كيف ومتى نقول للأعور أنت أعور مش عينك واحدة ما كويسة

 


 

 

كيف ومتى نقول للأعور أنت أعور مش عينك واحدة ما كويسة

نحن لا نحتاج فقط لتغيير رأس الدولة نحتاج لتغيير كل مرافق الدولة

يقولها : بدرالدين حسن علي

جورج كلوني " 50 عاما " النجم السينمائي الأمريكي المشهور وغيره كثيرون في المسرح والقصة والرواية والشعر والتشكيل والنحت والموسيقى  يبدون إهتماما كبيرا بالسودان ، بالطبع لكل منهم أهدافه وأجندته   ، ولكل منهم ثقافته وخلفيته التاريخية والإجتماعية والسياسية أيضا  التي ينطلق منها ، ودون أن نغوص في بعض التفاصيل مع أو ضد نطرح السؤال التالي : لماذا كل هذا الإهتمام بالسودان ؟  
إنه الفن . وفي حالة كلوني   إنها السينما هذا البعبع المخيف لكل الأنظمة الشمولية الديكتاتورية غير الديموقراطية ، إنه المسرح أيضا في دفاعه المستميت من أجل الحرية والسلام القائم على العدل والمساواة ، ومن هنا فإن أنظمة البغي والطغاة لا ترتاح لا للسينما ولا للمسرح ، وهي العدو رغم واحد للكتاب وللثقافة تماما كما شاعت المقولة الهتلرية"  عندما أسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسي "  وتظل تحاربهما بالبندقية والتعذيب  وزج فناني السينما والمسرح في المعتقلات والسجون وتلك هي الضريبة التي دفعها المسرح ودفعتها السينما عبر  تاريخ طويل من البطولة والملاحم العظيمة التي سجلها التاريخ منذ قديم الزمن . وجميع كتاب المسرح الثوري كانوا مغضوبا عليهم من السلطة وعاشوا إغترابا قسريا  : جان جينيه – بيتر فايس – برتولد بريخت والقائمة تطول ، وأيضا جميع مخرجي السينما الجادة عاشوا خلف القضبان ، لأن المسرح ليس إضحاكا ولا السينما فرجة وقرقعة تسالي ونوم في العسل .
يا سادتي عندما أختار الإنسان التعبير عن ذاته أو شعبه عن طريق المسرح أو السينما لم يكن إختيارا إعتباطيا أو من أجل الشهرة والمال والسلطة ، كان إختيارا واعيا لضرورة الوقوف مع الحق مهما كان الثمن ، ولذا عندما نقول مسرح جاد أو سينما جادة فإننا لا نبيع طماطم بايرة  أو بيضا فاسدا ، وإنما نشهر أسلحتنا البسيطة ضد الطغاة ، الذين ظنوا أن الأمر قد دان لهم وأنهم قبضوا على السلطة بيد من حديد بينما هم نمور من ورق !!!!!لله درك يا هاشم :
لما الليل الظالم طول
قلنا نعيد الماضي الأول
ماضي جدودنا الهزموا الباغي وهدوا  قلاع الظلم الطاغي 
أنظروا ما حل ببن علي وحسني مبارك والقذافي والبقية تأتي ، لا تقولوا لي إنها أمريكا والتحالف الغربي وحلف الأطلسي ، نحن نعرف أهداف أمريكا والغرب ونعرف أيضا أهداف الطغاة في البلدان العربية ، إنهم يريدون قتل الإنسان ، قتل حقه في الحياة والعيش الكريم ،  فقط من أجل السلطة والجاه والرفاهية ، يساعدهم في ذلك خونة ومارقون وتافهون يلعقون أحذية الطغاة .
ومنذ أن عرفت أسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس وجان جينيه وأنطون تشيخوف وبريخت وأبسن وفيشر ونجيب محفوظ ونجيب سرور ونجوم السينما الكبار إزدادت قناعتي بهم وبالمسرح والسينما الجادة 
بالنسبة لي جورج كلوني إنسان عرف مكمن الداء وقرر أن يهب حياته من أجل عالم خال من القهر والظلم ، قد يكون مخطئا وربما صائبا  وهذا ما دفعني لمتابعة أخباره وأفلامه ومواقفه ، لا تهمني جنسيته بل تهمني إنسانيته ودفاعه عن الفقراء والمظلومين ، وهو نفس الشيء الذي دفعني لمتابعة أفلام كوستا غافراس ، وهل يمكن للذاكرة السينمائية أن تنسى أفلاما مثل " زد " و"الإعتراف "  و" حالة حصار" و " المختفي "  الذي فاز بالسعفة الذهبية ؟
أقول لكم لماذا نحب ماركيز ، لماذا ندفع الغالي والرخيص لكي نقرأ رواياته ؟ لماذا نكابد رغم المشقة وشظف العيش ونذهب للمسرح لنشاهد مسرحية لشكسبير مثلا ؟ لماذا نتابع أفلام العظماء ؟ إنه تعبير عن كراهيتنا للذين يضهدون الإنسان! لماذا نحب الطيب صالح ولماذا نبحث عن رواياته ونقرأها مرات ومرات ؟ لماذا نحب أحفاد الطيب صالح ونبحث عن رواياتهم ؟  إنه الفن وقوة الفنان !!
سأحكي لكم عن مسرحيتين فقط لا أكثر ، الأولى كتبت وأخرجت قبل نحو سبعين عاما وهي مسرحية " الذباب " لجان بول سارتر ، والثانية  " صياح الديك " التي قدمت في بيروت العام الماضي .

