لجان المقاومة ونكون أو لا نكون

 


 

عاطف عبدالله
12 September, 2022

 

امتداد وإضافة لمقال سابق نشر بعنوان " لجان المقاومة والخروج من عنق الزجاجة"

11/09/2022

(لن نرى رجلا مسلحا يطيع رجلا اعزل ولن نرى اعزل سالما بين مسلحين)
نيكولو ميكافيللي
إن الوضع السوداني الراهن لا يبشر بخير أبداً، وهو وضع خطير للغاية، فيما مضى كنا نقول "نكون أو لا نكون" الآن نحن فقط في نناضل وننازع في أن "لا نكون"، حيث أن الوضع السياسي والصراع الذي يدور على الساحة أشبه بمجموعة من الحمقى يركلون بأقدامهم قنبلة في ساحة مليئة بالمتفجرات. دولة بلا حكومة ولرئيس جيشاً متحزب ولنائبة جيش خاص ولوزير ماليته جيش ولكل فرد من أعضاء مجلس سيادته جيشه الخاص .. هل يوجد وضع مأساوي في أي بلد آخر في العالم شبيه بوضعنا؟
كان هناك أمل للخروج من ذلك الوضع البائس لو كنا صبرنا قليلاً على الحكومة المدنية الأولى التي تشكلت بقيادة حمدوك، ولو كنا منحنا الثقة الكاملة في شباب لجان المقاومة في المشاركة السياسية واتخاذ القرار لما كان الإنقلاب، ولكن ولأن السودان تتحكم به أيادي خفية لا تريد له خيراً أبداً، أيادي ترفع من مقام الفشلة القتلة، ضيقي الأفق من أصحاب الذات المتضخمة، وتفتك ببنيها وتقتل أنبيائها أصحاب الرؤى وناكري الذات، فائضي البذل العفيفين عند المغنم متصدري الصفوف ساعات المحن، بسبب تلك الأيادي القذرة توشك البلاد الآن على السقوط في الهاوية وأتون حرب أهليه أنكل من داحس والغبراء.
لا زلت على قناعة راسخة بأن لجان المقاومة تمثل طوق النجاة للخروج من الأزمة الراهنة فلا عجب أن نجد أن كافة القوى السياسية تخطب ودها من جيش ومليشيات إلى أحزاب ومنظمات مجتمع مدني، القوى التي أدمنت الفشل بعضها يريد أن يكون وصياً على لجان المقاومة والبعض يبحث عن شراكة معها تصنع له شأن في مستقبل الأيام، وآخرين يودون المصالحة معها خشية المحاسبة والمصادرة، وأدعو الله أن يفشل مساعيهم أجمعين لأنهم هم أنفسهم الذين ظلوا يتحكمون في الشأن السوداني منذ ما قبل الاستقلال ولم يشهد السودان منهم خيراً أبداً وهم من يتحملون مسئولية الدرك الأسفل الذي وصلنا إليه اليوم.
لكن لجان المقاومة نفسها ليست مبرأة من الأخطاء والعيوب، ولا يجب التعامل معها مثل التعامل مع "جنا النديهة" أو البقرة المقدسة، بل مساعدتها بالنقد الموضوعي الذي هي في أمس الحاجة إليه حتى لا تصيبها عدوى الأمراض المزمنة التي تعاني منها معظم التنظيمات السياسية الأخرى، وحتى تتمكن من تطوير قدراتها السياسية والفكرية والتنظيمية وتقوم بالدور المناط بها في إخراجنا من الأزمة السياسية الطاحنة.
في مقال لي سابق ربطت بين التوتاليتارية الجديدة، ولجان المقاومة فذهب الظن بالبعض بأنني قصدت تمجيد الأنظمة الشمولية أو التماهي مع فكرة المستبد العادل، بالتأكيد لا وأكتب الآن لتوضيح رؤيتي ومقاصدي.
