السودان مجتمع مثقل بالثقافة الدينية العالمة والشعبية التي تتجاور فيها أو حتي تتساكن فيها، الخرافة مع العقيدة. وفي كثير من الأحيان قد يحدث التعايش والتثاقف بينهما، لدرجة لا نعرف أين تنتهي الخرافة وأين تبتدأ العقيدة؟ والسودان بلد هجين وخلاسي في كل شيء، ليس فقط في الألوان والأعراق. كما أنه في حالة إنتقال، بدت وكأنها القاعدة وليس الاستثناء. ويكاد السودان أن يكون صدفة تاريخية، وجغرافية، وسياسية أيضا. وقد اختصر الصحفي البريطاني(أنتوني مان) في كتابه عن السودان، والصادر عام1954، الأمر حين فبرك مثلا عربيا خياليا قوله ما يلي:(When God made the Sudan.He laughed)، وعنون كتابه:(Where God Laughed. The Sudan To-day).لا أدري هذا الخواجة أن يقول أنه بلد مسخرة؟ لا أظن ، ولكن أدهشته التناقضات. فقد جاء لتغطية انتخابات تقرير المصير، فوجد حزبا يسمي( تقدم السودان)برئاسة العم( أزرق) يطالب ببقاء الاستعمار25 عاما أخرى(نشر دستوره ص176 بالعربية).ولم يستطع السودانيون التعامل مع هذه التناقضات الهائلة.ولكنهم ظنوا أن الحل يكمن في معضلة وهم أسموه " الهوية" وهي تعني الإجابة عن سؤال: من نحن؟ ونسوا أن المرء حين يبدأ بتساؤل مثل: من أنا؟ يكون- بالتأكيد- قد دخل مرحلة التيه والارتباك الثقافيين، بكل ما يحمل ذلك من اختلالات أخري.
السوداني شخصية مركبة، وذو نفسية وعقلية أقرب لجبة الدرويش أي تجمع كل الألوان. ففي داخل تتصارع مشاعر وعواطف واتجاهات شتى، وهذا ما يفسر- لحد ما- أنه لا يعبر عن مشاعره الحقيقية، ولا يستبعد أن يتعمد ذلك مجاملة.ولكن في كل الأحوال، علي حساب اتساق الشخصية. وهذه السمات نجدها بوضوح لدي المتدينين وأصحاب الايديولوجيات والعقائد، لأنها تتطلب ارتقاءً في التفكير والسلوك، يظهر مثاليا لحد ما. وقد أظهرت لنا تجربة حكم الإسلامويين، كيف يمكن أن يتعايش التدين، والفساد، والكذب، والشهوات في شخص واحد. كما نجد التقدمي أو اليساري، صاحب الموقف الرجعي المتخلف من المرأة، كما يطلق صفة
" عبد" ببساطة وجانية.والفتاة المحجبة التي يمكن أن تقيم علاقات خارج الزواج.ويبدو لي أن فترة المراهقة تنضج كل هذه التناقضات في الفرد، وفي نفس الوقت تتبلور الشخصية نهائيا. ومن بعض مظاهرها أنها تمثل مرحلة شك ديني عند الشباب الذي اندرج في التعليم الحديث مقابل الخلوة والمعهد الديني.ولكن قد يطال هذا الشك أصحاب التعليم الديني ايضا، مثل (التيجاني يوسف بشير) القائل:يؤلمني شكي. ولم أكن استثناءً في هذه المرحلة، لم أكن متدينا لأن والدي لم يكن متشدد، وجدي(أحمد) المتشدد كان يدللني ،فهو يوقظ أبناءه بغلظة ، صباحا للصلاة، ويتركني أكمل نومي.لقد كانت اسئلتي وشكوكي مختلفة، وقد واجهت في البحث عن اليقين مشكلة الظلم والحرمان والفقر وهل تتسق مع العدالة الالهية؟ وكيف يمكن التوفيق بين أوضاع العالم هذه والإيمان؟ كان السؤال كبيرا في ذلك العمر فهزني كثيرا.وحاولت أن أركن جزئيا للآية الكريمة:" إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم".ثم كان عليّ مواجهة سؤال البشرية السرمدي:الموت. فهو مفزع، وقد تكون مقدماته أكثر افزاعا: الشيخوخة، والمرض، والعجز.ولشد ما يقلقني " الموت الفجأة"الذي أرآه باستمرار "خبط عشواء" أي حين يموت من لم يكمل مشاريعه وأحلامه. ويري (المتنبي) مثل هذا الموت نوعا من الفتل،أو حسب قوله حرفيا:
إذا ما تأملت الزمان وصرفه
تيقنت أن الموت ضرب من القتلِ
كان(أبو ذر الغفاري) يحدد المكروهين عند الناس، وهما: الفقر والموت.ومن المفارقات، كنت عندما أسأل أحد الإخوة الفلسطينين عن الأحوال، يرد:
عاشين من قل الموت! مع أن الموت "طنّ" باستمرار في تلك البلاد،كما قال(أحمد عبدالمعطي حجازي) .
