مؤشرات الهجوم على .. سنتر الخرطوم … بقلم: مقدم ركن (م) محمد عثمان محمود
بعد التصريحات النارية التي أدلى بها الرئيس البشير قبيل الإستفتاء والتي أعلن فيها عدم إعترافه بالتعدد العرقي والديني في سودان ما بعد الإنفصال، وما تبع ذلك من تردي للأحوال المعيشية بسبب الزيادات التي فرضتها الحكومة مؤخراً، أصبح المناخ مهيئاً للعديد من السيناريوهات التي يمكن إستنباط مؤشراتها بسهولة بالربط الوثيق بين نبض الشارع السوداني ومنطلقات وإمكانات القوى السياسية والحركات المسلحة في السودان.
في ظل التوقف شبه التام لنشاط الأحزاب التقليدية في السودان فإن المعارضة الحزبية حتى الآن لم تتجاوز تلك الصدامات التي حدثت بين أمن النظام وجماعات حزب الأمة وتلخصت بشكل موجز في تلك الشروط التي تقدم بها رئيس حزب الأمة القومي والتي قوبلت بإستخفاف تام من قبل النظام، وبإنتهاء الموعد المضروب في السادس والعشرين من يناير الجاري من المنظور أن يقوم حزب الأمة بحراك سياسي قوي في محاولة لإسقاط النظام عن طريق العصيان المدني أو بإخراج الجماهير إلى الشارع إن إستطاع إلى ذلك سبيلا. إلا أن أحزاب المعارضة بما فيها حسب الأمة لا تشكل تهديداً عسكرياً لنظام الإنقاذ الذي لن يتردد مطلقاً في التصدي بآلته العسكرية للمواكب والتظاهرات وتفريقها وبإفراط شديد في إستخدام القوة.
خروج التظاهرات والإحتكاك المباشر بقوات النظام مباشرةً بعد إعلان نتيجة الإستفتاء سوف يؤدي في نهاية المطاف إلى إندلاع إنتفاضة شعبية عارمة بسبب الجوع والقهر وتفاقم المرارات، سيّما وأن ملامح هذه الإنتفاضة قد بدأت فعلاً بالظهور متمثلة في الغضب الشعبي المكبوت والنشاط الإلكتروني المحموم في عدد من مواقع شبكة الإنترنت وفي دعوة إشعال الشموع، هذا فضلاً عن التظاهرات الأخيرة في عطبرة ومدني والحصاحيصا واليوم في الكاملين، وإذا ما اندلعت الإنتفاضة فإن فلول أمن الإنقاذ سوف تتصدى لها بعنف إلا أن الإنتفاضة سوف تنتصر ولو بفيض من دماء الشهداء. وبعد نجاح الإنتفاضة فإن قادة الأحزاب السياسية التقليدية وخاصة الأحزاب المستكينة التي تهادن النظام سوف يظهرون جميعاً في الساحة ظهور الأبطال الفاتحين في محاولة لسرقة إنتفاضة الشعب، وهكذا تتواتر الأحداث مثلما كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان.
التصريحات التي أدلى بها البشير في القضارف فيما يتعلق بالأعراق والأديان واللَّغات قد أعطت أهل النيل الأزرق وجبال النوبة حقاً مشروعاً في النضال حتى يجدوا لأنفسهم مكاناً يسعهم في سودان لا يعترف حكّامه بغير الأعراب والمسلمين، وهذه المناطق التي استهدفتها تصريحات البشير بها ما لا يقل عن ستين ألف مقاتل محترف وفي وضع جغرافي يمكنهم من الاستناد لوجستياً وتعبوياً وبشكل مباشر على الدولة الوليدة في الجنوب، أما طمأنة سلفا كير للبشير بعدم إيواء المعارضات فهي تصريحات تقتضيها ظروف الإستفتاء ومقتضيات الإنفصال السلس عن دولة الشمال، ووجود مني أركو مناوي الآن في جوبا لكفيل بأن يدحض هذه التصريحات في مهدها، وهكذا فإن معظم التصريحات التي تصدر من القيادات والفصائل المناهضة للنظام ليس بالضرورة أن تنبئ بما تضمره القلوب.
