قصة قصيرة : عن المهمش حين تستفزه سلطة آحادية التوجه .. أحكي لكم

 


 

عمر الحويج
17 July, 2024

 

بقلم / عمر الحويج

(المهمش حين تستفزه سلطة آحادية التوجه ينفصل عن ذاته عن مجتمعه عن وطنه ، عن الأمان حين يبحث عنه ، يحمل السلاح ليبتعد .
( رحلة عبد الشافي الأخيرة .. إلى الداخل)
قصة قصيرة / نشرت بجريدة الخرطوم القاهرية المهاجرة ( مايو 1995م)

***
كان ذلك .. يوم احتجبت الشمس ، قبل موعد غروبها المعتاد .. فحجبت الرؤية ، عن كل.. الفضاءات الرحبة .. والجميلة .
كان ذلك .. يوم هبت ، تلك العاصفة ، الهوجاء .. واللعينة ، في غير موسمها .. فتساقطت، كل الأشياء التي كانت مستقرة.. بفعل : الجذور، والتماسك، والرضا.
كان ذلك.. يوم ، الكارثة الكبرى ، في القرية ، التي كانت ، وادعة.. قبلاً.
كان ذلك .. يوم غرقت ، مركب "الريس عبد الشافى" فانكفأ .. كل من فيها ، وما بها ، وما عليها لتبتلعه إلى حين ، مياه النهر ، الغاضبة .. على غير عادتها.
حينها .. تمكن ، عبد الشافي ، وحده من إنتزاع العدد الأكبر ، من بين براثن الموج المتلاطم .. أما البقية ، فقد إنتشلهم ، الآخرون .. الآتون ، من كل فج : أتت بهم ، صيحة الخطر ، التي أطلقها ، عبد الشافي وردَّد صداها ، الجبل الرابض ، بمحاذاة الشط .. يؤدي فعله الأزلي ، في حراسة: النهر ، والناس .. والحياة.

يومها.. خرج الكل ، إلى الشاطئ.. بضفتيه ، سالماً ما عدا .. آهِ .. آهِ .. ما عداه "الريس عبد الشافي" .. هو وحده الذي لم يعد ، إلى الشاطئ ، بأي من ضفتيه : سالماً ، أو .. غير سالم.

رآه الجميع .. بأعين ، عليها غشاوة .. وهو يسبح ، عائداً إلى مركبه:
تيقن بعضهم ، أنه ذهب ، ليعود ببقرته ، الأثيرة .. لديه التي كانت ، تسبح بجانبه، وهى مربوطة ، على حافة المركب .
وحسبه آخرون ، أنه يود أن يلقي .. النظرة الأخيرة على مركبه الغارق .. حتى القاع ، في مياه النهر ، الغاضبة .. على غير عادتها .

"يا.. عبد.. الشافي" : الصيحة الخطر.. أطلقها، بعض الذين ، لا يزال في رئاتهم.. نَفَس ، برغم ما في عيونهم من غشاوة . "يا.. عبد.. الشافي" الصيحة الخطر .. الصوت والصدى: رددها الجبل الرابض في حراسه النهر ، والناس.. والحياة .

"يا.. عبد.. الشافي.. ": الصيحة.. الصدى: وأنت ، تصارع أمواجك .. يا عبد الشافي .. ما زال ، يخترق أذنيك .. الصوت الأعلى والأقوى .. أنك تستطيع أن تميزه ، من بين جميع الأصوات . أنه صوت (حماد الطريفي) .. صديقك ، الأقرب والحميم لآخر المدى .. صديقك الذي أعطيته، كل عقلك.. وإن لم تعطه إلا نصف.. قلبك.
تلعبون، كنتم.. شليل وين راح ختفوا التمساح . حين جاءتكم
الصيحة : دائماً .. تلك التي يردد صداها الجبل.. هي ، الصيحة الخطر يا .. عبد الشافي ، أبوك راح.. أبوك.. ختفو التمساح .. أصل الحكاية بين عائلتنا ، والتمساح ، بدأت مع جدى .. يومها ، قال بعضهم أنهم ، رأوه .. بأم أعينهم .. حين تمكن ، منه التمساح.. إستلَّ جدي ، سكينه من ضراعه .. وبأعصاب هادئة .. وباردة : أضافوا ، غرز جدى ، السكين في عين التمساح : وآخرون .. قالوا وهذه الرواية ، هي التي أصبحت متواترة أنهم ، سمعوا ، بآذانهم التي حتماً مصيرها .. الدود ، أن جدى .. تحادث : حديثاً طويلاً ومتبادلاً.. وليس هامساً ، ولا منفرداً .. مع التمساح ، وربما كان أيضاً .. مشوقاً ، فقد رأوا جدى .. مبتهجاً ، يلوح بكلتا يديه .. مصوباً بصره نحو صفحة المياه .. التي بانت صفحتين ، بفعل إنسراب التمساح على سطحها .. وأبوك ، يا عبد الشافي.. أخيراً ، تمكن منه التمساح : ضاع أبوك .. يا عبد الشافي .. وضاعت معه .. أحلامك ، وأحلامكم .. الطفلة ، أنت وصديقك من وقتها حماد الطريفي .. حين قرر الكبار ، أن تركب النهر .. سيراً على النهج ، والتوارث والتراث : كما قرر الكبار ، أن حماد الطريفي ، هو خير معين لك .. في هذا المحال كان .. وهكذا ركبتما ، النهر .. سوياً .