وقد أردد مع خيال عمر الخيام :ـ
ودنياك دار القرى للنزل
وللدار بابان نور وظل
فكم طارق إثر آخر حل
ليرتاح يومين ثم إرتحل
اين تذهب تلك الوجوه الجميلة البهية بعد ان تمر عليها عجلات الزمن؟لا اؤمن بالعدم والغياب الأبدي،يبدو لي احيانا ان الدهر لديه مكان مثل متحف مدام تسود للشمع يحتفظ فيه بهذه الروائع البشرية، وهذه هي الأطياف، والأحلام وحتي الأشباح التي تزورنا مرارا. وحيل التملص من قبضة الموت كثيرة، وطرق إدعاء الخلود تمتد من بناء الأهرامات وتاج محل، وكل الفنون،(هزمتك يا موت الفنون جميعها- جدارية درويش)، ووصولا إلي كتابة السير الذاتية مثل هذه. فالذكرى محاولة إعادة الحياة وعيشها مرة أخرى بطريقة تجريدية وخيالية في نفس الوقت.ولكنها متعة زائلة،سريعة التلاشي، مثل وضع قطعة سكر وسط لسان لاحقته مرارة الواقع وبالذات الفقد. ويهرب البوذيون إلي(النيرفانا) وتعرف بأنها:" حالة الخلو من المعاناة" أو" حالة الانطفاء الكامل التي يصل إليها الإنسان بعد فترة طويلة من التأمل العميق، فلا يشعر بالمؤثرات الخارجية المحيطة به على الإطلاق، أي أنه يصبح منفصلا تماما بذهنه وجسده عن العالم الخارجي"،.والهدف من ذلك هو شحن طاقات الروح من أجل تحقيق النشوة والسعادة القصوى والقناعة وقتل الشهوات، ليبتعد الإنسان بهذه الحالة عن كل المشاعر السلبية من الاكتئاب والحزن والقلق وغيرها. ويصل الكهنة البوذيون والفقراء الهنود إلى حالة الـ (نيرفانا) بعد فترات طويلة جدا من التأمل العميق. وهذا يذكرني بقول الشاعر المجيد، الحزين ، البائس والذي أحبه كثيرا( صلاح عبدالصبور) :
أنا رجعت من بحار الفكر دون فكر
قابلني الفكر ، ولكني رجعت دون فكر
أنا رجعت من بحار الموت دون موت
حين أتاني الموت، لم يجد لديّ ما يميته،
وعدت دون موت .