وبالتعريج على قضية دار فور بعد مغادرة وفد المؤتمر الوطني للدوحة نجد أن معظم التصريحات التي أدلت بها القيادات الدارفورية وكل القراءات الأخرى تشير إلى توحد وشيك لكافة الفصائل الدارفورية ومن ثمّ التحرك لإزالة نظام الخرطوم بقوة السلاح، وتوحد أحد فصائل الشرق مع حركة العدل والمساواة يدلل بدوره على إحتمال توحد فصيلي النيل الأزرق وجبال النوبة مع الفصائل الدارفورية في هجوم من محورين - في آنٍ معاً - على سنتر الخرطوم، وهذه الفصائل قد أعلنت مراراً عن عزمها على إقتلاع نظام الخرطوم وإقامة دولة مدنية في سودان جديد، خاصةً وأن هذه الفصائل لم تعد تعوّل كثيراً على إنتفاضة شعبية تقطف ثمارها الأحزاب التقليدية وتعود بالبلاد إلى تلك الدوامة التي ملت من سماعها الآذان.
الحركة الشعبية سوف تنفصل بجنوب مثقل بجراحات الماضي وستبقى مشغولةً ببناء وترتيب أوضاع الدولة الجديدة ولكنها لن تتوانى عن دعم الإثنيات الأفريقية الكائنة في الشمال أو تتخلى عن مساندة رفقاء الدرب والسلاح الذين يعبّرون عن أحلامها في إقامة دولة السودان الجديد، ولمن يفكر في معاودة الحرب مع دولة الجنوب عليه أن يدرك بأن الحرب القادمة سوف تكون وبالاً على دولة الشمال، والفاصل بين الدولتين خط أحمر لن ولن يتجاوزه جيش الشمال، وذلك ببساطة، لأن دولة الجنوب ستكون محمية ومدعومة عسكرياً وأمنياً من قبل الولايات المتحدة الأمريكية التي لن تسمح بتحويلها إلى بؤرة للصراع من جديد بدلاً من أن تكون محطاً لرحال المستثمرين، وذلك لشيء في نفس الأمريكان.
الجبهة الوطنية العريضة كان بإمكانها أن تكون وعاءً سياسياً جامعاً لخلافة الأحزاب التقليدية التي أنهكتها الإنقاذ، وكان بمقدورها أن تنسق مع الفصائل التي تحمل السلاح لخلق توازن عسكري وسياسي يؤهلها للمشاركة بقوة في مرحلة ما بعد إسقاط النظام ولكنها ومنذ إنطلاقتها الأولى أخذت تنادي بإزالة النظام القائم في الخرطوم وهي لا تمتلك آلية واحدة ترقى لهذا المطلب الكبير وليس لها وجود يذكر في داخل السودان، ولم تبذل جهداً واحداً للتواصل والتشاور حتى مع السودانيين المتكدسين في دول الخليج وفي معظم دول المهجر، وقبل أن يألفها الناس شرع مؤسسوها في التناحر على ثمر لم يحن قطافه، فماتت في مهدها وانفضت من حولها النفوس، وبهذه النهاية المؤسفة تخلو الساحة لشعب الإنتفاضة والأحزاب المتربصة بها، وينفتح الباب على مصراعيه لمحاور الهجوم المسلح القادمة من دار فور والنيل الأزرق وأيضاً للمؤتمر الوطني وجحافل أمنه التي تتبختر في شوارع الخرطوم ليس من أجل تأمين الإستفتاء في شمال غادره معظم الجنوبيون، وإنما إظهاراً للقوة لإرهاب الجماهير المفتونة بالثورة التونسية، خوفاً من نزولها إلى الشوارع في كل لحظة وحين.
