قرأت على صحيفة مصورة أرسلت إليَّ في بريدي الإلكتروني. وجدت في وسط أحزمة القضايا التي تنتظر يوم العمل العام، ودلفت إلى الخاص. في صفحة من صفحات صحيفة " الرأي العام " قرأت:
الروائي " محسن خالد" يعتزل الكتابة: قليلون جداً هم الكُتاب الذين اعتزلوا الكتابة .. الشاعر الفرنسي الشاب " رامبو" اعتزل كتابة الشعر وهو في مقتبل العمر، وذلك لمروره بحالة روحية صوفية فترك كتابة الشعر ...الروائي السوداني " محسن خالد " بعد نجاحه الكبير في الرواية والقصة حيث قدم روايته الذائعة الصيت " تموليلت " ومجموعته " كلب السجان " وغيرهما. قرر اعتزال الكتابة والاعتكاف للتعبد والتنسك ....
(2) بعد فترة من الزمن: انتقل الصديق الأديب والمفكّر محسن خالد، بين النهر والمقبرة ، فقد ولد في قرية المسيكتاب قرب شندي ،ولكنه عاش ويعيش عوالم مُتغيرة. ظلّ محسن يتغيّر هو من صراع الخلوة والإنسانية بآدابها وفكرها الذي أنتجته. صراع يتشكّل منه رجالا في واحد، لم يعد محسن واحدا، بل متعددا في بطن واحد. هجر محطاتّ، وتأثر ببيئات وأثر فيها. ربما يتطور، وفق منظوره، وربما يتغيّر أكثر مما هو تطوير. قلقٌ يصيب روحه، فيتنقّل من وسط الضجيج، وبين همسات السكون، إلى مكان رحيب آخر. ربما نختلف معه، فمحسن كان شخصا لا أراه منتم، يحب أن يكون شغوفا بالبيئة، يقتات منها ويهجرها. كل دهر يمر عليه، هو في شأن جديد، ولكنه حذق اللغة العربية، ملكت شغاف قلبه. بها كتب منذ عهد الثانوية، كتبا روائية وشعرية ومجموعة أقاصيص وتجارب فكرية. ولكنه يعيش المراحل ويغطس في مائها، ويسبح. ثم يغادر حياتها عندما يصل الشاطئ، ليتنقل إلى النقيض في حبل يتراقص، وقبل أن يهوي، ينتقل بسلاسة لمرحلة أخرى، يصعق التجربة بخيارات متفردة. استمعت لحواره مع مذيعة قناة أم درمان عام 2011. محتفظ هو كان برؤاه، قبل أن ينتقل لشاطئ جديد، ودنيا جديدة. هاجر للندن وابتأس هناك، ثم عاد. ترك الأدب في قمة إبحاره بقواربه، وأعادته تجربة جديدة قديمة الخلوة، ليرى نفسه في هيئة جديدة، وتبع الأرقام في بطن الآيات القرآنية. واستوحى عملا مختلفا، أقرب للتصوف، وبعيدا عن عالم الرياضيات. من قبله حاضرنا دكتور أبو ضفيرة عن القرآن والأرقام، وصار يجمع ويطرح ويضرب ويقسم متجاهلا الخاص والعام الذي نعرفه في علم الرياضيات، ولم نصل معه لشيء مشترك.
(3) { كتب كيتس إلى براون قبل موته بعام واحد قائلا: ( إنني أشعر وكأنني ميت منذ زمن، وأنني إنما أعيش الآن حياة ما بعد الموت) ربما صحّت العبارة التي كتبها كيتس، لو قارناها مع حياة وتجارب محسن خالد. ربما يكون هو الآن عالق في يمّ تجربة جديدة، وربما هجر كل شيء. ولكنه رجل مُدهش ليس في ذلك شك، تتوقع أن يفعل أي شيء، غير الذي تتوقعه. * قلتُ لنفسي : وما ذنب الكتابة والقص؟، إذا كان مرجعه في الذكر الحكيم: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} سورة يوسف 3. تركت كل شيء وبدأت أبحث في كتاباتي في " غوغل " 2005، ووجدت ما كنتُ قد كتبت:
(4)
في مساء اليوم الذي جلس فيه الأديب مُحسن خالد قُبالتي وأنا أتصفح المجموعة القصصية ( كلب السجان)، ومعها روايته الأخرى ( الحياة السريّة للأشياء )، كان قد تركها على الطاولة يُسراه، ونحن ننتظر دفء كؤوس الشاي أن تأتينا من نادلة أخرى في مطعم لا يُتقن أهله كيف يقدمون البضاعة. قلت له:
ـ أنا لم أعرف ولم يُسعفني الوقت لأقرأ لكْ. السماوات التي أراها مُتحركة في (سودانيز أونلاين ) لا تترك مجالاً لتتبُع خُطاك وأنت بأصابعك من ( الكي بورد ) وإلى السماء السيبيري مباشرة. ليس لدي الوقت لأتابع إنجاز قصّك المُتحرك. كيف أقتني كُتبك سيدي؟. قال:
ـ ما قصدت ..، أريد أن أقتني كتبك. كيف للشاري أن يعثر عليها والكون بضاعة مُتخمة لا تعرف أنت كيف تبدأ، وأين تقف شارياً ؟. أمن السماء تشتري أم منال المكتبات أو تتسول الأصدقاء أم تقرأ القص السيبيري؟. أنا أتتلمذ على( النتْ ) ووسائطه، مُريدٌ لا يعرف أي شيخ يتّبِع شيوخ الطريقة الفارهة، يطلبون المال لأتعلم ، والزمان لأترحّل، والقلب الرشيق لأبدأ هوى جديداً، يقلب حياتي الراكدة من بعد غياب الأسرة.
