات قاعة المدينة، وكان تصميم هذه القاعة قد تم عرضه في عام 1906 في الاكاديمية الملكية بواسطة المهندس او بي هاتشارد (7).
تلا ذلك مواصلة البناء على اساسات مكاتب شركة النور والطاقة، وبدأ العمل في المستشفى المدني، هذا المستشفى كان مقره في عام 1901 منزلاً مستأجراً قرب المسجد القديم، وفيه تولت الآنسة باي مور اول ممرضة بريطانية مهام عملها في عام 1907، وتم الانتقال للمبنى المستشفى الجديد في عام 1909م وهو العام نفسه الذي تم فيه تكريس الكنيسة القبطية وقيامها بمباشرة اعمالها (8).
وشهدت تلك السنة امطاراً كثيفة تضرر على اثرها خط السكة الحديدية في الشمال وظل معطلاً لحوالي ثلاثة شهور.
شهد العام 1908 افتتاح بعض المحاكم ومباني مصلحة الري المصري؛ وكان هذا العام مأساوياً بالنسبة القاطنين الاوربيين والذين استثمروا كل مدخراتهم بصورة غير حكيمة في الاراضي الزراعية، فقد تدهورت اسعار الاراضي الزراعية فجأة، وبين عشية وضحاها وجد الأوربيون انفسهم أسوأ حالاً من الناحية المالية من السكان المحليين.
كان خط السكة الحديدة قد وصل الخرطوم بحري في عام 1900، ولكن بناء كوبري النيل الازرق لم يبدأ إلا بعد مرور ثمان سنوات من ذلك التاريخ (9)، وفي السنة نفسها ((أي عام 1900)) باشرت معدية تعمل بين بين محطة السكة الحديدة في بحري والعاصمة عملها، وقد افتتح كوبري النيل الازرق ومحطة الخرطوم في عام 1910 وبدا مد خط الترام البخاري للخرطوم بحري، اكتمل شارع الترس، وبدأت الكنيسة الارثوذكسية اليونانية في العمل، ووفد الى العاصمة اكثر من تسعمائة زائر معظمهم سياح.
لعدة سنوات بعد الاحتلال كانت الطقوس الكنسية تقام في غرفة في القصر؛ وفي عام 1912 وفي ذكرى مقتل غردون تم افتتاح الكاتدرائية الانجيلكانية، واضيف إليها البرج في عام 1913؛ وقد خُصص احد الشبابيك من ذوات الإطار المقوس وموقعه في شرق المبنى لإحياء ذكرى فيليب ديكون (10)، فوضعت عليه لوحة من الزجاج الملون المزخرف ((تمثل التعميد))، وكان فيليب هذا قد عَمَّد حارس كنوز ملكة مروي الكنداكة مما ادى لدخول المسيحية للسودان.
خصصت غرفة صلاة باسم غردون وفيها علقت سجادة صلاته، ووضعت قطعة ذهبية مضفورة من زيه الرسمي على واحدة من اغطية طاولات تقديم النذور.
الاب اوهروالدر(11) والذي استقر بالخرطوم عند الاحتلال توفي في عام 1913، ولو عاش خمسة شهور اخرى لرأى ادلة مدهشة عن تطور الاحداث، إلا هي وصول اول طائرة للخرطوم. وصلت هذه الآلة الصغيرة والتي كانت تبدو غير ملائمة للرحلة في يوم12/1/1914م وقائدها كان فرنسياً يدعى بورب، وقد طار بطائرته من ابو حمد للخرطوم قاطعاً مسافة 340 ميلا دون توقف؛ وهو انجاز مميز في ذلك الوقت، كما وصل رجل انجليزي يدعى ماكلين بعد شهرين من ذلك بأول طائرة برمائية.
