لماذا لم يعتذر أوباما إلى المسلمين؟! … بقلم: د. محمد وقيع الله

 


 

 

 

نقد خطابه من حيث الإيجابيات والسلبيات

 

waqialla1234@yahoo.com

 

لابد أن يقدر كل مسلم للرئيس الأمريكي باراك أوباما أنه فضل أن يأتي إلى صقع في العالم الإسلامي ليعلن منه خطابه الذي وجهه إلى المسلمين. وقد كان بإمكانه أن يذيعه من مكتبه في البيت الأبيض، أو في احتفال في واشنطون، أو من خلال زيارة لبعض تجمعات المسلمين الأمريكيين أو مساجدهم.

 ولكنه آثر أن يقترب أكثر من قلوب المسلمين بتوجيه خطابه من قاعة جامعة القاهرة،وأن يتحدث إليهم بلهجة ليس فيها عنجهية وعلياء وبغضاء يانكي تكساس جورج دبليو بوش ولا وقاحته، وأنه نحا منحى معقولا مقبولا مهذبا في حوار الحضارات ونبْذ الصراع من حيث المبدأ.

ولابد أن يقدر المسلمون له حديثه الإيجابي عن الدين الإسلامي وتسامحه وتقديره لحرية الضمير البشري، وإسهامه التاريخي في تقدم الحضارة الإنسانية، وإمكان أن يسهم في تقدم الحضارة المعاصرة.

 

ولابد أن يقدر المسلمون لأوباما أنه لم يتهور في تأييد إسرائيل بشكل مطلق مفضوح كما فعل أسلافه، فقد أقدم على نقدها، ولو في أشياء هامشية، وبلهجة متحفظة رقيقة.

 

لم يكن ثورة على أسلوب الخطاب الأمريكي:

 

وهذا كله ولا شك طيب وجديد رائع، وكثير أن يأتي من لسان رئيس الدولة، التي ناصبت المسلمين العداء، لمدة ثماني سنوات طوال، سعَّر فيها متطرفو اليمين الديني المتصهينون ما سموه بحرب الحضارات.

 

وقد أبدى أوباما في بخطابه البليغ اقتداره الفكري المرموق ومعرفته الواسعة واستعداده المبدئي لكي يكون داعية من دعاة حوار الحضارات، لاسيما عندما قال إنه سيقف شخصيا ليواجه ويصد أي دعاية عدائية للإسلام في بلاده.

 وبعد ذلك فلم أكن أتوقع أن أسمع من أوباما أكثر مما سمعت، وإلا لعددت حديثه ثورة على التقاليد، أي تقاليد العمل والقول السياسي الأمريكي.

 فليس المقصود من أي خطاب أو تصريح سياسي أمريكي سوى الكسب السياسي، على المستوى الشخصي أو الانتخابي أو القومي ولا غير ذلك.

  وليس هنالك قول أو فعل يبذل أو يهدر في سبيل إنساني أو مثالي أو عالمي أو أي هدف نبيل آخر لا يُقوَّم بمال أو يترجم بكسب مادي ملموس.

هذه هي القاعدة وكل خروج عليها يعني الإقدام على تصرف غير عقلاني وغير واقعي. وهذا ما لا تقره (البراغماتية) الأمريكية العتيدة، التي تجد أفضل تطبيقاتها وترى أقوى تجلياتها في فضاء الممارسة السياسية.

 

وقد كان الاستثناء الوحيد هو ما بدا عقب الحرب العالمية الأولى في التفكير ذي الطابع المثالي العالمي للرئيس الأمريكي الأسبق ويلسون. ولكن سرعان ما عدا عليه الكونجرس وحطمه ومنع اشتراك الولايات المتحدة في عصبة الأمم، وهي النقطة الجوهرية في نقاط ويلسون الأربعة عشر.

 

 ثم تصاعد في أمريكا هذا الضرب من التفكير السياسي المادي الواقعي القح الذي لا يعطي اهتماما لغير المصالح القومية الأمريكية ويضرب بغيرها ولو كانت مصالح أوروبية عُرض الحائط.

  ثم جاءت نظريات كيسنجر لتؤصل لهذا التفكير القومي المادي الضيق العطن، الذي لا يعطي الناس، ولو كان له ملك الدنيا كلها، شروي نقير!

وقد كان عجبا أن جاء أوباما ليمثل خروجا جزئيا حذرا على هذه القاعدة التقليدية، التي لم يتجرأ لكي يخرج عليها بالكامل.

 

ماذا لو اعتذر إلى المسلمين:

 

ولو تجرأ أوباما وخرج على هذه القاعدة التقليدية، وأقدم على الإشارة إلى جذور القضايا العالمية، وبدا أكثر صراحة، وقدم اعتذار للمسلمين على ما ألحقه بهم سلفه الغشوم بوش، لكان خطابه أوقع وأشد أثرا، ولوصف بأنه يمثل ليس خروجا فقط بل ثورة كبرى على تقاليد الخطاب السياسي الأمريكي، ولكنه تخلف عن هذه الخطوة الواجبة واختار أن يتكلم كما تكلم.