قال :
ـ هُما لكْ ..هدية.
قلت في نفسي، أظنه قد ثبت الأجر وابتلَّت العروق. أيها الإنسان كم أنت قليل الأصل. قرار الكرام وقع عليكِ يا نفس وقوع الصاعقة. شكرتّه وأنا في رونق المساء والأضواء الخافتة حولنا. أضاءت نفسي من الفرح. سكنت موسيقى التلفاز، وبدأ حديثاً منه وتقلبت الصور. قلت آخر ما عندي من حبائل التسول:
ـ عزيزي ربما لا تملك غيرهما؟.
قال الروائي مُحسن خالد:
ـ ربما.. ولكن في دارنا مجموعة وسوف ألقاهما مرة أخرى. لو زرتني يا عبد الله ستكتنـز مجموعة كُتب بالمجان، وتقرأ متى شاء لك الزمان أن تقرأ. لتسرع الخطى إلينا فأنا صادق الوعد.
(5)
على المنضدة قرب مرقدي جلس الكتابان فوق بعضهما ينتظران. أنا أتقلب في النوم أو على بوابات الصحو، أو يتعلق ناظريّ ببعض ما يعرضه التلفاز من الأخبار المُتحركة والوسائط الهُلامية التي تطهوكَ على الخبر ومُشتقاته وتقنية الرسائل المُشفّرة للعقل الباطن، وهموم العمل المُحبِط أثقل من حجارة الجبال تتساقّط كيفما اتفق. لم أقرأ ولم أجد ما يكفي من الوقت. الصفحة الأولى من المجموعة القصصية ( كلب السجان ) قالت لي:
ـ قُم يا رجل، أين خُبز العقل، وادعاء الفتوّة الثقافية ؟. أنتم أيها السودانيين تنتقي قراءتكم الصدّفة. تعبون عبّ الجياع، ومن بعد .. تدوسون النِعّمة بأرجلكم!
أمسكت بالصفحة الأولى وبدأت .. فاغراً ألفاه وأنا أخطو ببطء في القراءة. عرفت أني أطأ أرضاً بكراً بعينييّ. سلاسة اللغة وانجذاب التشويق بين الدهشة وحافة الهبوط من القاع إلى العُلا !. يااااااااه كم كُنتُ تعساً في حياتي السالفة.
(6)
لم أكن أصدق أن الفوضى الضاربة من حولي هي مُهلكة لحدّ الفُجور. لم تعُد خزانة الملابس وحدها التي تشكُو. عند كل زيارة لها، أفتح بوابتها فتُقذف وجهي بما شاء لها من الأقمِشة. الكتب مع الأوراق أيضاً تنام أينما اتفق، بل الحاسوب صار يشكو و يُحاسبني على الفوضى تثاقلاً، من الملف إلى الآخر مرَّ السحاب لا ريث ولا عجل. الضفة اليمنى عنده أكثر ثقلاً من اليُسرى. أي سلسلة فقارية تتحمل !. لو أن جلادو مواضي التاريخ يعرفون أن العذاب في الفوضى أكثر إيلاما، لعلموا أن مجموعة الأديب مُحسن خالد القصصية ( كلب السجان ) من بعد أن فقدتّها، عشت تأنيباً للضمير أشد قسوة من كُل العذابات السالفة. عُدة أيام من الحسرة. كأن الدنيا أطبقت عليّ بحوائط حجرٍ باردٍ في منفى بسيبيريا، أيام الدولة العُظمى التي طواها التاريخ بين أوراق أضلعه. أخيرا عثرت على المجموعة القصصية مُختبئة تحت حاشية متاع. كنـزٌ في مقلب قمامّة، بعد أن فقدت الأمل. عادت الروح إلى الجسد البارد وانتفضتُ فرحاً.