نُصب تمثال كتشنر على الجانب الشمالي من مباني الحكومة في عام 1923، وكان هذا التمثال نسخة مطابقة لتمثال كتشنر التذكاري المنصوب في كالكوتا بالهند، واسم الحصان الذي يمتطي كتشنر صهوته (ديمقراط)، وكان هذا الحصان من خيول السباق المشهورة في ذلك الوقت، وأُخرج من السباقات وعمره ثلاث سنوات واصبح حصان اللورد كتشنر في الهند لمدة ست سنوات، وعندما فحص اللورد كتشنر النموذج الاصلي للتمثال في لندن، لم يعجبه شكل الحصان المقترح وقال بانه يريد ان يكون حصانه في التمثال مثل ديمقراط.
وفي عام 1924 تم افتتاح مدرسة كتشنر الطبية التذكارية.
في شارع غردون ومقابل ميادين التنس التابعة لنادي السودان، يوجد ضريح لا يُعرف عنه الا القليل، هذا الضريح للشيخ فايد (12) والذي اتي في الاصل من قليوب بمصر، وإلى العام 1907 كانت هناك شجرة ضخمة في الجانب الآخر من الشارع في الموقع الذي يحتله الآن حي العزاب والمسمى اللؤلؤة الصفراء، وكان للشيخ فايد قبل سقوط الخرطوم كوخ ومدرسة وغرفة ضيوف تحت هذه الشجرة، وشهرته كرجل تقي كانت عريضة، ومع ان اعتقادات الرجل كانت تعتبر ضد المهدية؛ إلا أن المهدي وعندما تسللت حشود الدراويش الى المدينة؛ أمر بالإبقاء على حياته، ومع ذلك قتله الدراويش والقوا بجثته في بئر.
وقد افادت ابنته بالقصة التالية:
ظهر ابوها لثلاثة رجال في ام درمان وهم نيام واخبرهم بان جثمانه مطروح في بئر قرب منزله ولم يدفن؛ وان عليهم التوجه للخرطوم والصلاة عليه، تجرأ الرجال الثلاثة وذهبوا لهناك، وقد سبح احدهم في النهر بعد حلول الظلام والتقى ثلاثتهم حول البئر، وكل واحد منهم كان قادماً من اتجاه، وحدثت المفاجأة المذهلة للجميع عندما التقوا وكل واحد يعتقد إن الآخرين جواسيس عليه، وسرعان ما اكتشفوا انهم جاءوا للغرض نفسه، تفحصوا البئر فوجدوا جثامين اخرى بداخلها، فقاموا بإهالة التراب عليها؛ وصلوا على هؤلاء الأموات ثم عادوا لام درمان.
كان موقع وجود البئر محل شك ولكنه اُثبت في عام 1913عندما تمت زراعة اشجار هناك، فقد كانت الشجرة حول الضريح لا تنمو لأكثر من ارتفاع معين، ويومها لم يكن هناك احد سمع بقصة ابنة الشيخ فايد، وقد اعتادت النساء على احضار نذر قد يكون خروفاً او من الماعز للضريح، والقيام بدعوة كل عابري السبيل لتناول الطعام، فيلبي الدعوة سائقو الحمير من الصبية الذين دأبوا على التجمع بأعداد كبيرة لحضور هذه المآدب.
وهناك ضريح آخر موقعه على الجانب الغربي من شارع فكتوريا قرب المسجد وهو ضريح فكيُ من المحس يدعى الشيخ الامام ود حامد، ولما كان ضريحه محاطاً بسلاسل حديدية فقد سمته العامة الفكي ابو جنزير.
المزار قرب البيطرة للشيخ محمود ابو شيبة وهو رجل تقي مشهور مات قبل المهدية ودفن في النوفلاب شمال ام درمان، وقد شيد المزار لتخليد ذكراه في المكان الذي رآه في حلم أحد اتباعه المخلصين، وكان هذا امراً مألوفاً ((الرؤية المنامية))، وامثال ذلك كثير وتسمى هذه المزارات في العربية (بيان) وتعني ظهور. وقد اُسندت معجزات كثيرة لهذا الشيخ في الاساطير المحلية، واعظمها هي العقاب الفوري الذي حل بشخص كتب له خطاباً مسيئاً وكان التدمير بالحريق بالنار لكاتب الخطاب ولعائلته وحصانه وممتلكاته(13)، ومن ضمن الطقوس التي تحدث حول المزار هي زيارة العرسان له قبل ذهابهم لزوجاتهم في ليلة الدخلة.

