قِشايتي الخضيرا عند القدّال

 


 

 

Khaldoon90@hotmail.com

انتقل إلى جوار ربه الكريم في شهر يوليو الماضي بالعاصمة القطرية: الدوحة ، مأسوفاً على رحيله ببالغ الحزن وعميق الأسى ، من كافة جماهير الشعب السوداني خواصّه وعامته ، الشاعر الكبير الأستاذ " محمد طه القدّال " الذي يُعدّ من كبار مبدعي السودان في فن الشعر في هذا العصر بلا ريب.
مثّلَ القدّال أيقونةً باهرةً في مجال الإبداع الشعري عموماً ، وفي نظم الكلم السوداني خصوصاً ، ذلك الكلم المفعم بخصائص التجاوز والإدهاش والغرابة المخاتلة والمستفزة والمتحدية للذائقة الإدراكية والشعورية الشعورية للمتلقي.
لقد كان الراحل بل شك ، أحد أبرز فرسان ما يمكن أن نسميها بمدرسة شعر الحداثة العامي في السودان. وشعر الحداثة العامية ، هو بكل تأكيد ، صنو شعر الحداثة الفصحى إذا جاز التعبير ، وذلك لجهة اشتراكهما معاً في جملة من الملامح والخصائص المشتركة من حيث الشكل والمضمون. فكلاهما يستند إلى الرمز ، واحتقاب الأسطورة وتوظيفها ، والإغراب في التشبيهات والكنايات والاستعارات ، إلى جانب الميل إلى الغموض والتجريب ، واجتراح الانزياحات الأسلوبية في بناء القصيدة ، وما إلى ذلك من التعابير والمصطلحات التي يرددها سائر نُقّاد شعر الحداثة عادةً.
وشعر الحداثة الدارجية هذا ، بالخصائص التي ذكرناها عنه آنفا ، له جذور قديمة في الواقع في تراثنا الأدبي في السودان. ذلك بأنّ هنالك بعض الشواهد عليه في شعر المديح النبوي ، وخصوصاً القصيد الصوفي التقليدي القديم في السودان ، والذي قد يتجاوز الصيغ والأفهام التقليدية ، لكي يلامس آفاق الإشراق والشطح والعرفان. ومن ذلك قول المادح ، ولعله ود نفيسة ، في وصف الشيخ إبراهيم الكباشي:
أنْ أبي أبُوكَنْ
لا بُلود بُكَنْ
الكباشي الفوقك ادّبَكَنْ .. الخ
ويذكر الباحثون في ذات السياق كذلك ، مطلعاً مدهشاً حقّاً ، وعصيّ الدلالة ، من قصيدة مُغنّاة للشاعر الرائد: خليل أفندي فرح 1896 - 1932م هو قوله:
لَمّ خيل الضّل مع الأريَلْ
في مشارعو الصّيد وَرَد قيّلْ
وهذه الأغنية للخليل ، ما تزال تُسمع إلى يوم الناس هذا ، من أداء الفنان " سيف الجامعة ". ذلك بأنّ الخلق لم يزل يسهر ويختصم حتى الآن ، من جرّاء تأويل معنى عبارة " خيل الضُل " الواردة في ذلك البيت.
إنّ غموض المدلول واستغلاقه في شعر الحداثة العامية ، مثله مثل شعر الحداثة الفصيح ، لا يتجلّى على مستوى المفردة الواحدة ، وإنما على مستوى المعنى الإجمالي للخطاب. ذلك بأنه يظل منفتحاً - كما يقولون -على فضاءات واسعة ومختلفة للتأويل.
ومن هذا الباب ، فإنّ قول القدّال على سبيل التمثيل:
شِن فايدة مديدة الحِلبة
والويقود بشيلو اليانكي
هو بكل تأكيد أعسر تناولاً ، وأكثر مخاتلةً من قول محمد ود الرضي 1884 -1982م:
الطّابِق البوخة .. قام ندا يهتّفْ .. نام من الدّوخة
إيدو عاقباهو
الجدلة مملوخة .. وفوق معالق الجوف .. موسو مجلوخة .. الخ
وذلك على الرغم من حوشية ألفاظ هذا المقطع ، وعتقها ، وكلاسيكيتها في قاموس العامية السودانية.
ذلك ، ومن التجارب الرائدة في شعر الحداثة الدارجية في الإبداع العربي المعاصر عموماً ، يمكننا الإشارة إلى أعمال لرواد مثل: بيرم التونسي ، وفؤاد فاعود ، وأحمد فؤاد نجم ، وعبد الرحمن الأبنودي في مصر على سبيل المثال. أما في السودان ، فهنالك تجارب كل من: عمر الطيب الدوش ، ومحجوب شريف ، وهاشم صديق ، ومحمد الحسن سالم حُمّيد في مثل قوله على سبيل المثال:
حيطة تتمطّى وتفلّعْ
في قفا الزول البناها !!