ويروي عن (بلال بن سعد):-
"داركم وحدها،تتغير،أنتم
للبقاء خلقتم،
ولم تخلقوا للفناء"
كانت صفقة دكتور(فاوست) مع الشيطان، في مسرحية(كريستوفر مالرو)، والتي قررها علينا مستر (آتكنز) في معهد المعلمين، تعبيرا عن خلود مؤقت أو تكثيف للحياة بمتعها وشهواتها ومعرفتها، يقلل من مرارة الفقد والموت.ولكن هذا الوضع يضاعف الفزع مع اقتراب نهاية الصفقة. فهل يضطر المرء لمثلها لاقتناص بضع سنوات لاكمل بعض ما بدأته؟
الحياة الغنية المليئة تهزم الموت جزئيا أو تقلل من سطوته .لذلك تجدني شديد الاعجاب بالشعراء الصعاليك في لهوهم مع الحياة واستهتارهم بها،فقد عاشوها كاملة بلا خوف أو ملق.ويهزني( عُروة بن الورد) حين يقول:
إني امرؤٌ عافى إنائي شركة.. و أنت امـرؤ عافى إناؤك واحـد
أتهزأ مني أن سمنتَ وأن ترى .. بجسمي شحوب الحق،و الحق جاهد
أفرق جسمي في جسوم كـثـيرة .. وأحسُ قراح الماء،والماء بارد
وقد جاراه آخر نثرا(نسيت القائل):" و يطيب لي أن أوزّع نفسي على الأشياء، خصوصاً على تلك التي لا تتوقّف جراحُها عن النّزيف.
وكنت قد حلمتُ بأنّني أبَحْتُ لدمي أن ينثر ما يشاء من حمرته على شقائق النّعمان العربيّة التي هي نفسها الشقائق التي نبتت في الأسطورة من دم أدونيس".
******
يري الكثيرون أن الإنسان خلق هلوعا، ولكن كراهية الموت والخوف منه، لها سبب
آخر. فالإنسان الذي أتي إلي هذه الدنيا بغير إرادته، لا يريد أن يغادرها دون أن يحقق أقصى ما يمكن من رغبات. ويقال أن أشياء كثيرة في الإنسان تضعف وتذبل مع الزمن، ما عدا طمعه.الطمع ليس الوصف الدقيق لأشواق الإنسان التي لا تنتهي، بل هو الأمل.فهو صاحب يوتوبيا( وهي كلمة تعني الموجود في اللا مكان) شخصية، وليست مجتمعية فقط. وهذه اليوتوبيا هي ما نسميه( السعادة) وقد تكون(اكسير الحياة)، وكل أعمارنا هي بحث عن ذلك الحلم وإنزاله لأرض الواقع.وتتفاوت التصورات للسعادة، وإن كان الكثيرون قد اختزلوها في متع مادية أو مقتنيات. وقد ساعدني أحد الحكماء، منذ زمن مبكر، في تحديد ماهي السعادة؟ فرد:" كثير من الكتب وقليل من الأصدقاء". وفي نفس الاتجاه كتب(هشام شرابي) أنه أحبب شيئين فوق كل شيء آخر:"الكتب وأصدقائي فقد بدت لي حياتي مليئة وحافلة بالأحداث.ولم أكن ادري أن الكتب قد تصبح وسيلة للهرب والاختباء،وأن الصداقات تنفصم ولا يبقي منها إلا الطعم المر".(مقدمات لدراسة المجتمع العربي.بيروت،الدار المتحدة للنشر،1975:11).التصقت بالكتب أكثر،أما الصداقات فعندي منها الكثير والأهم من ذلك أحباء لم التقهم مباشرة،وهذه نعماء كبرى.ولكن كل هذا لا يزيل الطعم المُر ولا الدهشة والحيرة،لإنفصام صداقات قوية وعميقة بلا أسباب ولا حديث أو "لم يقل حتي وداعا في الرحيل".السوداني وبالذات أغلب الأفندية أو المثقفين، لهم أمزجة متقلبة وقرارات عشوائية في العلاقات الإنسانية. لقد أفسدتهم حياة التنافس التي تمتد من العشرة الاوائل في المدرسة الابتدائية حتي الشوق للتوزير ولصفة المناضل والمفكر والناشط. فالأنا المتضخمة لا تفسح مجال في داخلها لحب آخرين.كما أن الاستقطاب الايديولوجي الحاد، جعل الصراع والتنافس يسودان في رسم العلاقات. وهذا الإنقسام بين يساريين وشيوعيين وبعثيين من جهة مقابل إسلاميين وطائفيين وسلفيين من جهة أخرى، حفر خندقا فاصلا، وشرخا داخل المجتمع وخاصة بين النخب. وفي حالة مشابهة، يقول( جورج اوريل):" تعتبر الكاثوليكية والشيوعية علي حد سواء ان الخصم لا يمكن ان يكون صادقا أو ذكيا.ضمنيا كلاهما يعتبر ان الحقيقة قد كُشفت سلفا".(مقالة عن الابداع والحرب نشرها عام1946). ومما يزيد الوضع سوءا في السودان عملية خلق النجوم والحنين للابوة بين المثقفين – للمفارقة. وكنت حسن الحظ ونجوت من فخ البحث عن أيقونات وأصنام، وهناك مثل صيني معبر،يقول: " صانع الاصنام لا يعبدها لانه يعرف المادة التي صنعت منها".