تعليق المترجم
الكاتب هو سي. أي. جيه. ووكلي، ولم نحصل إلا القليل من المعلومات عنه، وكان احد موظفي الإدارة الاستعمارية في السودان، ثم ضابط إحتياط في الحرب العالمية الثانية، برتبة نقيب، وتخلى عن هذه الرتبة في عام 1947، حين منح رتبة (رائد) بصورة شرفية، وعمل ووكلي دبلوماسياً في كينيا في منتصف الخمسينات.
وهذا الجزء الذي ترجمناه من مقاله يشكل الصفحات الأخيرة من مقال طويل تتبع فيه الكاتب تاريخ الخرطوم عبر العصور، وكان يتوسع او يختصر في السرد حسب المادة المتوفرة لها حينها عن كل مرحلة.
نرى في هذا المقال غلبة الروح الدينية والتي حرص الفاتحون على تسجيلها أما رمزاً أو فعلاً، ومنذ بدء رفع العلمين كان للقساوسة حضور بارز، فعلي مستوى الرمز تم تخصيص شباك للوحة فيليب ديكون وأحياء قصة تعميده الخصي النوبي وهذه اللوحة منسوخة من لوحة موجودة على شباك بكاتدرائية التجسد الواقعة في قاردن سيتي بنيويورك. ولوحة تعميد الخصي والتي اقتبست منها هذه الأعمال رسمها الفنان العالمي رامبرانت عام 1626. ويمكن الاستنتاج من قصة التعميد تأكيد الوجود القديم للخصيان في القصور الملكية للإمبراطوريات المختلفة عبر التاريخ، ومن ضمنها مملكة مروي، والقيام بإسناد مهام رفيعة لهم تصل في اهميتها درجة القيام بالسفارات باعتبارهم عنصراً موثوقاً به، رغم بشاعة عملية الخصي نفسها.
على مستوى الفعل حرص الفاتحون على تخطيط المدينة على شكل علم المملكة المتحدة والمكون من ثلاثة صلبان متداخلة تمثل انجلترا واسكتلندا وايرلندا، وكان البرنامج يقتضي تكرار هذا التخطيط وتعميمه على مستوى احياء العاصمة، أي أن العاصمة ستكون تجمعا مكرراً لهذه الصلبان.
يحاول كاتب المقال الايحاء بان البريطانيين قاموا بإنشاء الخرطوم انطلاقاً من النقطة صفر، وهذا ليس صحيحاً، فالمدينة كانت موجودة واكبر دليل على وجودها هو ان قصر غردون نفسه كان بها، وفي عام 1845 كان عدد سكان الخرطوم اكثر من ستين الف نسمة، ويتكون هذا العدد من المواطنين المحليين وجاليات مصرية ولبنانية وسورية ويونانية واوروبية، كلما في الأمر ان الدولة المهدية قررت ان ام درمان هي العاصمة المناسبة لها، ونظرت للخرطوم باعتبارها مدينة اقامها المعسكر اذي ثارت ضده، أما الدمار الذي حدث بعد سقوط الخرطوم في يد المهدي فقد طال مباني الحكومة والطبقة المرتبطة بها، بينما بقيت باقي اجزاء المدينة كما كان حالها في العهد التركي.