 

اختار أن يبدي نوع تعاطف عام مع المسلمين، ونفي عنهم أنهم ضلع في محور الشر، وأبدي الحرص على رفع الحيف عنهم، والعمل على جبر خواطرهم. ولكن ما قاله اليوم لا يكفي، فلو كان حريصا جدا على تحقيق ما أراد، لناله عن طريق الاعتذار الصادق عما جناه البغي الأمريكي، في الإدارة السابقة على الخصوص، في ديار المسلمين.

 

ولنال الكثير من التقدير ومن ثقة المسلمين لو وعد بالنظر في مطالب مشروعة من الأمم الإسلامية التي مسها البغي الأمريكي بأن تنال التعويض اللازم لإصلاح ما خربه الغزو الأمريكي في ديار المسلمين، ولبدا بذلك سياسيا عادلا منصفا وحريصا على تحقيق شيئ ملموس هو أول شيئ وأحقه بالتحقيق.

 

 ومهما يكن فسنقبل ما قاله أوباما من قول حسن بظن حسن وعلى حذر. وسنبقى متوجسين من نواياه المبيتة تجاه باكستان، ومراقبين لتحركاته المريبة المثيرة لشديد القلق ضد هذا القطر الإسلامي العتيد.

 

فإنه منذ أيام حملته الانتخابية، ما برح يكرر القول بعدوانية شديدة ضد هذا القطر، ونخشى أن يقدم على فعل شيئ ضده، لإجهاض قدراته النووية، أو مصادرتها. وقريبا من ذلك ما يدعو إليه الرئيس الفرنسي ساركوزي الذي عرض على باكستان، أن تتولى فرنسا حراسة سلاحها النووي .. ربما لكي تقوم بتسليمه إلى إسرائيل!

  

هندسة إسرائيلية للخطاب:

 ومع أنا لا نفرط في التفاؤل إلا أن الظن يذهب بنا إلى أن أوباما كان يريد أن يقول أكثر مما قال، ولكن خضع خطابه إلى صياغة إسرائيلية، في مضمونه الكامل، أو في الكثير من جوانبه، وبخاصة ما تعلق منها بهم وبالفلسطينيين والإيرانيين، فهذا أكثر ما يهمهم في الخطاب.

 ولا يعني ذلك أن الإسرائيليين المتشددين هم الذين صاغوا الخطاب، أو أعادوا تحرير بعض فِقَره، فالإسرائيليون أطياف شتى، منها الناعم ومنها الخشن.

  ومن النوع الناعم رام عمانويل، رئيس موظفي البيت الأبيض، ابن بنجامين عمانويل عضو عصابة إريجون الصهيونية التي أسهمت في قتل الفلسطينيين وتشريدهم تمهيدا لإنشاء إسرائيل. ورئيس موظفي البيت الأبيض أكبر شخصية فيه بعد الرئيس ونائبه، فهو بمثابة رئيس الوزراء في النظام البرلماني، وهو المسؤول الأول والمباشر للرئيس عن كل شيئ، ومن ذلك مضمون خطابه وطريقة تكوينه وأسلوب تحريره.

ولنأخذ مثلا لإعادة تحرير الخطاب في إشارة أوباما، إلى حادثة الإسراء والمعراج، وهو مثال قد يعده بعض الناس أمرا جانبيا، ونحن لا نراه كذلك، فإنه ذكر أن الأنبياء قد صلوا في معا في بيت المقدس، ولكنه تجنب أن يذكر أن رسول الإسلام هو الذي أمَّهم في تلك الصلاة، كما تقول الرواية التي استند إليها، وشاء أن يحذف منها هذا المقطع، وإلا فإن رواية الإسراء والمعراج لم تأت إلا من المصادر الإسلامية، وعلى رأسها القرآن الكريم وصحيح البخاري، ولا نظن أن هنالك من مساعدي أوباما أو من طاقم الإدارة الأمريكية من يعرف شيئا عن حادثة المعراج أو السيرة النبوية أو البخاري إلا أوباما نفسه الذي قضى أربع سنوات بمدرسة إسلامية بأندونيسيا.

 

والذي يدعونا إلى الاشتباه في هندسة الإسرائيليين لهذا الجانب بالذات، هو أنهم لا يقبلون من حيث المبدأ مسألة الهيمنة عليهم، وهي المسألة التي تشير إليها الواقعة المحذوفة عن صلاة نبيهم خلف نبينا عليه السلام. وبنو إسرائيل لا يقبلون ما هو أقل من ذلك دلالة، فهم لا يقبلون الاعتراف بنبوة المسيح عليه السلام، ولا يجاملون النصارى في ذلك أدنى مجاملة، ولو بالمشاركة الرمزية في الاحتفال بأعياد ميلاد المسيح عليه السلام، فالاعتراف بنبوة المسيح عليه السلام تعني أيضا إلغاء لعهد الهيمنة الإسرائيلية التاريخية التي يريدونها حقا لا ينازعهم فيه الآخرون!