اتسلي في الزمن الأخير بـأبي العلاي المعري في نظرته ومواقفه من الناس والدنيا(أم دفر).وقد تجاوز في حزنه وخيبة أمله (المتنبي)كثيرا ،لأنه صاحب علة بالإضافة لنكد الدنيا.ويختلف عن (المتنبي) في الطموح والتطلع ،الذي يظن أنها قد بسمت له وستحقق آماله، ولكن:
أظمتني الدنيا فلما جئتها مستسقيا مطرت عليّ مصائبا
وهو القائل:
ومن صحب الدنيا طويلا تقلبت علي عينه حتي يري صدقها كذبا
أما (أبوالعلاء) فقد فضّل العزلة والابتعاد،لأن البشر لا قيمة لهم ولا فائدة:
وزهدني في الخلق معرفتي بهم وعلمي بأن العالمين هباء
وعي المستوي الشخصي تعرضت في السنوات الأخيرة لكثير من المرارات والعداوات ،بسبب ما يظنه البعض نجاحات لا استحقها. ولكنني لن افعل مثل (دويد بن زيد الحميري)، إذ يروي أنه جمع أبناءه حوله وهو يحتضر،وقال لهم:"أوصيكم شرا بالناس !".
التاريخ السوداني والعربي – الإسلامي، غريب عجيب، فهو ملئ بالموت، والقتل، والتعذيب. ويعود ذلك للنزاعات القبلية والثأر ثم لنظم الحكم الاستبدادية، كما أنها ثقافة تقدس الموت أكثر من حبها للحياة. وهي مجرد محطة في سفر سريع، فالدنيا متاع للغرور أكثر من كونها مجالا للعمارة وممارسة لواجب الاستخلاف. من ناحية أخرى، كان الاستبداد يدرك جيدا مقولة أن من جاء بالسيف بالسيف يذهب. ولذلك بالغ في ترويع خصومه ومعارضيه، ونشر أجواء لا تنهي من الخوف. وتفتقت أذهان القائمين بأمر حماية السلاطين عن أساليب لا تخطر إلا علي عقول ممعنة في شذوذها. وقد أصدر الباحث (عبود الشالجي) كتابا عنوانه (موسوعة العذاب) أوردها أنواعا من التعذيب والوحشية تفوق كل خيال. وتتراوح من الشتائم المختلفة، لتشمل الحبس في الغرف الضيقة أو في السرادب، التعذيب بعصر الخصية وجبّ الذّكر، وقطع الأطراف، والسّمل، وطرق مختلفة للقتل بالسيف منها التوسيط أي ضرب الإنسان من وسطه بالسيف، وقطعه قطعتين ثم طوره السلطان (محمد بن تعلق) سلطان الهند (725-752) فكان يقطع الرجل بقطعه لثلاث قطع. وهناك أيضا الخنق، والشنق، والتغريق، دفن الإنسان حيا، البناء علي المعذّب أو هدم البناء عليه، التعذيب بالنار والماء المغلي، والقتل والتعذيب بالسلخ أو تمزيق البدن. . . الخ. ولم تنج النساء من أنواع أخري للتعذيب أو الترويع مثل وضع رأس المقتول في حجر زوجته المفجوعة. واغلب الناس كما تظهر كتب التاريخ-ماتوا بالعشق أو بالسيف.الكثيرون ماتوا عشقا وليس من النادر أن نقرأ حكايات مثل عروة بن حزام الذي أحب عفراء ابنة عمه،ولكن زوجت الي غيره ،بدون ارادتها،فمات حزنا.ووضاح اليمن يقال أن أم البنين زوجة الخليفة الوليد بن عبدالملك، عشقته وعشقها،وحدث مرة أن سمع الوليد بخبر وجوده عندها،فاخبأته في صندوق أخذه الوليد ودفنه حيا في بئر في حديقة داره،سنة90 هجرية.(ادونيس ،الكتاب،ص258).
