كتر خير الدنيا (1-2)

 


 

 


أتبادل السؤال عن الصحة مع بائعة الجرائد القابعة كل النهار داخل كشك صغير في (المعادي – دجلة)، وهي تعاني مثلي من الآم الظهر :-
-    كيف الصحة؟وترد بحكمة بليغة ورضى مفتوحا:
-    كتر خير الدنيا.
      واندهش لهذه الحكمة البليغة التي تأتي من إمرأة لم تدخل المدرسة، وتتعرف علي أسماء صحفها بالشكل فقط. فقررت أن أخذ الحكمة من فمها، وصرت أردد هذه اللازمة الفلسفية: نعم كتر خير الدنيا! فقد منّت عليّ بعمر فاق السبعين بعامين، رغم تاريخي مع الأمراض العديدة والمتعاقبة قبل الثلاثين. فقد كنت باستمرار أقرب إلي الموت منه الي الحياة. وقد يكون هذا سبب مغامرتي ومقامرتي مع الحياة، وعبثي معها. وشكرا للدنيا أنني مازلت  بذهن صاف ، أقرأ وأكتب واستمتع بالفكر والثقافة والفنون. ومازلت أقف علي أرجل تمشي رغم الوهن، والغضروف، والتعب السريع.فقد سمحت لي الدنيا - حتي الآن - بالمشي في الأسواق والمكتبات.والتمتع بمعدة تأكل الفول، والرجْلة رغم (القاوت) وتحذيرات الأطباء التي أطبق عليها الوصية:" شاوروهن وخالفوهن". وتركت لنا الدنيا عيونا تقرأ، وتستمتع باللوحات الفنية البهية،وبهبات الطبيعة والفصول، وأحيانا قد " تبصبص" للصبايا.كما حبتني الدنيا رغم السنين  يلسان يتذوق الشاي بكل اشكاله ومنابته، وبالحلو مر، والشربوت، والدليخ، والكُسكُسي. وسمحت لنا الدنيا بأذن مازالت تصغي  لعثمان حسين، وفيروز، والشيخ إمام و(Donna Summer).وتركت لي أنفا يستمتع بشم النعناع، والياسمين، وفواح الحنّا في الامسيات عند اركان بيوت القرية،والرياحين،ورائحة العشب المبلل – مثل ويتمان- عند التهذيب أو عقب المطر،ويستنشق ال(aramis)  عطرا هادئا.
  فعلا كتر خير الدنيا،ليس في هذا قناعة زائفة وزهدا في الحياة، وبعدا عنها، بل هم الامتنان والرضى والسعادة الداخلية الحقيقية. لولا  أننا في تواطؤ مع الدنيا، قد اتلومن مع الوطن ، فحدث له ما حدث، لكنت كامل السعادة علي المستويين الشخصي والعام.وهناك مثل عميق يقول:- " اذا لم تجد  شهيتك فلا تلم الطعام".وبالفعل عليّ أن أعدد النعم واتحدث بها، وأعيد القول : كتر خير الدنيا ، فقد أعطتني الكثير رغم أنني في أحيان كثيرة كنت " استل من الشوك ذابلات الورود". قلت لأحد الاصدقاء : لم يعد لنا حق الحديث عن الأمل والمستقبل بل حق تذكر الأجمل، والذكرى ليس مجرد حنين للماضي ولكنها زينة للحاضر وتفاخر خفي مع الدنيا بأنك لم تفرط في جعل الحياة تستحق أن تعاش.وكتابة السيرة الذاتية هذه من إغواءات الشيطان اللذيذة حسب الآية الكريمة :" فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك علي شجرة الخلد وملك لا يبلي"(طه:120).وهذه من المحاولات غير اليائسة في البحث عن ذلك الملك.فالحياة مثل التاريخ، ليس فيها : لو، ما حدث هو الذي كان يجب أن يحدث ولا شئ غيره. لذلك لم أعرف الندم:" تفيد بايه ياندم؟".ولم ادخل في الحسد ولا التمنى، ويعيب( عمر بن ربيعة) ذلك ولكن قصد النساء فقط:" وكم مالئ عينيه من شئ غيره".ولا أكرر القول الدارج: ولو عاد الزمن كرة أخري لعشت نفس حياتي. بالتأكيد لن أحاول نزول النهر الواحد مرتين، سأعيش حية أخري ولكن بنفس الرؤية والمبدأ.
بدأت الآن النزول من الجانب الآخر من الجبل، في تمهل، مما يجعل التأمل ممكنا في هذا التجربة العجيبة التي تُسمي الحياة.وتظل لغزا عصيا عن الفهم ولكن تُعاش. فنحن  لا نعرف كيف جئنا ولا متي نذهب؟ ومع ذلك نجيب، ومن خلال الحياة نفسها، علي سؤال: لماذا نحن هنا؟ وقد ثار رجال الدين علي قصيدة من غير ليه التي تقول:
جايين الدنيا ما نعرف ليه
ولا راحين فين
ولا عايزين ايه
    داهمتني أسئلة الوجود الكبرى مبكرا، لذلك سارت حياتي في دروب مختلفة جعلت مني غريبا ومغتربا في سن غضة، يسهل فيها تشكيل رؤية الإنسان للكون، والإنسان،والمجتمع. ففي الرابعة عشر من عمري ومع وفاة الشاعر(إيليا أبوماضي)(1889-1957) حين كثر الحديث عنه.قادني حب الاستطلاع لقراءة ديوانه( الجداول) فامتلكتني قصيدة( الطلاسم) وصرت أردد معه:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت

ولقد أبصرتُ قدامي طريقاً فمشيت

وسأبقى ماشياً إن شئتُ هذا أم أبيت

كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟

لست أدري
وكثيرا ما استوقفني المقطع الحائر وعمّق شكوكي وقلقي وبحثي عن اجابة، بقوله:-
 
قد سألت البحر يوماً : هل أنا يا بحر منكا؟

هل صحيحٌ ما رواه بعضهم عني وعنكا؟

أم ترى ما زعموا زوراً وبهتاناً وإفكا؟

ضحكت أمواجه منِّي وقالت :

لست أدري
وتعرفت علي (عمر الخيام) من خلال كتاب( إلمازني) المعنون(حصاد الهشيم)، وكان مقررا في السنة الثالثة ثانوي. وقد ساهم كثيرا في تعميق حيرتي وشكي. واتخذت من (الخيام) مرشدا ومعينا لحل ألغاز الحياة أو التعايش مع تقلباتها بدون تنازلات. ولم أكن أنوي تقليده، لأن التقليد يناقض السلوك الوجودي، والوجوديون يقولون:" لا يشعر بشعور الشخص إلا الشخص نفسه". وقد ارتبط ( الخيام) عند الكثيرين بحبه للخمر وتمجيدها. ولكنني أكره الكحول وكل أنواع المكيفات، ليس لأسباب دينية أو أخلاقية بحتة، ولكن لأنها تُنقص الحرية من خلال عادة تفرض علي الإنسان نداءات وأوامر من خارجه يعجز عن رفضها أو مقاومتها.ولكنني كنت أقول : لو وجدت نبيذ الخيام لجربته، لعل فيه كشف لمستور. فهو يقول مناجيا خمره:
سأنتحي الموتَ حثيث الورود
ويَنمحي اسمي مِن سجِل الوجود
هات أسقنيها يا مُنى خاطري
فغايةُ الأيام طولْ الهجود
ولكنني فضلت السير معه في نفس دروب الحيرة، وقد ذهب بي بعيدا ، خاصة حين يقول:
لَبستُ ثوبَ العيش لم أُستشَر
وحرتُ فيه بين شتّى الفِكَر
وسوفَ أنضو الثوب عنّي ولم
أُدرك لماذا جئتُ ، أينَ المفر
عندما تجاوزت العشرين، وهي نصف سن النبوة، تزايد صراعي مع الحياة، وتفاقم شعوري بلاجدوى الحياة وعبثيتها. وصار شعاري هو مقطع شعر (أبي العلاء المعري):" تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب قي ازدياد". ولم أعد راغبا في ازدياد لكي لا يعجب ( أبو العلاء) من قلة عقلي. ووجدت فكرة الإنتحار مكانا متقدما في تفكيري ولم تعد غريبة أو شاذة. ويبدو أن اعتلال صحتي المستمر قوى في داخلي أحساس الفناء.ففي تلك السنة، أصبت بيرقان ولم يكتشفه الأطباء بل نبهني فنان لمرضي.فقد كنت اتردد علي كلية الفنون بالمعهد الفني كثيرا،وفي إحدي المرات صادفني الاستاذ(ربّاح) فنظر إلي بطريقة غريبة ويصيح فيّ:-
-    ياولد أنت عندك يرقان شديد أمش بسرعة لدكتور.
ولكن يظهر أن الحالة كانت متأخرة علي معالجة الطب الحديث، فذهبت سريعا للبصير(ود مختار) قرب سوق السجانة،ليضع علي كل ذراع 7 كيات من النار قال أنها طريقة جديدة للأفندية، فهي علامات نار أقرب للدوائر الصغيرة. ومنعني من أكل كل ما هو دسم. ورقدت في بيت( حسن بدري) في الإشلاق الغربي بالخرطوم غرب. وكان يمارضني صديق في سني هو( عوض الله عبدالرحمن القُلّقُ)، ويصر علي اغاظتي بالتهام ما أنا ممنوع منه.ذهب إلي (الدويمات) لعيد الأضحي، واصيب باليرقان ولكن مع لحوم خرفان الاضاحي، ساءت حالته، نُقل لمستشفي (أم درمان) وقد تورمت أطرافه وصارت صفراء فاقعة.وبعد اسبوع مات(عوض الله) وعشت بعده أكثر من نصف قرن! هل هناك عبث أكثر من هذا؟ ولذلك كان لابد لي أن أطبق قول المتنبي:" ولا تلق دهرك إلا غير مكترث".