(7)
اليوم أنا ذاهب للعمل في قلب الصحراء بسفينة سيرمن عصر جديد، لا يلفحُ وجهك السموم، ولا يُضنيكَ وهج نهار الصيف. السابعة صباحاً انطلقنا، تكييف الهواء وفق ما تشتهي الأنفُس. على يُسراي سائق مُتمرِّس باكستاني الجنسية، قليل حديثٍ باللُغة الهجين بين العربية الدارجة والأوردو وبعض الإنجليزية، تنام جميعها على طريق مُجنـزرةٍ تدحوها دحو الرقّاق!. عصير مُشكّل من الود والوصال شربناه معاً. قُلت لنفسي أكمل قراءة المجموعة القصصية ( كلب السجّان) فهذا هو الوقت وتلك هي الساعة، لنلج عالم "مُحسن خالد " الخاص. المكان الذي نقصُد للعمل يبعُد أكثر من سبعين وثلاثمائة من الكيلومترات عن المدينة التي رحلنا عنها اليوم مُبكرين. في الوقت متسع . بدأت أقرأ واستراحت النفس، وأنا أتقلب في دعة على أرجوحة مُعلقة بأقطار السماء. يلفح وجهي نسيم بارد هو مائدة الصيف عندما يشتد الحر. بدأ العالم من حولي من خلف زجاج السيارة وهجاً شفافاً من النيران أراها وأنا في برودّة المكان حولي كأنني أقرأ عن الصيف ولا أعيشه. قرأت أرتالاً من حاملات كُفوف الراحة لأشرب من حنان اللحظة الهاربة بجمالها من عذابات السودان، قصّ من جمرٍ وذهب. تلتقط ما شاءت لك الصدفة أن يكون الراوي، على شُرفات تُطل على طريق الحياة هناك. قصٌ أخذ من بنية الواقع وأحابيل التقنية المُبهرة واللغة سليمة الأصول والخيال الجامِح.
(8)
قلت أقرأ ماذا كُتبَ على المُغلف وأنا في غمرة الشوق للمتابعة:
كلب السجّان تضم هذه المجموعـة أربع قصص، هي: (عيد المراكب)، (الوجود والوجود الآخر)، (كلب السجّان) و ( ذهب بني شنقول.)
أربعة نماذج فنية نحتتها تجربة أدبية مميّزة ومخيّلة خلاقة، لكاتب يحفر في طبقات متعددة في جسد التجربة، في اختبار للغواية يرجّ الشكل المألوف، وينفذ بالقص، عبر طاقة استثنائية لعمل الحواس، نحو عوالم تشعّ بالمدهش مرئياً ومتوهماً. إنها تجليات قصوى للروائح، والألوان، والملمس، المشهد، الطعوم، فـ(الغوايّة )؛ ومن الغوايّة يبدأ الاكتشاف.
(9)
أكملت قراءة قصة(عيد المراكب ) ورأيت:
كأنني أغتسل من سائل الحنين مُلوناً وأخرج عارياً. بجلد الطفولة، نفسي وقد ارتدَّت إلى الأفق الحاني من جديد. بدأت حياتي مع الراوي. غض الشباب أنا مُترع بفتوّة وخيلاء تجعلني أتمرّغ في الكون من أقصاه إلى أقصاه. تَعب الدنيا ومشاق الحياة تغسلهما بُدرة القص الصابونية. خرجت من فواجع الأيام الكئيبة السابقة وأنا سيّد نفسي أهوى الانطلاق. أبدأ لكم من حيث انتهى الراوي وهو يخُط فرحه قبل فجيعته فيمن أحب، وبعد الفجيعة حين أطبق عليه الحُزن لهباً، أحرق العُمر النضير وسوَّد الأفق. أنقل النص الآن متجاوزاً الحقوق الأدبية مستأذناً من الناشر أنني أقف عند شُبهة الترويج:
قبل الفجيعة : {النهر كان دهراً من لمع الشوق، ولم يكن لحظة ماء عابرة. هناك مركب تَغبَّش بها النهر عن بعد، وفي لوثة من ضباب، كما العقل المرهون لهاجِس خوف وخطر مُقْلِقْ، ثم أخيراً تفتق عن فكرة تنقذه. قدماي مخضرتان حيث يحزّهما ماء النهر الذي وقفت فيه طويلاً، أية خضرة هذه يا ترى؟ أدغدغة حقل يا ربي، لكوني رقعة لآدم من طين وبذور؟ أم عوالق وطحالب الانتظار، لكوني وقفت لملء عمر من السنوات؟ ربما المراكب التي تأتي بسلمى لا ينتظرها الإنسان في نهر. فقد تَزِلّ قدم الشوق عفواً، ويدفع الإنسان ثمن وقعته، وقعة نهر كاملة وبحذافيرها. تمضي نحو مصب مياه كجهة الغروب في لوحة، جهة لا تبلغها شمس الرسم أبداً}.
وبعد الفجيعة:
{الليلة يذهب بها العُمر إلى حيث قَصَّرت بك الأيام. هاك العمر كله، أضحى مُسَوِّساً، ومفتوحاً بالحرمان وغياب أحد كبيوت الأرامل. جاءوا بها بلا كراسات كما هي ليست طالبة الآن. لم تعُدتَهُمّ، ككتابك الذي أخذوه إن كنت تذكر. رائحة درس لم يكتمل تكفي كذكرى من أحد. لا، بل انتظرها عند المُشرَع ستعود، أو هاهنا ، حيث تنام، فقد تصحو مع نوارس البحر الأبيض ،إذ تعلَّقَ بها صِحابها من الملائكة كي تقضي معهم هذا الخميس، فاهِم؟}