(يا.. عبد.. الشافي) : الصيحة: الصوت: أنت خير ، من يعرف يا عبد الشافي: كنا دائماً .. لا تنتظر الغريق ، لأكثر من أسبوع حتى يكون ، انقضى شأنه .. ووارى الثرى جثمانه .. أما أنت يا عبد الشافي .. ها قد فات زمان .. والناس تنتظر :
على الضفتين .. والناس تنتظر
على امتداد النهر .. والناس تنتظر
على أحر من الجمر .. والناس تنتظر
وأنت يا عبد الشافي ، حتى الآن ، لا أثر لك .. ولا بقرتك الأثيرة .. لديك . ومركبك متشبثة بقاع النهر .. ما زالت . وما زالت الناس.. تنتظر . من أين انشقت هذه الأرض ، وأتت بكل هؤلاء الناس ، يا عبد الشافي؟؟ .. منذ متى عرفك ، كل هؤلاء الناس يا عبد الشافي؟؟.. سألتك ، عشرات المرات .. وأنت تلتقي ، هؤلاء الناس : أيام الأسواق تلتقيهم .. أيام الأعياد ، تلتقيهم .. أيام الأحزان ، تلتقيهم .. هم غرباء ، عنا.. ولكن ، يعرفونك . أنت وحدك ، وبقرتك الأثيرة لديك .. يعرفونك حتى أنهم ، يسألون عنها .. إذا أنت بدونها ، التقيتهم .. لم تكن تجيبني أبداً .. لم تكن تجيبني .. يا عبد الشافي .. ولكني كنت أعرف .. كنت أعرف :
حين ، كنت تأخذ ، بقرتك الأثيرة ، لديك.. والناس نيام.
تخرجان معاُ .. والناس نيام
تركبان النهر مرة ، وتسبحان مرات .. والناس نيام .
تعودان معاً ، قرب أذان الفجر .. والناس نيام .
تجلس منزوياً ، بقربها .. والناس نيام .
تنظر إليك ، وتنظر إليها .. والناس نيام .
تبكيان معاً .. والناس نيام .
تتحاوران معاً .. والناس نيام.. والناس نيام .. والناس نيام .

"يا عبد الشافي" : الصيحة.. الصدى : ما زال ، صوت صديقك ، حماد الطريفي .. في أذنيك.. وأنت ، لم تصل بقرتك الأثيرة لديك ، بعد.. ما زلت ، تصارع الأمواج ، ولم تصل الأعماق .. بعد.. حماد الطريفي .. أسمع ، أو لا تسمع .. صديقي : أعطيتك ، قبلاً .. كل قلبي .. فخذ أخيراً ، والآن .. كل عقلي : كنت تعرف .. لا تعرف .. تعرف .. لا تعرف :
كنا نخرج معاً .. والناس نيام .
خلف الجبل ، نجوب القرى والبلدان .. والناس نيام.
نسائل : الأنس والجن والطير والحيوان .. والناس نيام .
يأتيني: الصوت ، والصدى ، والهاجس .. والناس نيام .
جدي قال لأبي ، دون أن تعرف جدتي .. والناس نيام .
أتوا ، بنا ، وكنا اثنين أختي .. وأنا والبقرة (تفرقنا أيدي سبأ وفرقان) .. والناس نيام .
يأتيني : الصوت ، والصدى . والهاجس .. والناس نيام .
يقول جدي , لأبي .. والناس نيام .
"إن أباك ، استولدك ، من " أخته".. والناس نيام .
يأتيني: الصوت ، والصدى ، والهاجس .. والناس نيام .
يقول ، أبي لي .. والناس نيام .
"إن أباك ، استولده جدك ، من "أخته" والناس نيام .. والناس نيام .. والناس نيام .