ولكن في عام1970 زاحم فكرة الإنتحار  في رأسي خياران آخران، وصارت ثلاثية الخلاص عندي، تقول: إمّا الإنتحار، أو التصوف ،أو الهجرة البعيدة بلا عودة. وبالمناسبة القاسم المشترك اللأعظم بينها هو: الموت،فالإنتحار موت مادي مباشر، والتصوف إنتحار عقلي، والهجرة أن تقتل تاريخا وعمرا سابقين، لتبعث من جديد في الغربة والمنفي المخالفين جذريا عن نسغ وروح الوطن. ويبدو أنني لم أطلق الحياة ولم أيأس يأسا بائنا، وأبقيت شعرة معاوية ،وأنا ممانع وراغب فيها، علاقة حب-كراهية في تناولها. ولذلك إنتصر خيار الهجرة، وهذا يعني غياب الخيارين الآخريين بلا رجعة.            
كنت قد عثرت في أوراقي القديمة علي نص بتاريخ31/12/1963 تحت عنوان:-" حصاد عام"، يبدأ هكذا:- " لا أدري هل أقول لقد سقطت زهرة من شجرة حياتي بانتهاء العام الماضي أم أقول:لقد تفتحت واحدة جديدة بقدوم العام الآتي؟لو قلت الاولي أعد متشائما.ولكن سأجمع شجاعتي وأقف لحظات مع عامي المنصرم وأقدم كشف حسابي في هذه الليلة التي اختم بها حولا كاملا من عمري الضئيل الخالي: ماذا جنيت من عامي المنصرم؟وماذا أعطيت؟وماذا كتبت في صفحة حياتي من تجارب خلال تلك الأشهر؟" واضيف:-"ببداية ذلك العام المنصرم كنت قد قضيت عشرين عاما علي هذه القطعة الطينية التي تسمي الارض وكان يمكن أن تختزل في عام واحد،فكلها تكرار وإعادة ولكنني لم املّ هذا التكرار بل كنت اتقبله علي أمل جديد،ولكن كل عام يجيء علي صورة من سابقه". وكان من محفوظاتي فول لمجهول:" إنها الأرضُ مَنذورةٌ للشّقاءْ".
   من الواضح أن  الحياة عندي ليست عبثية تماما ولهذه الدرجة التي أصفها بها أحيانا.ولذلك لماذا لا تجرب – وانت الوجودي المغامر- دروبا أخرى فيها؟ وكان قراري، نحن البشر، لكي نستحق هذه الصفة، وايضا شرف الخلافة علي الأرض ،لابد أن نملأها بالمعنى والجدوى.ولذلك،عليّ أن أقوم بمشروع وجود ظل ومازال يتحقق. وهذا هو فعل الحرية والاختيار الذي يحوّل المشروع إلي وجود، وحياة ملموسة، ومصير. فالإنسان محكوم عليه بالحرية – كما قال سارتر- وسرنا معا، الحرية وأنا.وكل حرية تتضمن المسؤولية ومشروطة بها، وهي تجسيد العيش في خطر الذي قال به نيتشه. فالإنسان لا يستند إلا علي ذاته، ولا يبحث عن أي تبرير هروبي لأفعاله وسلوكه، ولا يلجأ لحائط مبكى أو مشجب. وفي نفس الوقت لا يتوقع من محاسنه وفضائله، جزاءً ولاشكورا. ويقول(أبوالعلاء المعري*:
        ولتفعل النفس الجميل لأنه     خير وأفضل لا لأجل ثوابها