اسم الخرطوم
ركن ووكلي في تفسيره لاسم الخرطوم للآراء السائدة عن هذا الاسم، أما التفسير الجديد الذي قدمناه استناداً للغة المروية فيقول ان اسم الخرطوم مكون من عدة كلمات مروية ويعني (نقطة بداية الجزيرة الكبيرة)، ومن اراد المزيد فليرجع لمقالنا (اللغة المروية تقدم تفسيرا لاسمي الخرطوم وام درمان)، وهو موجود في عدة مواقع على الشبكة الاسفيرية.

الخرطوم في العهد التركي.
اختارها الاميرالاي عثمان جركس باشا البرنجي والذي حكم السودان في الفترة من 1823-1825 مكاناً لبناء الثكنات والقلاع، فقرر ابراهيم بن محمد على باشا الانتقال لها عوضاً عن ود مدني والتي لم يناسب مناخها الاتراك، ويُعد خورشيد باشا هو المؤسس الحقيقي للخرطوم الحالية وقد تولى الحكمدارية في الفترة من 1826-1838م، ويقال انه هو اول من ادخل في السودان صناعة بناء المنازل بالطوب، وهذا قول فيه نظر، فالشواهد كثيرة على معرفة سكان السودان البناء بالطوب ومنذ ازمان قديمة، ومن هذه الشواهد قصر سلطان سنار في عهد السلطنة الزرقاء و المكون من خمسة طوابق؛ والمئات من القباب على اضرحة الأولياء. لكن من الممكن ان يكون خورشيد قد يسر لسكان الخرطوم امدادات الطوب والمواد الأخرى اللازمة للبناء، وفي العهد التركي بنيت المباني الحكومية بالطوب الأحمر والمسجد الكبير، وكذلك القصر الذي قتل فيه غردون (سراي الحكومة). كما بنيت ثكنات الجنود في شرق الخرطوم، وبني معمل للبارود، ومخازن المؤن والمهمات، والترسانة الحربية وبها مسبك الحديد وورشة نجارة، كما اقيمت ورشة لإصلاح السفن النيلية، ومصنع للورق. وافتتحت في عهد عباس مدرسة.
كانت اهم احياء الخرطوم في العهد التركي كما اورد محمد ابراهيم ابو سليم، هي حي الحكمدارية، وبها الإدارات الحكومية ومساكن القادة وكبار الموظفين، وحي المسجد، أما الأحياء الشعبية فكثيرة ومنها حي سلامة الباشا، وحي هبوب ضربانى، وحي الكارة، وحي بري المحس، وحى الترس، والذي جاء اسمه من الحواجز الترابية المقامة لحماية المدينة من فيضان النيل الأبيض.

1- نشيد فليحفظ الله الملكة
هو النشيد الوطني للمملكة المتحدة، ونيوزيلاندة، وجامايكا وبعض الجزر، ويُعزف في الدول التي تكون فيها ملكة او ملك بريطانيا رأساً للدولة ولو بصورة اسمية، مثل كندا مع وجود نشيد وطني كندي، كما ظل نشيد (فليحفظ الله الملكة) أساسياً في استراليا إلى العام 1984، حين حل محله النشيد الوطني الاسترالي (فلتقدمي يا استراليا الجميلة)، واصبح النشيد البريطاني لا يُعزف الا عند زيارة احد افراد العائلة المالكة البريطانية لأستراليا، وعندما يكون عاهل بريطانيا ملكاً فسيكون النشيد فليحفظ الله الملك، تقول مقدمة النشيد:
فليحفظ الله ملكتنا الكريمة،
فلتعش ملكتِنا النبيلةِ حياةً طويلة،
فليحفظ الله الملكة.
أرسلْها منتصرة،
سعيدة وماجدة،
لتملك علينا طويلا،
فليحفظ الله الملكة.

2- النشيد القومي المصري
السلام المصري الملكي بدأ عزفه في عام 1869م في عهد الخديوي إسماعيل، وقد قام بتلحينه الموسيقار العالمي الإيطالي فيردي. ولا يصاحب السلام الوطني عادة كلمات. واول نشيد قومي مصري هو نشيد اسلمي يا مصر الذي الفه مصطفي صادق الرافعي ولحنه صقر على، ومنذ عام 1970 استقر الرأي على نشيد بلادي بلادي الذي لحنه سيد درويش، واصبح هو السلام الوطني، ويعزف عند استقبال رؤساء الدول وفي الاحتفالات الرسمية، أما اذا صحبته الكلمات فسيكون في هذه الحالة النشيد الوطني ويعزف في المناسبات الوطنية.

