كلفة انتقالنا من المعارضة إلى الموالاة
حينما ننتقل بإرادتنا الراسخة من معسكر المعارضة إلى ربوة الموالاة فإننا نرفض في الوقت نفسه التنازل عن حقنا المطلق في النقد والتقويم. نحن مع دولة الثورة المستنبتة من زخم الحراك الجماهيري الفياض. دعمنا الحر للحكومة الوليدة لا يجعل منا ظهيراً صموتاً أخرساً نسبح بالتهليل حين تنجز مهامها أو نغض الطرف عن انحرافها. هو نتاج إيمان بحتمية تسييجها ضد المتربصين من أعداء التقدم ونهبة خيرات الأرض والشعب. نعم نقر لها بمشروعية الخطأ لكنّا لن نغفر التقاعس عن النهوض بالواجبات أو ارتكاب الخطايا. تفويض الوزراء السلطة لا يعني أنهم خيار بنات وأبناء الأمة. هذه الحكومة ليست الإدارة الثورية للمرحلة الانتقالية بل تشكيلة الحد الأدنى بين تقاطعات متباينة حفاظاً على وهج الثورة متقداً بين رماد الإحباط.
كلنا نعلم المخاض العسير المتعثر لولادة التشكيل الوزاري. حمدوك كان نافذ الإدراك عندما أكد على أهمية وجود المعارضة فاعلة بغية إبقاء عصب الحكومة يقظاً مستيقظاً. التقدم يحدث دوماً – كما قال شاعر ألمانيا الشهير غوته – بفضل من يعترضون. غير أننا نمارس حقنا المشروع من على شرفة النقد عن قناعة راسخة بمهمة المعارضة داخل معسكر الدولة من أجل تحريض السلطة والجماهير على الاحتفاظ بطاقتهما الثورية دونما ملل أو فتور. ثمة قناعة أو لنقل مشاعر عريضة وسط الحراك الجماهيري العارم بالتماثل بين نهائيات ثورتي إبريل وديسمبر. في الحالتين نجح قاطعو الطريق الثوري في كبح جماح المد الشعبي عن بلوغ ذروته. حرصنا حالياً على عدم الهبوط إلى سفح الإخفاق على نحو ما حدث سابقاً.
إذا كان قوام التشكيل الوزاري ثلة من المثقفين فلا مناص من تذكيرهم بمقولة فلاديمير لينين، أحد زعماء مثقفي اليسار التاريخيين – بغض النظر عن الإيمان فيها أو الكفر بها – "المثقفون أقرب الناس إلى الخيانة". لعل التذكير ينفع المؤمنين والملحدين في غايات المد الثوري. هذا تذكير لا يشكك في صدقية الرهان على فريق حمدوك بقدر ما هو استنفار لأعضائه من أجل الحرص على شحذ الطاقات بغية الوفاء بالمواعيد الوطنية المعلقة على امتداد رقعة الوطن.
بما أننا ندرك مليَاً ثقل الأحلام الملقاة على كاهل السلطة المجمّعة في حيّزٍ زما سياسي حرج كما نعلم حجم وعدد المتاريس والمطبات على الطريق فينبغي علينا نحن المراقبين حض الشعب على التجمل بالأناة. من غير الممكن تحقيق كل الأماني الوطنية في غضون السنوات الثلاث المحددة نصاً وتكليفاً. في المقابل نلتمس من الفريق الحكومي أداءً يعكس الإصرار على الإصلاح. ذلك هو سر نجاح القيادة في الصين كما شخّصه أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورج واشنطن، ديفيد شامبو. ذلك هو محك اختبار صدقية الحس الوطني إن لم نقل الثوري لدى الفريق المكلف. الشعب يتطلع إلى ترقية الحياة على كل الجبهات بحيث يمسي أقل شقاءً إن لم يصبح أكثر سعادة. ربما يكون مجدياً وملحاً التواصل بين الحكومة والنقابات من أجل التوصل إلى عقد ثنائي يخفف من ضغوط الحركة المطلبية بل يحظر اللجوء إلى إشهار سلاح الإضراب إبان الفترة الانتقالية.
النظام المستبد البائد بث تكريساً ولا إرادياً ضرباً من الثقافة السلطوية عبر سياسة المنح والمنع. من لم يستسلم لمنهج الاستتباع من المبدعين في مدارات السياسة والثقافة لاحقتهم تهم الخيانة الوطنية فحشرتهم داخل جدران المعاقبات أو شرّدتهم بين المنافي والإنكفاء القسري. قلة ممن ظل على قيد المساهمة وجد شيئأ من التنفيس في السرد. لذلك لم يلتفت الحراك الشعبي وقت الإنفجار في وجه النظام الظالم إلى المثقفين كثيراً. نهم التطلع إلى العدل والكرامة الإنسانية كما الحاجات الماسة إلى الغذاء والدواء تكفلت بتحريض الجماهير على الثورة واقتلاع أركان نظام الفساد الجائر.
أصحاب الكفاءات الجدد يبشرون كثيراً بالقدرة على إحداث قدر من التقدم دونما التركيز على مفهوم التقدم المنشود بأبعاده الإقتصادية، الإجتماعية، والثقافية، أكثر من السياسية. كذلك يركزون على تنوع مواردنا لكنهم لا يخوضون في التنوع في القطاعات الإقتصادية المتعددة. في أفريقيا أقطار عدة تشكل نماذج مضيئة يمكن منافستها على صدارة القارة في ماراثون النهوض القومي. فقط علينا القبض على شعلة ما يسمى بالثورة الصناعية الرابعة فهي تعيد حالياً تشكيل خارطة العالم. ذلك عالم محوره الذكاء الإصطناعي، التأقلم مع العصر الرقمي يبدأ من المدارس. تلك مهمة لن يتيح الزمن المؤقت لفريق حمدوك النهوض بها لكنها مطالبة تاريخياً بوضع خطواتنا على مدرج الإقلاع نحو عالم إقتصاد الإنترنت، ربوتات الإنتاج والطباعة ثلاثية الأبعاد.
كثير من الخطب والخطط تكتسب جاذبية على الشاشات والورق غير أنها تصبح جامدة، عاجزة عصية وقت التنفيذ. إما أنها لا تستوعب ظروفها الموضوعية بما في ذلك التحديات الماثلة أمامها أو أنها لا تملك الوسائط المعينة على تنفيذها. عندما فتح ميخائيل غورباتشوف نوافذ البريسترويكا مراهناً على إنقاذ النظام السوفياتي لم يكن يدرك قوة رياح التغيير الكامنة في وجدان شعوب الإمبراطورية المتآكلة من الداخل. غورباتشوف أخطأ كذلك في تقدير حجم الضغوط المكثفة الخارجية المتربصة على الحدود. خلاصة الدرس ليس بالنوايا الطيبة تدار الأزمات. ذلك الدرس لم تستوعبه قيادات ما بات يسمى بالربيع العربي حيث انزلقت شعوبها إلى مستنقعات التشرذم والحوار بالسلاح.
aloomar@gmail.com