 

ومن الجوانب الأخرى التي خضعت للهندسة التحريرية الإسرائيلية الحديث عن الجمهورية الإيرانية، فما كاد الرئيس يذكر عنها جانبا إيجابيا، وهو التزامها النهج الانتخابي الديمقراطي، حتى عاد وألحق بها صفة الإرهاب واختطاف الرهائن، وهي صفة صحيحة بالطبع، ولكن لم يكن لإيرادها من موجب إلا إرضاء الإسرائيليين!

 

ومن الجوانب التي هندسها الإسرائيليون قولهم في المقطع الذي تناولهم بالنقد إن لإسرائيل حقا في الوجود ينبغي ألا ينكر عليها، ولكن عليها وقف المستوطنات!

 

ومن الجوانب التي أسهم بها القلم الإسرائيلي ذلك الاختصار والاقتصار والاختزال الشديد في نقد أوباما لإسرائيل. فقد اختصر أمر التعديات الإسرائيلية في شيئ صغير هامشي هو أمر المستوطنات، فإذا تخلت إسرائيل عنها فقد انحلت المشكلة ولا يطلب منها بعد ذلك شيئ.

 

وكأنما استخدم أوباما في هذا الجانب التعبير الساخر الذي كان مالكولم إكس يتندر به في بعض خطبه على البيض قائلا إن الأبيض العنصري إذا غرس سكينته في الإنسان الأسود إلى عمق عشرة سنتمترات ثم عاد وسحبها إلى سبعة سنتمترات فإنه يذهب ويجادل الناس بأنه قد أصبح رحيما بالسود.

 

 وهذا هو بالضبط ما قاله أوباما ولكن بلهجة جدية للفلسطينيين، وللمسلمين عموما: إن إسرائيل إذا كفت عن بناء المستوطنات فإنها تكون بذلك قد فاءت إلى العدل وأصبحت رحيمة بالفلسطينيين وبالمسلمين!

 

مواعظ لسنا في حاجة إليها:

 

وقد حفل خطاب أوباما بدروس وتوجيهات مثالية في الديمقراطية، بذلها للمسلمين، حيث وعظهم بأنه ينبغي عليهم أن يلتزموا بها، وألا يتنكر لها من يصل عن طريقها إلى الحكم فيقوم بقمع الآخرين.

 

 ولكن نسي أوباما أن يذكر في خطابه شيئا عن تنكر بلاده للديمقراطية عندما تحطمها الدول التي تخدم مصالحها، ولم ينتقد ما لبلاده في دعم الأنظمة الدكتاتورية من تاريخ وتراث طويل عريض.

 

وعندما عرض أوباما لظاهرة الانقسام الديني في العراق صورها وكأنها من إنتاج المسلمين، ولم يذكر أنها كانت إنتاجا مباشرا للاحتلال الأمريكي لهذا البلد المسلم.

 

ولم يكن مناسبا أن يعظ أوباما المسلمين بشأن القبط، وهم الذين عاشوا في كنف المسلمين المصريين العظماء لأكثر من ألف عام، يتمتعون بعدلهم وعطفهم ورعايتهم حق الرعاية، رعاية منهم لما لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من صهر.

 

كما لم يكن  أوباما مصيبا عندما دعا المسلمين إلى إنصاف المارونيين، ففي دعوته هذه تجاف للحقائق، فالمارونيون هم سادة لبنان، وهم أصحاب السلطة والثروة فيه منذ استقلاله، فدعوته في هذا الجانب مجرد تجارة رخيصة بالشعارات!

 

أهم ما في الخطاب:

 

وإذا انتقلنا من الحديث عن سلبيات خطاب أوباما إلى إيجابياته، فإن أهمها هو أنه قد منح العالم الإسلامي ثقلا أدبيا كبيرا باستخدامه لهذا المصطلح التعبيري، أي مصطلح العالم الإسلامي، وأعطى دفعة قوية لكتلة العالم الإسلامي النائمة، الأمر الذي قد يدفع المسلمين لكي ينظروا إلى أنفسهم كأمة واحدة، وأن يفكروا ككتلة واحدة، تماما كما ينظر إليهم الآخرون ككتلة واحدة، ولكي يدافعوا عن أمتهم وعن مصالحهم الحيوية كأمة واحدة، وأن يقاتلوا أعداءهم كافة كما يقاتلونهم كافة.

 لقد قام أوباما باستخدامه لهذا التعبير بإحيائه وتفعيله وتنشيط استخدامه في ميدان العلاقات الدولية. وهذا هو خطاب الإسلام الحق لأتباعه، وهو العنوان الخفاق الذي رفعه في العصر الحديث سيدنا الأستاذ جمال الدين الأفغاني، ورفعه من بعده وجاهد في سبيله كل مخلص عمل لرفعة العالم الإسلامي.  

 

آراء