وهذا نبل بلا حدود وجوهر الإنسان الصادق والحر. وهذا يعني الخروج عن كل ما هو نمطي، وعادي، ومألوف أي مفارقة عقلية القطيع وأمنه.وهذا المقصود بأن  الانسان موقف، وكان عليّ أن أعاني كثيرا للتمسك بالموقف أو جمرة الوجود الحارقة. وهذا كان يعني بالنسبة ليّ، تمرينا صعبا ورياضة صعبة أمارسها طوال العمر. كان عليّ تقليل الفجوة أو الغائها تماما، القائمة بين داخلي وخارجي، الاتساق بين القول والفكر والفعل، رفع التناقض الوجودي: عدم مفارقة السلوك للأفكار والأقوال. وتنبهني وتحثني دائما الآية الكريمة:" كبر مقتا عندالله أن تقولوا ما لا تفعلون".وهناك قول جميل ل (أرسطو):" ليست الشجاعة أن تقول كل ما تعتقد ولكن الشجاعة ان تعتقد كل ما تقوله".
   لذلك، كان لابد أن أنشأ صريحا، وناقدا، وساخطا، ولم تساعدني حياتي الخاصة ولا تكويني النفسي، ولا المجتمع والبيئة، علي تجنب ذلك. كنت حتي بلغت الثامنة والعشرين وبالضبط حتي هجرتي لألمانيا، كثير المرض وضعيف المناعة. وقد يكون السبب لكل ذلك عجزي عن التكيف مع مجتمع كثير النفاق، ويتميز أفراده بعدم الصدق والتعبير عن مشاعرهم الحقيقية،وينسبون ذلك " للأدب السوداني"، والتهذيب، والمجاملة. وكثيرا ما أبدو مصادما، ونشازا، بل وعدوانيا لدي البعض، ولكن كل سلوكي وطبعي يقوم علي رفض الكذب مهما كان لونه، وعدم التعبير عن المشاعر الحقيقة أمام الشخص لا في غيابه وخلفه. ويتوجب علي مثل هذه الشخصية أن تحمل علي كاهلها عبئا ثقيلا ومرهقا. وكانت حياتي ملحمة من المصاعب والصدمات، ولكنني عشت سعيدا لأن مطالبي من الدنيا قليلة ، فالزهد فيها أكثر ما يفسد أسلحتها في أن تملكك.وكانت التعويذة القاهرة في دنياي هي : الأمل، وعند كل منعرج هابط، أردد:" ما ضيق الحياة لولا فسحة". ومع التعاسة الظاهرية التي لازمتني، اتذكر القول:"لقد خلق الامل لهؤلاء الذين لا أمل لهم".وقبل فترة قرأت مقابلة مع المخرج الايراني(محسن مخملباف) قال فيها: " الحياة عبارة عن تفاحة اغراء تدفع الناس في سعيهم اليومي الي اقتناص لحظات السعادة والصدق وامساك نبضها وزخمها.الحياة اهم من الفن".(صحيفة الحياة اللندنية2/3/1998). وفي مقام آخر: "سئل عبد ربه التائه :هل تحزن الحياة علي أحد؟"أجاب:"نعم..إذا كان من عشاقها المخلصين".( في" اصداء السيرة الذاتية"لنجيب محفوظ). ظللت  محبا للحياة دوما، وعملت في ظروف صعبة: المنفي، الغربة، والهجرة، وعدم الضمانات.ولم انتظر حتي تجئ الظروف الملائمة. ولم أذهب لوادي عبقر مثلا لأكتب، وأقول :" إن الالهام هو القدرة علي ان يصنع الانسان لنفسه انسب حالات العمل".
•    هذا هو الفصل الحادي عشر والأخير من سيرة ذاتية ستصدر مطلع الشهر القادم عن دار الحضارة – القاهرة، بعنوان:" أزمنة الريح والقلق والحرية- سيرة ذاتية".
ينشر هذا الجزء بمناسبة العام الثاني والسبعين من الدهر(11/5/1943)

hayder.ibrahim.ali@gmail.com

 

آراء