3- اللحن الجنائزي من شاول
مؤلف اللحن هو الموسيقي المشهور جورج فريدريك هاندل، والذي بنى شهرته على استخراج واستنباط نصوص من الكتاب المقدس وتلحينها، على شكل ما يسمى (الاوراتوريو)، وهو اسم جاء من مصلى الآباء الاوراتوريو في روما، وكانت الاوراتوريو طريقة متبعة للعبادة والتعليم الديني، ومن اشهر اعمال هاندل (المسيح)، الذي الفه عام 1741م، ولحن شاول هو اوراتوريو مكون من ثلاثة فصول ومقتبس من سفر صموئيل الأول، وهو السفر الذي يصف انتقال بني اسرائيل الى النظام الملكي بقيادة شاول عام 1010 م، ثم يصف تحول العلاقة بين شاول وداود من اعجاب إلى غيرة وحسد ثم عداوة انتهت بمقتل شاول.
الف هاندل هذا العمل عام 1738، ومن ضمن مقطوعاته (اللحن الجنائزي) وهو نشيد جنائزي لشاول وابنه جوناثان.

4- احمد باشا ابو ودان
من الشركس وقد اصبح حكمدار السودان بين عامي 1839-1843 وكلمة (حكمدار) عربية تركية، مكونة من مقطعين حكم ودار، ودار التركية تعني صاحب أو حامل، فيصبح معنى الكلمة صاحب الحكم ومثلها بيرقدار أي حامل البيرق، وقد جٌلب أحمد أبو ودان لمصر ضمن الرقيق، وانضم للخدمة في الجيش جندياً مع إبراهيم باشا محمد علي حيث عمل في الجزيرة العربية وسوريا واليونان. وترقى حتى وصل لمنصب وزير الحربية في مصر، اما سجل عمله في السودان فيشمل حملة ضد الهدندوة في عام 1840م، وحملات كبيرة في النيل الأزرق للحصول على الجند الذين يطلبهم محمد على باشا لجيشه في مصر.
وحسب ما اورده بدر الدين الهاشمي فقد أمر محمد علي باشا في عام 1843م (بتجهيز حملة لغزو دارفور، السلطنة المستقلة في غرب السودان. غير أن الحملة ألغيت في آخر لحظة بسبب شكوك الخديوي في ولاء أحمد باشا أبو ودان. وكان ذلك الحكمدار قد قام بإدخال إصلاحات إدارية واسعة ، وأدخل أيضا بعض الصناعات الخفيفة بالبلاد ، وفرض على الآهلين تقديم عدد من “العبيد” للحكومة مع ضرائبهم كل عام، وحارب فساد الموظفين والمحاسبين الأقباط، وكان ذلك الحكمدار محبوباً من الجنود السودانيين في الجيش المصري لدرجة أثارت شك وغيرة الخديوي، إذ تذكر الخديوي أن شعبيته في أوساط الجنود الألبان هي التي مكنته من حكم مصر، وسرت إشاعات مفادها أن أحمد أبو ودان يتفاوض مع الخلافة العثمانية لفصل السودان عن مصر، لذا لم يجد الخديوي بداً من استدعاء أبو ودان لمصر، وهنا قرر الرجل فيما يبدو أن يريح ويستريح، فانتحر بالسم، وقيل إن الخديوي كان قد دس السم لأبي ودان مع رسول له، وأجبرت عائلته على البقاء في الخرطوم لعام كامل بعد وفاته/ مقتله حتى تهدأ الأقاويل عن نهاية الرجل، وعدت اسطنبول الأمر برمته فضيحة مؤسفة.(

5- الجنرال السير جون ماكسويل
ولد في عام 1859 وشارك في معركة كرري (ام درمان)، وقاد الجنود الذين اقتحموا بيت الخليفة بعد نهاية المعركة ودخول كتشنر ام درمان، وكان قد عُيَّن حاكما لام درمان بعد الغزو مباشرة.

