كتاب في جريدة و”عثمان” يريد ان يعرف … بقلم: طلحة جبريل

 


 

طلحة جبريل
21 March, 2009

 


talha@talhamusa.com
سعدت كثيراً ان مشروع " كتاب في جريدة" الذي أطلقته منظمة اليونسكو عام 1995 لم يسقط، وسعدت أكثر انني اكتب في صحيفة تقف مع المشروع على الرغم من تكلفته المرتفعة في ظل اوضاع اقتصادية خانقة تعرفها الصحف التي تأمل أن تعتمد على مواردها الذاتية.
مشروع " كتاب في جريدة" بدأ في الاصل في بعض دول اميركا اللاتينية لتوزيع كتب مكتوبة بالاسبانية والبرتغالية، واطلق عليه " الكتاب الدوري"، وفكرته بسيطة لكنها من نوع الافكارالمضيئة، وهي اصدار كتاب في كل شهر كملحق في حجم التابلويد يوزع مع احدى الصحف مجاناً تشجيعاً للقراءة، اي انك تشتري صحيفتك اليومية وبالسعر نفسه وتجد بداخلها كتاباً. فكرة هائلة خاصة في الدول التي يؤدي فيها ضعف القدرة الشرائية الى عزوف القراء ومعظمهم من الطلاب، عن شراء الكتب.
المعادلة مع الكتب مختلة، إذ ان تكلفة الورق والطباعة في تصاعد والقدرات الشرائية في دولنا في  تدهور، كما ان وسائط الاعلام الحديثة على وجه التحديد التلفزيون والانترنيت ، قلصت الاقبال على القراءة. هذه الوسائط تمطرنا بالكثير من الغث، خاصة الانترنيت. ولعلهم في الغرب فطنوا الى هذه المسألة لذلك يعلمون الاطفال من صغرهم التعود على القراءة ... قراءة الكتب تحديداً .
قبل بضعة اسابيع تلقيت دعوة من المدرسة التي يدرس فيها ابني "عثمان" لاجتماع تربوي ، و"عثمان" هذا وعلى الرغم من انه درس ومنذ البداية في الرباط في مدرسة تتبع مناهج انجليزية ، ثم انتقل الى مدرسة امريكية عندما طوحت بنا الظروف الى هذه الاصقاع ، ظل يحمل معه جينات شغب "سودانية ومغربية" معتقداً ان على التلاميذ الامريكيين ان يقبلوا صخبه ومشاغباته فقط لانه ليس امريكياً. كان الموعد مع طاقم التدريس في الثامنة صباحاً، والامريكيون يعقدون اجتماعاتهم المهمة في الصباحات الباكرة. ومما يبعث في النفس انشراحاً وبهجة انني وجدت الطاقم الذي ساجتمع معه يتكون من اربع مدرسات. قلت في نفسي إن الجلوس لمدة ساعة ونصف مع اربع نساء وفي الصباح الباكر شيء جميل بل لعله رائع. كنا ما بين العقد الثالث والرابع لكن الزمن عامل تقاطيعهن بحنو واضح.
 بدأت الاولى في الحديث وقدمت نفسها على اساس انها من الادارة، بدت لي انها تخطت الاربعين لكن الانسان الجميل يظل جميلا مهما فعلت به الايام، اوضحت سبب الاجتماع وقدمت زميلاتها الآخريات. عندما كانت تتحدث خاصة في الدقائق الاولى لم اكن هناك، ويمكن ان تخمنوا ما هو السبب. تحدثت الثانية عن سلوك هذا ال" عثمان" داخل الفصل ومرئياتها، ثم تحدثت الثالثة عن حصيلته المدرسية والمواد التي يتقنها وتلك التي يحتاج فيها الى جهد اضافي. وكانت الرابعة تسجل جميع الملاحظات التي تقال على جهاز كومبيوتر محمول وقدمت لنا في نهاية الاجتماع تقريراً شافياً وافياً حول كل ما قيل والنتائج التي خلصنا لها. كان من بين ما قيل ان هذا ال "عثمان" يحتاج الى جهد كبير في الرياضيات. بادرت دون ان يطلبن مني ذلك لتقديم تفسير بدا لي معقولاً لكن سرعان ما أدركت بانه كان مجرد كلام فارغ ، قلت لهن ربما الامر وراثي لانني انا ايضاً كانت علاقتي مع الحساب والرياضيات في المدرسة سيئة جداً. في ما بعد قلت في نفسي إذا ادركن انني اتحدث عن "كريمة الصناعية الوسطى" لما جلسن اصلاً معي.
تبادلت المدرسات نظرات تدل على الاستغراب حول حكاية البلادة الموروثة في مادة الرياضيات، تيقنت وقتها انني انا وهذا ال"عثمان" نركب في مركب واحد يرفع راية العالم الرابع.
انتقل الآن الى المسألة التي بسببها اوردت هذه التفاصيل. فقد خلص اجتماعي مع المدرسات الفاضلات، الى اتفاق يقضي بان يتفرج هذا ال " عثمان " على التلفزيون بعد عودته من المدرسة لمدة لا تزيد عن ساعة في اليوم فقط لاغير، وفي ظنهن ان ساعة هي أصلاً فترة طويلة فاذا كان بالامكان تقليصها الى نصف ساعة سيكون ذلك افضل، لكن هذا ال "عثمان" يجلس عادة ما لايقل عن اربع ساعات يومياً امام التلفاز ، الى حد انه حفظ حتى اسماء مقدمي نشرات الاحوال الجوية في بعض القنوات. ثم النقطة الثانية وهذه هي مربط الفرس ، طلبوا مني وبصرامة ان يقرأ يومياً نصف ساعة في أي كتاب، ثم يكتب ثلاث فقرات يلخص فيها انطباعاته حول ما قرأ.