اذا كان جان  بول سارتر عرف على نطاق ضيق في الحلقات الثقافية والفكرية الفرنسية منذ أواسط ثلاثينات القرن العشرين، فإن شهرته العريضة بدأت لاحقاً بعض الشيء كما يقول الكاتب والناقد ابراهيم العريس ،  وليس عن طريق الكتب الفكرية أو الأعمال النظرية الفلسفية، بل تحديداً بفضل مسرحية أولى كتبها وقدمت للمرة الأولى في مسرح «لا سيتي» الباريسي في العام 1943. والحقيقة ان لهذا التاريخ في حد ذاته دلالة مهمة، اذ نعرف ان فرنسا كانت ترزح في ذلك الحين تحت نير الاحتلال العسكري النازي بعدما كانت جيوش هتلر ألحقت بها الهزيمة المفجعة في العام 1940، محولة في طريقها، الماريشال بيتان، بطل الحرب العالمية الأولى، الى خائن وحاكم طاغية. مسرحية الذباب  كانت أول محاولة جادة من سارتر لولوج عالم الكتابة المسرحية ،  وهذه المسرحية لا تزال تعتبر حتى اليوم، من أشهر أعمال سارتر، ناهيك بأنها تحسب عادة في خانة الفن المقاوم. وهو أمر يرتبط،  بتاريخ كتابتها وتقديمها، ما أضفى على موضوعها أبعاداً آنية،و هي التي تدور أحداثها في اليونان الأسطورية القديمة ،  وانطلاقاً من هذا  اذا كان المسرحيون يعودون الى تقديم «الذباب» بين الحين والآخر في هذا البلد أو ذاك، وفي هذه الحقبة من الزمن أو تلك، فإن التقديم أيضاً، لا يأتي عادة من فراغ، بل يكون مرتبطاً بما يمكن أن نسميه  الفن الملتزم المقاوم.
في هذا الاطار نعرف ان «الذباب» فتحت الطريق لدى سارتر، أمام مسألة الالتزام في الفن، ومسألة مسؤولية الكاتب أو المبدع في الأحداث الكبرى... وفي مقاومة الطغيان والشر والاحتلال والتسلط ،  والذي يدهشنا اليوم في حقيقة الأمر، انما هو واقع ان المسرحية عرضت بالفعل بكل أبعادها الفكرية ودلالاتها في ذلك العام (1943) حيث كان القمع الألماني قد اشتد في فرنسا، مع تصاعد المقاومة المتصدية للوجود الألماني. علماً أن ذلك الوجود لم يكن عسكرياً أو سياسياً فقط، بل كان يطاول الحياة الفكرية والفنية ويطغى عليهما. صحيح ان تاريخ الفن والفكر الفرنسيين تحت الاحتلال الألماني لم يكتب بكامله وبكل تفاصيله بعد، لكن الناس جميعاً يعرفون كيف انقسم الفرنسيون وبسرعة بين متعاونين مع الاحتلال ومقاومين له... ثم كيف انقسم المقاومون بين من يحمل السلاح ومن يمتشق قلمه، في مقابل التسلط والطغيان. وقد كان جان بول سارتر من الصنف الأخير. أما مسرحية «الذباب» فقد ظهرت لتعلن هذا الموقف من دون التباس، وأذكر في جلسة من جلسات المؤانسة قال لي خالي الفكي عبدالرحمن : هل تعرف أن الجمهور المسرحي  الفرنسي يخرج بعد عرض المسرحية في مظاهرة ، قلت أعرف وأعرف أيضا أن طلاب جامعة الخرطوم كانوا يحضرون بالباصات لمشاهدة مسرحية نبته حبيبتي ويهتفون في رحلة العودة ضد نظام نميري ، مرة أخرى لله درك يا هاشم !
ما زلت أحفظ عن ظهر قلب مسرحية نبته حبيبتي وأذكر مخرجها الرائع مكي سنادة وأذكر أيضا صديقي الطيب المهدي في دور فارماس والممثلة القديرة تحية زروق في دور سالي :
طهارة الكلمة في الفنان
وصدق الحرف في حرفو
وحصاد أجيالنا في شتلو
وحقو الكلمة تصبح سيف
تزود عن نبته يا فارماس
تقيف في وش مظالم الليل
ومن القيد نلاقي خلاص
وما زلت أذكر فارماس وهو يقول :
لأنو  الكلمة شرف الرب
وصدق الرب
وتاج الرب
ولو غشت قلوب الناس
محال الناس تحس تطرب