المؤتمر الوطني وإن بدا متماسكاً ومسيطراً على زمام الأوضاع في السودان إلا أنه قد وصل إلى طريق مسدود، وهو عبثاً يحاول أن يخفي إخفاقه الشامل في إدارة شئون البلاد وبالكاد يداري خيبة تفريطه في وحدة وتماسك السودان، وقد ظهر رئيسه في قناة الجزيرة خاوياً متجهماً تطغى على وجهه ملامح الخزي والإنكسار جراء إستسلامه وخضوعه المهين لإبتزاز الأمريكان، وصرح بلهجة الفاشل المغلوب على أمره وقال بأن الأمريكان سوف يعودون مرة أخرى بعد الإنفصال لمطالبته بالمزيد، ولا ريب أن الحزب الحاكم قد بات موقناً من الرفض الجماهيري العارم لسياساته الرعناء التي أفضت إلى تفكيك السودان، وتفشي الفساد، وتردي الأوضاع المعيشية في البلاد، ولا شك أن المخاوف من إنتفاضة عارمة قد بدأت تنتابه وتؤرق مضاجع قادته إلا أنهم ما زالوا يكابرون ويلعبون على وتر الدين ويتقربون زلفى من مشايخ الطرق الصوفية، وما فتئوا يراهنون على خنوع وخضوع الشعب الحليم، فأخذوا يجوبون البلاد ويكثرون من الخطب النارية المفعمة بعبارات التهديد والوعيد التي يلقيها البشير على جماهير الأطباق الطائرة التي يحشدونها له في كل مكان وزمان.
إن حصاد نظام الإنقاذ بعد عقدين من الزمان هو إشعال الحروب وتصفية الخصوم وإقصاء المعارضين وسرقة أموال البلاد وتجويع وترويع وتشريد الملايين من أبناء وبنات السودان، وإدارته للأزمات قد كلفتنا ثمناً باهظاً تمثل في إفساح المجال واسعاً للتدخلات الأمريكية السافرة في شئون البلاد وفي جعل السودان مرتعاً خصيباً للمخابرات المصرية التي تسعى إلى إقتطاع الشمال النوبي وضمه إلى الدولة المصرية وهي مخابرات تعيش بيننا تحت مظلة الحريات الأربع التي أصبحت تمنح هكذا سخاءً دون الرجوع إلى أهل البلاد، أما رئيس السودان المتشبث بالحكم قد أصبح بدوره رهينةً طيعةً في أيدي الأمريكان ولن يتوانى مطلقاً في تقديم المزيد من التنازلات لتنفيذ السياسات الأمريكية الرامية إلى تفكيك دولة السودان، ولو أراد المؤتمر الوطني لنفسه وضعاً أفضل مما هو عليه الآن لتفكّر في مصير الطغاة المتجبرين ومآل الحكام المستبدين، ولو تحلى بالقدر اللائق من الوطنية ونكران الذات وشاء أن يجنِّب السودان ما سيلحق به من تفتيت ودمار، لترك المكابرة وطالب ببعض الضمانات ووافق مسرعاً على شروط قوى الإجماع الوطني القاضية بإقامة الدولة المدنية في السودان.
مثلما فعلت الإنقاذ بالخدمة المدنية في السودان قامت أيضاً بتصفية الجيش القومي للبلاد وشرعت في بناء جيش عقائدي ظنت أنها قد أنجبته من رحمها ولم تلبث أن تبيّنت أنه جيش أتى من رحم السودان الولود وليس من رحمها العقيم فتوجست خيفةً من هذا الجيش لأن صنوفه من الأعراق التي لا تحبذها الإنقاذ وبين صفوفه جمع غفير من القادة الشرفاء، فعملت على تجفيفه وإخراج قواته الضاربة من عاصمة البلاد وأحاطت نفسها ببديل له أسمته القوات الأمنية وقوات الشرطة وبالغت في تزويدها بالسلاح وبالعتاد وأجزلت لمنتسبيها العطاء وأوكلت لقادتها مسئولية أمن البلاد وسلَّطتهم على رقاب الناس والعباد، ولا أود أن أتطرق هنا إلى قياسات الكفاءة القتالية والتفاصيل المتعلقة بتعادل القوى بين الجيش الحالي وبقية القوات المناهضة للنظام، إلا أن القوات الأمنية والشرطية وبقية الفصائل الكرتونية التي يحتمي خلفها نظام الإنقاذ قد تستأسد إلى حين، وإن لم يصرعها الجيش مع إندلاع المواجهة فهي لن تصمد طويلاً تحت ضربات الغزاة الحانقين أو هدير الشوارع وهي تموج بإنتفاضة الجياع الغاضبين.
مقدم ركن (م) محمد عثمان محمود
sadqabi@hotmail.com