*****
حاول الكثيرون اسقاط ما اعتبروه خطا وهميا، مثل خط الاستواء بي الموت والحياة في بحث عن خلود أوعدم الفرار من مشقة الحياة بالموت والفناء،.ويروى أنه " حُبس (أبومحجن الثقفي)لأنه قال:
إذا متُّ فادفنّي إلي جنب كرمة تروي عظامي، بعد موتي،عروقها
ولا تدفنّني بالفلاة،فإنني أخاف،إذا ما متّ، أن لا أذوقها
قال(حسين مروة) في مقابلة صحفية:" ولدت شيخا وساموت طفلا". وفعلا لا تدري نفس بأي أرض أو بأي رصاصة ،تموت.
ومن موقف تداخل الموت بالحياة، كانت مراسيم دفن الفنانة(صباح) في يوم30 نوفمبر2014 وقد جاء في وصيتها:" أفرحوا وأرقصوا لا تحزنوا"، وبالفعل عزفت موسيقى الجيش طوال اليوم وخلال الدفن.وقد ودعت جنازة (صباح) بالموسيقي والدبكة. وكانت لها علاقة غريبة مع الموت،فقد تعرضت لحادثين فاجعين.الأول كانت مع شقيقاتها في طريق العودة من مدرسة(الجيزويت)عند الظهيرة،فأصاب اختها(جولييت) الأكبر سنا،والتي كانت تسير في المقدمة،رصاصات من قنّاص مجهول،فماتت في الحال.والحادث الثاني،فقد ظن أخوها أن والدته علي علاقة مع رجل،فما كان منه إلا أن قتل أمه والرجل رميا بالرصاص وهرب إلي البرازيل.
وكان يمكن أن تطلب(صباح)،بمرحها المعهود،أغنية في وداعها الأخير.وقبل ذلك،وقف الفنان(الكحلاوي) في المقابر عند مراسيم دفن صديقه الفنان(إبراهيم الكاشف)، مغردا بأعلي صوته:
وداعا روضتي الغنا
كما أن صديقنا التشكيلي الفلسطيني(برهان كركوتلي)طلب أن تقام(دبكة)ساخنة قرب قبره في مراسم الدفن، وقد حدث حين دفن في(فرانكفورت).
بينما يودع أمثال هؤلاء المحبين للحياة ،قد نسمع صوت (فيروز) يشق الفضاء الميت والخاوي، مرددا بحسرة ولوعة:
......وين وجوهم صار في وادي بيني وبينهم
وينم..ركبوا عربا ت الوقت وهربوا في النسيان
وتركوا ضحكات أولادهم منسية علي الحيطان
تركوا لي المفاتيح..
تركوا صوت الريح..
وراحوا ما تركوا عنوان..
وقد يواسيها(الخيام) بلا جدوى، قائلا: " لا السما ارجعت ولا الارض ردت راحلا فات أهله والصحابا".