6- الركشة اليابانية.
كلمة (ركشة) كما تنطق اليوم كلمة يابانية مكونة في الاساس من ثلاث كلمات، جين ريكي شا، جين انسان، ريكي قوة، شا مركبة، والمعنى هو العربة التي تعمل بالقوة البشرية، في مقابل العربات التي تجرها الحيوانات. وتتكون من عجلتين ومقعد او مقعدين ويقوم السائق بسحبها مستخدما قوته، وتطورت بعد ذك لتكون في شكل دراجة باستخدام بدال، إلى أن وصلت لشكلها الحالي التي هي عليه اليوم، واكثر استعمالها كان ولا يزال في شرق آسيا واليابان والهند باعتبارها وسيلة مواصلات شعبية، والركشة المشار لدخولها الخرطوم عام 1904 هي التي يجرها الانسان.

7- المهندس اوتو بيستون هاتشارد.
مهندس بريطاني ولد عام 1879 وتوفي عام 1945 جاء للسودان وعمره 26 عاما ليكون كبير مهندسي الحكومة، وقام بتصميم الكثير من المباني الحكومية في الخرطوم وبورتسودان، وفي عام 1910 اسس شركة تقوم بعمل تصميمات لمبان ذات قيمة فنية عالية من الناحية المعمارية.

8- قام البابا كيرلس الخامس بوضع اساس كنيسة مارمرقس بالخرطوم فى 27 مارس 1904 م.

9- تم تشييد كوبرى النيل الأزرق في الفترة من 1907 إلى 1909 بواسطة شركة كليفلاند للهندسة والجسور البريطانية، وصممه المهندس جورج امبولت، وهو المهندس الذي شيد عدداً من جسور السكك الحديدية في السودان ومن ضمنها جسر خور ابو جمعة في النيل الابيض، كما قام بتحسين كوبرى نهر عطبرة عام 1910.

10- فيليب ديكون أو فيليب الشماس.

ويسمى فيليب الانجيلي، ولد في القرن الميلادي الأول في ايام الكنيسة المسيحية الاولى وكان واحد من الشمامسة السبعة الذين اختيروا لرعاية كنسية اورشليم، حتى يتفرغ الرسل لمهاهم، وقد منحه نشاطه وفاعليته لقب فيليب الانجيلي
وتقول lالرواية أن فيليب ارسله الله ليمشي في الطريق من اورشليم الى غزة وهناك قابل خصياً ( او رسول ملكي)، من ملكة اثيوبيا (النوبة)، وقام بتعميد الرجل والذي واصل طريقه لبلاده بينما تقدم فيليب نحو الشمال متجها لقيسارية.
10- الاب اوهروالدر.
قسيس تابع للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، ولد في عام 1856 وتوفي في ام درمان عام 1913، وقع اسيراً في قبضة الانصار ومكث في الأسر عشر سنوات، وقد تمكن من الهرب من سجن الساير في عام 1891 بمساعدة ريجنالد ونجت والذي شغل فيما بعد منصب حاكم عام السودان في الفترة من 1899 الى 1907م، وقد قام ونجت بترجمة اوراق اوهروالدر من الالمانية للإنجليزية ووضعها في كتاب نسبه لنفسه، اما اوهروالدر فقد جمع اوراقه في كتاب هو (عشر سنوات في الاسر في معسكر المهدي 1882- 1892)، وقد بادر ونجت بالترجمة لأغراض دعائية ضد الدولة المهدية وكان ونجت وقتها يشغل منصب رئيس قلم استخبارات الجيش المصري، والغرض الدعائي هو اقناع الحكومة البريطانية والرأي العام الأوروبي بضرورة فتح السودان وتخليص مواطنيه من بطش المهدية، وهي نفس الحجج التي يُعاد تسويقها من قبل القوى الغربية في كل مرة تريد فيها هذه القوى السيطرة العسكرية او السياسية على بلد ما، وتجري صياغة هذه الحجج بعبارات جديدة، وفي وقتنا الحالي تكون موجبات التدخل هي انتهاك حقوق الانسان، وعدم احترام الديمقراطية، وانتهاك الحريات الدينية، وانتهاك حقوق المرأة...الخ