مسرحية "ممنوع يصيح الديك"  التي عرضت في بيروت مؤخرا تشير إلى واقع العالم العربي ،  فصياح الديك يؤشر إلى بزوغ الفجر الذي كان ممنوعا بلوغه قبل اندلاع الثورات العربية انطلاقا من تونس، فمصر وليبيا  فبقية الدول العربية ، ومن منا ينسى فيلم " زائر الفجر " ؟

عرضت المسرحية في "مسرح المدينة" ببيروت لثلاثة أيام وسط إقبال واسع ينم عن انعكاس الثورات العربية على مشاعر وعقول اللبنانيين. وهي نوع من المونودراما، يؤديها ممثل واحد -هو علي يونس- وتستغرق أقل من ساعة بقليل.

كتبت المسرحية منذ ١٢ عاما -بحسب كاتبها ومخرجها سمير سكماني- وبالتالي لا يمكن القول إنها انعكاس مباشر للتطورات المندلعة في المجتمعات العربية. كما لا يريد سكماني القول إنها كانت نبوءة بما سيحدث في المجتمعات العربية، بقدر ما هي "استشراف لما يختلج في داخل هذه المجتمعات".

وإذ تدل المسرحية بمضمونها عن جانب من هذا الاستشراف، يؤكد تجاوب الجمهور معها عند عرضها في فترات سابقة ومتفاوتة، أن الثورات العربية كانت كامنة في أماني الناس وعقولهم.
أما في مجال السينما وعلى الرغم من سيطرة السينما التجارية إلا أن السينما الملتزمة والسينمائيون الملتزمون ما زالوا يقدمون روائع السينما العالمية والعربية والإفريقية وغيرها ، وما تزال  هذه  السينما تفرض نفسها بقوة رغم الدعاية الرهيبة لأفلام الجريمة والجنس والمطاردات والآكشن وغيرها من الأفلام الهابطة ، ومن منا ينسى أفلاما مثل " لاشين " " رد قلبي " " الكرنك " وعشرات الأفلام المصرية الرائعة !ومن منا ينسى الراحل المقيم  سمبين عثمان " أبو السينما الإفريقية " وأفلام مثل " سوداء السيد فيغو " و "سيدو " و " مخيم نياروي " !
إن أكثر شيء يضر بالمسرح والسينما إنصراف الجمهور عنهما ، فالمسرح والسينما بلا جمهور لا يساويان شيئا  ، ومن الحقائق التي باتت معروفة أن الجمهور ذكي جدا ، ويجب أن يضع له الفنان ألف حساب .

لقد    تابعت وأتابع باهتمام شديد مهرجانات المسرح والسينما في جميع أنحاء العالم ، وأركز بشكل خاص على الذين ينيرون لنا الطريق ، ويقولون للأعور أنت أعور وليس " عينك واحدة ما كويسة " وهذا ما يجب أن نفعله . 
حسنا ما المقصود من هذا المقال والمقالات الأخرى التي تناولت مسألة المسرح والسينما ، المقصود يا سادتي وباختصار شديد أن نرمي وراءنا سياسة العواطف وأن نعلي من سياسة القصاص والمحاسبة ، أنا اتحدث عن مستقبل وطن وليس عن تغيير آني ندخل بعده في الدائرة الشريرة ، مستقبل الوطن مرهون باجتثاث كل أشكال الظلم والقهر من الجذور وبالطرق القانونية وبدون عواطف وذلك هو طريقنا الوحيد لتأمين مستقبل الوطن، نحن لا نحتاج فقط لتغيير رأس الدولة نحتاج لتغيير كل مرافق الدولة ،     وقطعا لنا عودة !!!!



badreldin ali [badreldinali@hotmail.com]

 

آراء