التوتاليتارية الجديدة التي قصدتها هي تلك التي انتشرت في أواخر القرن الماضي وازدهرت في بدايات القرن الحالي بعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها وانعتقت كثير من الشعوب من التبعية المطلقة وارتهان قرارها لإحدى القوتين العظميتين، وهي تختلف عن التوتاليتارية الأولى في شموليتها المطلقة حيث تتصف التوتاليتارية الجديدة بدرجة من الليبرالية الشكلية من حيث الدستور والقوانين ونظام الحكم المدني وفصل الدين عن مؤسسات الحكم، وهي تتشكل في حالة حصول حزب واحد على أغلبية مطلقة في الانتخابات البرلمانية مقابل الأحزاب الأخرى مجتمعة، فتنتج حكومة قوية ومعارضة ضعيفة مما يشكل نوع جديد من الشمولية التي لا تستند على أيديولوجية محددة أو على أي أسس قبلية أو جهوية فقط كيان سياسي تشكل تحت ظلّ ظرف موضوعي محدد، يقوم على أسس برامجية ورؤية ومشاريع سياسية واقتصادية يلمسها المواطن العادي ويحصد نتائجها ويتمسك بها.
للجان المقاومة موقف سلبي تجاه الأحزاب الوطنية وعدم ثقة وعداء لا يخفى على أي مراقب، عوامل عديدة أسهمت في بلورة ذلك الموقف السلبي، على رأسه تجاهل قيادات الأحزاب للجان المقاومة خلال محاورتها مع المجلس العسكري وتقاسم كيكة السلطة وكذلك لتخلف الأحزاب عن العملية الثورية اليومية وضعف تنظيماتها القاعدية في مناطق الوعي التي تنشط فيها لجان المقاومة وكذلك لسلبية قواعدها التقليدية في المناطق الريفية.
لجان المقاومة نشأت وتأسست في ظل ظروف استثنائية حيث فرضتها الحاجة خلال هبة ديسمبر لإدارة الشأن الثوري والمحافظة على شعلة النضال اليومي متقدة، وضعت لجان المقاومة نصب عينيها أهداف تتمثل في تحقيق شعار الحرية والسلام والعدالة، وبحكم تكوينها الشبابي ووضعها كرأس الرمح في الثورة نجدها الأحرص والأكثر تمسكاً على أن تصل سفينة الثورة لمرساها وتحقيق مبتغاها، فهي مكونة من شباب تفتح وعيه في ظلّ نظام الإنقاذ القميء ولكن وبفضل وسائل التواصل الحديثة وفي ظل ثورة المعلوماتية والعولمة وتطوير الذات أكتسب ذلك الشباب وعي نوعي مكنه من إنجاز ثورة أبهرت العالم متجاوزاً كافة التنظيمات الحزبية التقليدية والحديثة وظلَّ الدرع الواقي للثورة في الأحياء وعلى مستوى المدن والأرياف، ولأنها انبثقت من مجموعات شبابية خدمية وثقافية كانت بعيدة عن الوصايا الحزبية، حيث كان لكل حزب، فيما مضى، تنظيم شبابي يرفده بالعضوية ويشكل له قاعدة للعمل الجماهيري، إلا أن تلك التنظيمات الشبابية الحزبية اندثرت وتلاشت من الساحة خلال حكم الإنقاذ وظهرت مكونات شبابية خدمية تحت مسميات مختلفة وأفكار مختلفة ظلت تعمل في صمت أيام الفيضانات والكوارث وتقدم خدمات صحية واجتماعية وثقافية مختلفة إلا أن تفجرت الثورة وشكل أولئك الشباب لجان المقاومة التي تقود الحراك الثوري. ربما لو كانت لجان المقاومة قد تشكلت من تحالف لأحزاب المعارضة لكان للثورة وجه آخر، ولكانت الإنقاذ قد عادت أقوى مما كانت وأسوأ وأمر مما كانت ..
معظم الأحزاب لا زالت تعاني من التشرذم والتفكك والضعف الهيكلي التنظيمي والخواء الفكري وانعدام الرؤية لذا لم تستطع أن تكون وعاءً جاذباً لشباب الثورة الذي كان وما زال يسبقها بخطوات وخطوات على الرغم من افتقاده للحنكة السياسية والخبرات التجاربية لكنه ظلَّ يتقدم ويتعلم من خلال تجاربه ونضاله اليومي، ومن خلال تمسكه بشعاراته وأهدافه اكتسب شباب المقاومة الوعي الثوري اللازم الذي أهله لقيادة المسيرة، وعي أخذ يتراكم من خلال العملية الثورية المستمرة والنضال اليومي الذي لم تفتر همته بالرغم من مرور عدة سنوات منذ انطلاق شرارة الثورة والعنف المفرط الذي تقابل به سلميته الأمر الذي أهله ليتبوأ مكانة مميزة على رأس الطاولة Head of the table في المشهد السياسي السوداني.