11- ضريح الشيخ فايد
يقع هذا الضريح الان بشارع الجمهورية غرب وزارة الخارجية، والفايداب اسرة اسسها الشريف محمد بن فايد والذي قدم من مكة عام 1076 للهجرة الموافق عام 1665م، وقد صاهر هو واحفاده قبائل عدة منها بني عامر والشكرية والارتيقا ،وتتلمذ جده ادريس بن محمد بن فايد على يد الشيخ ادريس ود الارباب، وكانت طريقة الشيخ فايد صاحب الضريح هي الطريقة الاحمدية الادريسية، وقد وردت ترجمة الشريف محمد بن فايد في الطبقات، تحقيق يوسف فضل حسن، الطبعة الخامسة الصادرة عام 2012:
(محمد بن فايد الشريف، ولد بساحل البحر المر هل في مصوع او أكد؟ واخذ الطريق من الشيخ ادريس ورباه واحسن تربيته وكان لابس الجبة وشدها بمنطقته في وسطه، يسوط المديدة للضيفان مع الخدم، واستمر على ذلك طويلا فجاء اهلة ليسوقوه فسقاه الشيخ لبنا فرغوه من سعن، في وقته صار مثل السراج وتكلم في علم الظاهر والباطن).

12- الشيخ محمود ابو شيبة النوفلابي.
ترجم ود ضيف الله لهذا الشيخ في الطبقات الصفحات 287-288، وذكر عنه:
(عبد المحمود النوفلابي هذه شهرته عند الناس، وفي الحقيقة اصله عركي من ذرية محمود رجل القصير بالغويبة وكان من عباد الله الصالحين وكان مؤذنا يطير في اذانه، وكان زوارا للصالحين الا الحج فانه لم يحج، واظنه حج بالطيران..)
وفي سطور اخرى يشرح صاحب الطبقات القصة التي اشار لها ووكلي في آخر فقرات مقاله تلميحاً؛ وقد منعه الدهاء الانجليزي من التصريح بأسماء ابطالها لسبب غير معروف:
(وحصلت بينه وبين الفقيه حمد ود ام مريوم وقفة وخصومة والسبب في ذلك ان امرأة جعلية اسمها الحسنة فتزوج بها الفقيه عبد المحمود وولد منها بنتان وطلبت الطلاق).
وتقول باقي رواية ود ضيف الله انها وهبت نفسها للشيخ حمد ود ام مريوم فتزوجها، وفي يوم قالت له انها مظلومة من عبد المحمود والذي اشترط عليها حين طلبت منه الطلاق ان تكتب صداقها لبناتها ورضيت بهذا الشرط، وقد صدقها الفقيه حمد فيما قالت واراد انصافها فكتب خطابا لعبد المحمود وسماه فيه عبد المطرود، ويبدو ان عواقب هذا الخطاب كان كارثة على الشيخ حمد، وتقول تكملة رواية ود ضيف الله أنه وبينما كان الفقيه حمد نازل في حلته في ام درمان (غير حلة حمد الحالية في بحري) انطلقت النيران واكلت جميع خلواته، ومن ضمنها الخلوة التي كان بها الشيخ حمد والذي رفض الخروج الا بصحبة كتبه، مؤثراً البقاء مع كتبه ومواجهة الموت حرقاً، ولعل هذه من نوادر الوفاء للكتب ومحبة العلم الراسخة في نفوس هؤلاء الشيوخ، وحسب رواية ود ضيف الله (ما بمرق اترك كتبي، فدخل عليه احمد بن على العونابي فشاله بعنقريبه ومرقه). ويمكن تخيل منظر هذا الرجل الذي لم يكلف نفسه عناء التحرك ولو خطوة من عنقريبه والنيران مشتعلة حوله مستسلماً لقدره مع كتبه، ويقر الشيخ حمد ان هذه الحادثة تسببت في زيادة شعبية الفقيه عبد المحمود على حساب شعبيته هو، وقد احس بالندم على ما بدر منه تجاه عبد المحمود، وذكر ود ضيف الله ان الفقيه حمد قال: ( بعد مروقي من النار اعتقدته العوام ونفسه عجبته والشيء كله سوته الحسنة. قالت غصب صداقي، الله حسيبها).

تعميد الخصي النوبي بواسطة فيليب الديكوني

 

nakhla@hotmail.com

 

آراء