لقد أثار رحيل الشاعر القدّال في الواقع ، وما خلّفه من فقدٍ جلل ، وفراغ عريض في الساحة الإبداعية والثقافية في السودان ، ردود أفعال كبيرة تجاوزت محض الانفعال الوجداني والعاطفي الإنساني المتوقع من جراء رحيل إنسان نبيل ورمز ثقافي كبير مثله ، إلى محاولة مقاربة مجمل تجربته شاعراً ومبدعاً ، بالدرس والبحث الجاد.
وهكذا شهد يوما السبت 28 والأحد 29 أغسطس 2021م بقاعة الصداقة بالخرطوم ، احتفالية ضخمة لتكريم الراحل وتخليد ذكراه ، شملت تقديم عدد من الأوراق العلمية بتلك المناسبة ، إلى جانب تنفيذ جملة من الفعاليات الثقافية والأدبية والفنية الأخرى.
ولقد تأسفت غاية الأسف ، واعترتني حسرة كبيرة لعدم تمكني من شهود تلك الاحتفالية الباذخة ، وذلك نسبةً لانهماكي حينها في عدد من الأعمال والمهام المهنية الملحّة.
على أن مما استوقفني بصفة خاصة من بين الأوراق العلمية التي قدمت في تلك المناسبة ، ورقة أعدّها وقدمها البروفيسور محمد المهدي بشرى ، استاذ الفولكلور بمعهد الدراسات الافريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم جاءت تحت عنوان: " توظيف التراث في شعر القدّال ". وذلك ليقيني أنها تصبّ في ذات الاتجاه الذي أرمي إليه من خلال هذه الكلمة ، وإن كنت أفترض أنّ الورقة قد عالجت هذا الموضوع بتوسع واستفاضة ، وبمنهجية أكاديمية أكثر دقةً وصرامةً بطبيعة الحال. وبالطبع ، فقد طلبت من أستاذنا بروف بشرى موافاتي بنسخة من ورقته تلك وهانذا ما أزال أنتظر إنجازه وعده لي بإرسالها إليّ.
لقد لاحظ نفرٌ من الباحثين بالفعل ، حقيقة اتّكاء محمد طه القدّال الواضح على التراث الثقافي القولي لأهل السودان ، وقصده الواعي لتضمينه في ثنايا شعره ، خدمةً لأهداف ذلك الشعر ومضامينه ورسالته ، كما لاحظوا بصفة خاصة ، قدرة هذا الشاعر الفذّة على التنقّل واصطفاء جواهر الألفاظ والعبارات من لهجات عربية شتى من داخل السودان وخارجه أيضا.
فمن بين تلك المقاطع في شعر القدّال ، ذات التناصّ الواضح مع بعض الآثار التراثية الشعبية التي لفتت انتباهي بشدّة ، منذ أن استمعت إليها لأول مرة في نحو منتصف ثمانينيات القرن الماضي ، قوله في إحدى قصائده التي تغنّت بها فرقة " عقد الجلاد ":
جهادية الحاربونا
شَدّوا جمالهم جونا
جلبنا ليهم سمسم
السمسم ما كفّاهم
جلبنالم سعيّة !!
والحق هو أنني ظللت أتساءل منذ ذلك الحين ، ولم أجد لتساؤلي ذاك إجابة شافية بعد. هل هذا المقطع الشعري القدّال ينمّ حقيقةً عن تراث الجزيرة الثقافي الذي نشأ فيه القدّال وترعرع ، أم أنه قد أخذه من مصدر آخر ؟.
الذي أعرفه وأنا إليه مطمئنٌ تماماً ، أنّ هذا المقطع بالذات ، يتناصّ إلى درجة تقرب من التطابق مع مقطع من أهزوجة قديمة جداً ، ظلّ يرددها الأطفال مرتبطةً بلعبة معينة منتشرة في شتى أرجاء شمال كردفان ، مع اختلافات طفيفة في النص هنا وهناك ، وهو قولهم:
قِشايتي الخضيرا
بفرّك وبطويكي
بشوف شبابي الفيكي
شبابي نور الوادي
يا حمرا أم بوادي
" فواعلة " حاربونا
شدّوا جمالهم جونا
ضبحنا ليهم زُرْزُرْ
الزُرزُر ما كفّاهم
كفاهم جودة الله
جودة الله بو رخيّة
رخيّة بت اهلنا
أم شعراً مَتنّى
دي النار ودي الجنة
عروسك ياتي ؟؟!! الخ
وإنما قلتُ " فواعلة " في هذا النص عمداً ، إيثاراً للسلامة ، ودرءً لأي حرج. وإلا فإنّهم في الأهزوجة الأصلية ، يذكرون اسم هذه القبيلة أو تلك صراحةً ، وبذلت الوزن.
ألا رحم الله الشاعر الكبير الأستاذ محمد طه القدّال ، وأكرم نزله عنده في مستقر رحمته ، وعوّض الأمة السودانية خيراً في فقدها الأليم.
خالد محمد فرح

 

آراء