إن التحالفات الحزبية دائما ما نجدها تمتاز بقصر النفس، وضيق الصدر والغيرة السياسية نسبة للاستقطاب الحاد والتنافس غير النزيه فيما بينها والذي يظهر عدم المامها بأدب الخلاف والاختلاف حيث التخوين والتجريم والإقصاء والعداء السافر الذي يخرج أسوأ ما فيها، لذا نجد تحالفاتها أوهن من بيت العنكبوت سرعان ما يصاب بداء التفكك خاصة بعد الحالة المزرية وفقدان البوصلة التي خرجت به الأحزاب بعد حكم الإنقاذ، لذا فحمداً لله أن لجان المقاومة تأسست مبرأة من دائها وفشلها المستدام.
بعد أن رفضت لجان المقاومة كافة أشكال الأبوية والوصاية عليها من قبل قيادات الأحزاب الوطنية المتحالفة في قحط وغير قحت والتي أرادت أن تحصر دورها في التنسيق الميداني والتظاهرات والتتريس والاستشهاد، والابتعاد عن القيام بأي دور سياسي أو قيادي، كما أراد لها البعض، أن تكون مجرد مخلب قط يتحكمون فيه وهم يجلسون في طاولات المفاوضات من أجل زيادة حصتهم في غلة السلطة، اتجهت لجان المقاومة لتشكيل كيان سياسي مستقل بها بعد أن أنجزت مواثيق تأسيس سلطة الشعب الذي يؤسس لكيف يحكم السودان في الفترة الانتقالية. الأمر الذي سحب الشرعية من أي كتل ومبادرات تحركت تجاه التسويات التي تؤطر للوضع القائم والشراكة الضيزى بين العسكر والمدنيين.
بعد أن بدأت بوادر تشكيل كيانها السياسي المستقل ظهرت كانت الحاجة الماسة لانفراجه سياسية بينها وبين والأحزاب الوطنية الأخرى فبادرت بالدعوة لتحالف عريض لإسقاط الإنقلاب، وهي خطوة تصب في الاتجاه الصحيح في المنعطف الخطير الذي يمر به السودان والوضع الحرج للثورة الديسمبرية إلا أن ذلك التحالف الذي دعت له يختلف كماً وكيفاً عن التحالفات الحزبية التقليدية من حيث الأهداف وطريقة تحقيقها حيث ما زالت تتحمل العبأ الأكبر في منازلة السلطة الغاشمة.
إن تشكيل كيان أو حزب سياسي للجان المقاومة خطوة يجب أن تجد التقريظ والتشجيع وعليها أن تحرص على عقد مؤتمراتها من القاعدة للقمة وستكون الفرصة مؤاتيه له لتشكيل أغلبية مطلقة فيما بعد المرحلة الانتقالية، ربما تتحالف مع بعض الكيانات السياسية الأخرى مثل النقابات أو الحركات المسلحة الوحدوية أو الأحزاب لكنها ستكون تحالفات تتم وفقاً لشروطها وتحت قيادتها ونزولاً على إرادتها وحسب رؤيتها لبناء السودان الجديد، وذلك بسبب توجهاتها الثورية الحصيفة ورؤاها المختلفة التي ستجد الدعم في الداخل والخارج خاصة من دول الترويكا، انتزعت شرعيتها بحكم قيادتها للثورة وتضحياتها الجمة ومبدئيتها، وستكون الأحزاب الأخرى بما فيها أحزاب الأمة والاتحادي والشيوعي تمومة جرتق في العملية السياسية. وتلك هي عين التوتاليتارية الجديدة التي نتمنى أن تنجح في إخراجنا من عنق الزجاجة كما نجحت في بعض الدول الأخرى مثل سنغافورة ورواندا.

atifgassim@gmail.com

 

آراء