والامر لا يتوقف عند هذا الحد، بل لابد عندما يذهب الى سريره ان أقرأ له من كتاب آخر حتى يستغرق في النوم. والاشكال انني عندما بدأت اقرأ له كان يستوقفني في كل مرة ويطرح علي وابلاً من الاسئلة، على غرار حكاية "محمود يريد أن يعرف" التي كنا نقرأها في كتب المطالعة، واضحت قراءة ما قبل النوم مزعجة، إذ كنت انا أغفو وهذا ال "عثمان" يظل مستيقظاً يبحلق في وجهي وقد هدني التعب والنعاس، ولايكف عن طرح الاسئلة.
من خلال هذه الحكاية ، يمكن ان نفهم لماذا يحرص الناس في الغرب على قراءة الكتب في كل مكان خارج أوقات العمل، لانهم يتعودون منذ الصغر على القراءة. في ظني ان متعة القراءة لا تضاهى، والآن اصبح لديهم الكتاب المسموع، اي الكتاب المسجل على قرص يمكن تحميله في الأجهزة الصغيرة التي تستخدم عادة لسماع الاغاني والموسيقى. حيث تستمع الى شخص يقرأ عليك بنطق متميز كتاباً من الغلاف الى الغلاف،ولاحظت انهم يقرأون " الكتب المسموعة" عندما يمتطون دراجاتهم للنزهة.
قراءة الكتاب فيها فوائد كثيرة من غير التثقيف. لذلك كان مشروع "كتاب في جريدة " الذي اطلقته اليونسكو، مشروعاً عظيماً، تولى الاشراف عليه منذ انطلاقته الكاتب والشاعر العراقي شوقي عبدالامير ، الذي طلب منه مدير عام اليونسكو فردريكو مايور عام 1995 وضع جميع التصورات لاطلاق المشروع ثم متابعة التنفيذ. ومايور وعبد الامير شخصيتان رائعتان.
مايور يعد من أفضل من انشغلوا بالهم الثقافي في تاريخ اليونسكو، وهو من طينة المثقفين الاسبان الكبار الذين كرسوا حياتهم للقيم العليا. وعبدالامير الذي عاش معظم سنواته في باريس ، عاصمة الانوار الاوربية، يعتقد ان لديه هدف واحد في هذه الحياة  وهو ان يقرأ اي مواطن عربي أكبر قدر من الكتب.
تعرفت على شوقي عبد الامير في بيروت في مارس 2001 ، عندما عقد المؤتمر الثالث الذي ضم اللجنة الاستشارية لمشروع  "كتاب في جريدة" ورؤساء تحرير الصحف التي تشارك في المشروع عبر نشرها الكتاب كل شهر كملحق مجاني مع عددها اليومي. وجدت عبدالامير متحمساً يتدفق حماساً. ظل يعمل دون كلل ولا ملل منذ ان كلف من طرف مايور لاطلاق المشروع حتى أبصر النور في نوفمبر 1997 ، ووزع اول كتاب كملحق مجاني مع عدد من الصحف العربية بعنوان " مختارات من شعر المتنبي" قدم له الشاعر ادونيس. وحتى عندما تعثر المشروع عام 2003 بسبب شح موارد اليونسكو التي تأثرت كثيراً بعد مقاطعة اميركا لها، لم يترك شوقي عبد الامير المشروع بل طرق جميع الابواب الى ان تطوع رجل الاعمال السعودي محمد بن عيسى الجابر وقرر تمويله. وظلت اليونسكو تنفق على تصميم الكتاب وسحبه على افلام وتعويض الكتاب الذي توزع كتبهم وكذلك الرسامين الذين يرسمون الرسومات المصاحبة وتسلمه جاهزاً وبالمجان للصحف لتتحمل فقط تكلفة الطباعة والورق.
أختم بواقعة حدثت اثناء مؤتمر بيروت. شارك في ذلك اللقاء امين حسن عمر الذي كان وقتها رئيساً لتحرير صحيفة الانباء السودانية ، وكنت اول مرة التقي فيها احداً من أهل النظام، اتذكر اننا تناقشنا كثيراً، بل قل تجادلنا ، كل منا من موقعه الفكري والسياسي، وكان ان لاحظ الصديق طلال سلمان ناشر ورئيس تحرير السفير البيروتية ان هناك سودانيين في مؤتمر بيروت الثالث لمشروع " كتاب في جريدة"، لكن أحدهم جاء يمثل الخرطوم والثاني وهو الداعي لكم بالخير، جاء يمثل الرباط ، وكنت يومها رئيساً لتحرير صحيفة " الصباح" المغربية.
قال طلال سلمان مازحاً ، وكنا نحضر حفل عشاء بدعوة من رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان يومئذ في داره التي يطلق عليها اللبنانيون "دارقريطم": لا أعرف لماذا اختار المغاربة أن يمثلهم سوداني في بيروت؟" وعلى الرغم من أنها كانت مزحة ثقيلة، فقد ارتحت كثيراً عندما رد عليه الشاعر المغربي محمد بنيس وكان يومها عضواً في اللجنة الاستشارية لمشروع " كتاب في جريدة"  وقال مخاطباً طلال سلمان" فلان هو أفضل من يمثلنا لدى المشارقة ونتمنى ان نسمع يوماً ان مغربياً اصبح رئيساً لتحرير احدى الصحف اللبنانية". هل يمكن ان يحدث هذا ؟ مستحيل. دع عنك لبنان هل يمكن ان يحدث هذا عندنا في السودان؟
سابع المستحيلات. 
عن "الاحداث"
مقالات سابقة
جميع المقالات السابقة منشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى ، ويمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط
http://www.sacdo.com/web/forum/forum_posts.asp?TID=5219

 

آراء