لِمَن خسرت بورتسودان بواخرها

 


 

 

بكل ما تسع الأرض من حسن النوايا كان السودانيون بأجمعهم، يعتقدون أن إغلاق الميناء الذي تم من قبل أهل الشرق أنفسهم، قد وقع بصورة تلقائية كضرب من ضروب الضغط السياسي ضد مظالم المركز وهفواته. لم يدر بخلدي أبدا ان تكون مصالح مصر في العقل الباطن لمحركي الأحداث هناك هي المعنية بأي حال فيما يحدث في شرق السودان من التدابير، والمناهضات السياسية.
كنا نعتقد في سذاجة الأطفال أن أنسحاب شركات النقل البحرية من بورتسودان بسبب الإغلاق المتكرر للميناء من قبل ناشطي الشرق الذي تسبب في بطء الدورة الإنتاجية للحاويات، قد كان حدثا عرضيا لتطاول ساعات الإنتظار وتكرار إقفال الميناء وتعطيل رافعاته.. لم نشك أبدا، رغم الأضرار والخسائر، ان الفوائد التي جنتها مصر بسبب الإنحراف الذي حدث لصالح موانئها في الحركة الملاحية التي كانت تيمم شطر الموانئ السودانية، قد حدثت مصادفة كنتيجة حتمية لانغلاق طارئ للميناء..
لم يساورنا الشك مطلقا، في ان ذلك الحدث قد كان نتاجا متوقعا ومدبرا من قبل ساسة مشغولين بمصالح مصر ومواطنيها وموانئها، على حساب المسحوقين من بني جلدتهم من عمال الموانئ وأفراد كلات المناولة.. الذين ظلوا يعتمدون على ما يتقاضونه من يوميات الميناء لإطعام صغارهم ومواجهة عسف الحياة وبؤسها.. وعلى حساب كافة افراد الشعب الذين ارهقتهم شروط الإذعان التي فرضتها الحكومة المصرية على البضائع والأغذية العابرة للاراضي المصرية ترانزيت بعد تفريغها في موانيها البحرية.. لقد كان الضرر والعبء بالغا وعظيما.
لكني حينما استمعت ورأيت بأم عيني قبل عدة ايام أحد قادة الحراك في الشرق يخاطب الرئيس المصري في جرأة غير معهودة، متجاهلا سلطات بلاده وسيادتها، يتوسل علنا لقادة مصر للتدخل في بلاده وفرض مبادرة لحل مشكلة الشرق. يدعوهم بكل جسارة لأن يضموا الإقليم لمصر بأن يفتحوا حدودها معه تمهيدا لإستقلاله عن السودان، كخيار بديل إذا ما خاب الخيار الأول.. يومها فقط أحسست بأن مصالح مصر وحصادها الذي ترتب خصما على إغلاق الميناء لم يأت خبط عشواء، بل أن كل شئ قد بدا وكأنما تم الترتيب له مسبقا وبحنكة هائلة.. وان التدابير لذلك قد كانت تجري على قدم وساق في كافة الأصعدة والمؤسسات.. بما في ذلك التواصل والإيماءات التي كانت تجري مع قيادة الجيش، وربما الاستخبارات، بالهيئات السياسية التي تتحدث باسم انسان الشرق وتنميته ومصالحه، لكنها تعمل جاهدة على إخضاعه للسيسي ولمصالح مصر المنافية لمصالحه ورفاهيتها المنافية لرفاهيته..
إن مصالح مصر المتمثلة بالطبع في نهب موارد بلادنا ومياهها ومصايدها وملاحتها البحرية.. تستوجب أن يظل السودانيون في وضع متدن من حيث الدخل والفوائض الإقتصادية.. لأن أي رفاه إقتصادي في السودان سيرافقه تصاعد في نصيب الفرد من المياه والطاقة، وكلاهما سيدفع السودان لاستغلال وتوظيف كافة موارده من المياه والمصائد البحرية والموارد المعدنية.. فلك ان تتخيل اي رعب سيدخله هذا الإفتراض إذا ما تشكلت بموجبه الأوضاع القائمة في العلاقة مابين الجارتين.. على سلفة المياه المتراكمة المقدرة بمئات المليارات من الأمتار.. على المصائد والشعب المرجانية في مياهنا الإقليمية.. على الميزان التجاري ونصيب مصر من تجارة الكوميسا إذا ما حدث أن أحدثت الطفرة في الطاقة نهضة في الإنتاج الصناعي.
لسنا ضد مصر الشقيقة.. لكنا ضد مصر الإستعمارية الظالمة، شريكة الكوندومنيوم الإنجليزي في الخرطوم.. التي اعترضت على مشروع الجزيرة، ثم اعترضت على امتداد المناقل، ثم اعترضت على خزان الروصيرص، وأخيرا على سد النهضة،. في الوقت الذي مولت فيه جبل الأولياء، خزان أسوان وقناة جونقلي سعيا للإستئثار بمياه النيل دون سواها من دول الحوض الأخرى التي تعاني فقرا وحرمانا لا تخطئه العين.. إن كان للسياسيين في مصر من الأملاك والمصالح ومن التجارة ما يخشون كساده، فمن للفقراء والمرضى، الذين أرهقتهم المظالم وأعيتهم الحياة وأثقالها؟!.
إن أسوأ ما نفعله في هذا الزمان هو إسرافنا في إحسان النوايا.

nagibabiker@hotmail.com

 

آراء