يواصل( صلاح أحمد إبراهيم) معاركه ، وهذه المرة مع الموت، في قصيدة
( نحن والردي) حيث يتفاخر أمامه بلا خوف:
لم نبد للموت ارتعادا أو فرق
نترك الدنيا وفي ذاكرة الدنيا لنا ذكر وذكرى
من فعال وخلق
ولنا إرث من الحكمة والحلم وحب الكادحين
وولاء، حينما يكذب أهليه الأمين
ولنا في خدمة الشعب عرق
هذا نوع آخر من الخلود: الذكري الطيبة والافعال المجيدة.ولا أدري ماذا كان يقصد أمير الشعراء(شوقي)، فعندما توفي الشيخ(محمد عبده)عام 1905م أرسل ثلاثة أبيات لتلقي علي قبر الإمام،ويقول في أحدها:
مفسر آي الله بالأمس بيننا قم اليوم فسر للورى آية الموت
لكن الموت نفسه ليس صورة واحدة للنهاية، فالخاتمة قد تكون من جنس عظمة الحياة أو سقطات الحياة. لذلك لم يكن غريبا أن تتمني الشاعرة( بنونة) ميتة عظيمة مشرفة لأخيها، حين قالت:
ما دايرلك الميتة أم رمادا شح
دايراك يوم لقا وبدميها تتوشح
الميت مسولب والعجاج يكتح
ويروى أن( عبدالله الطيب) كان يتهم (عنترة بن شداد) بالكذب، حين خاطب(عبلة):
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تشرب من دمي
وذلك، باعتبار أن الإنسان في مواقف الموت لا يتذكر سوى حياته وروحه فقط.
يذكر السودانيون بعض صور الموت العظيم ،مثال ذلك( الخليفة عبدالله) في (أم دوبيكرات) حين تيقن من الهزيمة، فرش الفروة مرحبا بموت يغيظ العدا.ويقال أن الشيخ(عقيل)حين قطعت رأسه رفض أن تقع علي الأرض ، فأمسك به ثم مات. ويذكر التاريخ ميتة(عبدالخالق محجوب) ورفاقه،والاستاذ (محمود محمد طه).وهذا ما سماه البياتي:الموت واقفا واعينه الي السماء.أو عتاب(شيخ العرب) للموت، حين أخبر بموت صديق حميم وعظيم،فرد: أماني الموت ما اتلوم.
أي نوع من الموت تريد؟ يقول بعض أهلنا الصوفية:" ان شالله من القوة للهوة" ويتمني آخرون:" من المحبرة للمقبرة".وبدوري أحوّر الدعاء أو الامنية:" من اللاب توب الي وداللحد". هذا موت أعظم في معارك القتال، أن يكون المرء حتي النهاية مع الكتابة والقراية.كذلك ألّأ يمرض ويتبهدل، ويصير عبئا علي الآخرين. هذا امنياتي ايضا، لا أخشي الموت ولكن أمقت الضعف والمرض والوهن، وستقتلني مرة ثانية كلمات التأبين اللزجة، من قبيل:"...كان الفقيد دمث الأخلاق" و"كان اخو اخوان" أو" كان الفقيد محبا لاهله ووطنه" وكل ما له صلة ب"أذكروا محاسن موتاكم". كيف لا تبارون وقد جاء "يوم شكرو". هذه ثقافة غريبة تحرمك حتي النهاية حق التعبير عن امتنانك ورضاك.... وويل للمنافقين.
*******
• هذا هو الفصل الحادي عشر والأخير من سيرة ذاتية ستصدر مطلع الشهر القادم عن دار الحضارة – القاهرة، بعنوان:" أزمنة الريح والقلق والحرية- سيرة ذاتية".
ينشر هذا الجزء بمناسبة العام الثاني والسبعين من الدهر(11/5/1943)
e-mail: hayder.ibrahim.ali@gmail.com
////////////