"يا.. عبد .. الشافي": الصيحة .. الصوت: فات زمان .. طويل يا عبد الشافي .. ولم تعد الناس.. تنتظر .
على الضفتين: و .. لم تعد الناس .. تنتظر .
على امتداد النهر: و .. لم تعد الناس .. تنتظر
على أحر من الجمر : .. لم تعد الناس .. تنتظر
وأنا ما زلت أعاود السؤال .. لماذا لم تتزوج؟؟ .. يا عبد الشافي: يقولون جدك .. انفسخ ، عقد زواجه ، في ليلته الأولى .. وأنت ، يا عبد الشافي ، لم تتزوج بعد . قال جدك للعجوز المسن ، لن أفسخه .. يفسخ جلدك .. وأنا يا عبد الشافي.. كنت أحسدك ، حين اختلس النظر ، إلى الجميلات ، عندنا.. وأراهن ، يختلسن النظر إليك .. وقتها ، ومع اندهاش الحاضرين ، وانبهارهم .. انفسخ جلد ، العجوز المسن .. عن آخره .. وأنت ، يا عبد الشافي ، لم تجبني .. أبداً . وأنا .. كنت أخاف ، علينا.. من هذا اليوم، الأكلح .. يا عبد الشافي: يقولون .. لم يسترجع ، العجوز المسن ، جلده إلا بعد أن ، تنازل جدك ، طائعاً مختاراً ، وفسخ العقد .
حين الدقات الأولى ، للدلوكة في أفراحنا .. يا عبد الشافي ، والجميلات عندنا .. يختلسن النظر إليك ، وأنا .. أختلس النظر إليهن .. يبدأ ، يأخذك الإستغراق كعادتك ، يبدأ.. بالرعشة الأولى .. في الأطراف .. تتصاعد فيك مع دقات الدَّلُّوكَة المتصاعدة .
وفسخ جدك العقد ، إكراماً .. قال للحاضرين ، والتسامح .. وأنا كنت أريد لك ، أن تسقى .. بمائك الأبيض أرضك .. كما فعل ، الأسلاف منك ، أبوك و جددك و .. لتستقر بفعلك : الجذور والتماسك والرضا .
وجدك قالوا .. في ليلته تلك ركب النهر .. واختفى أزماناً ، أو أعواماً .. لا أحد يذكر .. ثم عاد ، ومعه جدتك ..
والرعشة في جسدك ، لا يوقفها.. إلا زغاريد الجميلات عندنا ، مع فتح الباب ، لتحية العريس ، من الآخرين .. ومنك ، أنت تحية النزيف .. ليس إلا . والناس لا يعرفون ..
وعلى ظهرك ..
السياط ..
والأصوات ..
والهواجس..
وأنت ، يا عبد الشافي ، كالجبل عندنا .. لا يرتد منك ، غير الصدى .
صدى السياط ..
والأصوات ..
والهواجس..
والناس .. لا يعرفون .. والجميلات ، ما زلن يختلسن النظر إليك .. وأنت لا تجيبني ، يا عبد الشافي .. وأسعد صباحاتك ، تلك التي تعقب ، ليالى الفرح .. وظهرك النازف دماً .. وأنت ، تستعذب طعم الدم في جسدك :
تستعذب طعم الدم ..
تستعذب طعم الدم ..
تستعذب طعم الدم .

"يا.. عبد الشافي": الصيحة.. الصوت : وأنت .. ما زلت تصارع أمواجك ، يا عبد الشافي .. يأتيك من البعيد ، هذه المرة: الصوت والصدى ، والهاجس.. ظللت، طول عمرك الأخير .. منه تبحث عن شيء ، لا تعرفه . ولن تجده. بحثت عنه:
وراء الجبل.. وأنت لا تعرفه .. ولن تجده .
ما خلف النهر .. وأنت لا تعرفه .. ولن تجده .
جبت القرى والبلدان .. وأنت ، لا تعرفه .. ولن تجده.
سآلت ، الإنس والجن والطير والحيوان .. وأنت لا تعرفه .. ولن تجده .
استعذبت طعم الدم ، في جسدك .. وأنت لا تعرفه .. ولن تجده .
جرب يا عبد الشافي ، أن تختار .. صارع أمواجك كي تختار ..
وهناك ، عسى أن تعرف ، ما لا تعرفه .. وما تبحث عنه .. تجده.

"يا عبد.. الشافي": الصيحة.. الصدى: فات زمان.. وأطول، والناس ، لم تعد .. تنتظر :
على الضفتين .. والناس ، لم تعد تنتظر
على امتداد النهر .. والناس ، لم تعد.. تنتظر
وأنا ، يا عبد الشافي .. سأظل ، أنتظر .. تأتي أو لا تأتي ، سأظل أنتظر .. برغم حكاوي ، الناس. سأظل أنتظر .
جاء بعضهم ، إلينا من البعيد ، وقالوا.. أنهم رأوك : وقد استبدلت السكين في ضراعك .. بالأقوى ، والأسرع للموت .. وحملته على كتفك . بل تجرأوا وزعموا ، أنك أصبت بعض أهلك .. وأخطأت آخرين .. وأنا سأظل ، أنتظر .
وجاء غيرهم ، وادَّعوا .. أنك : أصبحت ، عائلات بلا عدد .. وبقرتك الأثيرة ، لديك .. ملأت الأرض ، قالوا .. ولم تعد ، في حاجة، لأن تجوب بها ، القرى والبلدان .. وأنا سأظل ، أنتظر.
وقال ، بعض الذين ، كانوا هناك ، يوم الكارثة الكبرى.. أنه لا بد ، أن تكون قد التهمتك ، وبقرتك الأثيرة ، لديك .. تماسيح النهر ، في ليلتك تلك ، المشؤومة .. وأنا سأظل ، أنتظر .. تأتي أو لا تأتي سأظل أنتظر .

"يا.. عبد.. الشافي" : الصيحة.. الصدى : صارع أمواجك .. صارع أمواجك .. ها أنت ، الآن قد وصلت إلى الأعماق .. فلتبدأ ، يا عبد الشافي .. رحلتك الأخيرة إلى.. الداخل .

omeralhiwaig441@gmail.com

 

آراء