ما بين محمد علي كلاي وجمال الوالي: تأملات في نفاذ البصيرة وفساد الذوق!!. ..بقلم: عبد الخالق السر

 


 

 

 

ان توظيف الاحداث التاريخية أو  المشاعر الدينية لخدمة أهداف معينة مثل الهاب حماس الناس او رفع معنوياتهم أو حسهم لانجاز فعل ما  يكاد يكون جزء  من طبائع الاشياء، ومع ذلك فهو فعل خلاق يحتاج الى قدرات خاصة ان لم يكن الى بصيرة نافذة، والاَ تحول الى "شتارة" ونهج أخرق يضر اكثر مما يصلح. فتوخي السياق شرط اساسي لأنه ينم عن حساسية بالغة وقدرة فذة في الربط الموضوعي والمنطقي بين الاشياء common sense  وكذلك اختيار اللغة المستخدمة وعلة ذلك ،في تقديري، هو دليل المام  واتساق وحكمة. ولكن ذلك لم يكن حال رئيس المريخ "الهمام" حين وضعته الظروف في مقام الناصح المحرض للاعبيه في مباراة الهلال الاخيرة. ولكن قبل ذلك علينا أن ندلف لنقدم نموذجا مشرقا من باب المقارنة التي بها فقط نستطيع أن نرى "الكبار" كبارا، و"الصغار" صغارا مهما تلفعوا أو تدثروا بهالة الزيف والتضخم اللتين يسبغهم عليهم المطبلون زلفة ونفاقا.

 

في أخريات ستينات القرن الماضي، وقف أسطورة الملاكمة العالمية وداعية الحقوق المدنية فيما بعد "محمد علي كلاي" أمام القضاء الأمريكي ليدفع عن نفسه تهمة خطيرة تمثلت في  التقاعس عن آداء الواجب الوطني، ونجح البطل الكبير وقتها في توظيف كل ممكناته من عقيدة دينية  وواقع اجتماعي مثقل بالمظالم، وذلك حين انبرى يقول أنه ينتمي الى عقيدة تحرم عليه قتل الابرياء من الناس - طبعا هذا قبل أن يخرج الاسلام السياسي من قمقمه لينسف هذا المبدأ المهم ويبقى شغله الشاغل كيفية قتل الابرياء والتفنن نشريع ذلك- واضاف أنه لا يجد مبررا لمحاربة الفتناميين فهم ،على حد علمه، ليسوا  من تسببوا في وضعه كمواطن درجة ثانية في بلده الاصلي منقوص الحقوق ومزموم عرقيا بوصفه اسود... انتهى.

 

هذا خطاب سارت به الركبان عبر الزمن وفنا في كيفية تطمين النفس في دروب وحشة المظالم وانعدام الرفقة. وما ذلك الاَ لأن نفاذ البصيرة وسلامة الحس كانا جوهر توظيف العقيدة والتاريخ الاجتماعي، ولكن كيف عمل رئيس المريخ لتوظيف مثل هذا الرأس مال الرمزي في دنيا الرياضة؟ أكرر الرياضة، لأننا سنرى أن رئيس واحدا من أكبر الاندية الرياضية في السودان آخر من يعلم أنه يمارس مهام رياضية وليست حربية أو جهادية!!. والآن الى هذا المقتطف من صحيفة المريخ  الى لاعبيه في مباراتهم الأخيرة ضد غريمه الهلال.

 

 (كان ذلك التجمع اشبه بعملية الدفع المعنوي التي تتطلبها مثل هذه المباريات المهمة ويمكن القول ان الجلسة حققت غرضها تماما في تهيئة اللاعبين ورفع معدلات الروح القتالية في نفوسهم وقلوبهم .

وكان ابلغ تعبير دار في الاجتماع الذي تم بين الاخ الرئيس واللاعبين هو يذكرهم بان تاريخ المباراة يصادف حدثا عالميا مهما يتمثل في انهيار اعلى برجين في الولايات المتحدة الامريكية وبغض النظر عن تصنيف العمل واختلاف الناس حوله الا انه يجسد حالة ايمان وقناعة دفعت الشباب الذين فجروا البرجين لتقديم حياتهم ثمنا لما آمنوا به وكان يمثل هدفا راسخا لم يتنازلوا عنه وان كانت حياتهم هي الثمن مشيرا الى ان كل ما يرجوه هو ان يؤمن نجوم المريخ بالنصر وانه لا يطالبهم بالموت ولكن بتقديم كل ما يحقق لهم النصر حتى يصالحوا جماهيرهم ويعيدوا لهم الافراح التي غابت عنهم وعن ديارهم طويلا .

ولم يكتفي الاخ رئيس المريخ بهذا الحديث بل قدم لهم حافزا مغريا وبالعملة الصعبة وسلمه لكابتن الفريق فيصل العجب لينالوه كاملا وربما مع زيادة في حال نجحوا وحققوا الفوز واهدوا الصفوة نصرا مستحقا وجعلوا العيد عيدين عندها).. إنتهى . 12/9/2009 صحيفة المريح الالكترونية. ياسر المنا.

 

هذا خطل بين في استدعاء الاحداث يكشف دون مواربة أن السيد رئيس نادي المريح ذو ذهنية ايدولوجية مصمتة، لا علاقة لها البتة بمتغيرات الواقع الرياضي أو شروطه الثقافية والمفاهيمية. لذلك يأتي استشهاده لواحدة من الجرائم التاريخية الكارثية في  عصرنا الراهن مشاترة لا مثيل لها وبؤس مفاهيمي وفساد في  الذوق لا مزيد عليه. والأكثر أسى أن يتم ذلك في بيئة رياضية مؤسسة أصلا على المحبة والتسامح والتنافس البناء الذي يعمل على تنمية كل عناصر الخير في الانسان، وبالقدر الذي نصب الرياضة واحدة من أكثر  الانشطة الانسانية عبقرية في تاريخ البشرية حين تمثلت كل الصراعات والتوترات الناتجة عن التفاعل البشري وحولتها الى طاقة ايجابية تعمل على تنمية قيم عظيمة لا تنفك تعمل على تجاوز سوءات الانسان من عنصرية وعصبية دينية وعرقية لتحيلها الى محبة وتسامح في الاخوة الانسانية التي تتقبل الهزيمة وتحترم الخصوم وتشيع المتعة والجمال.

أما الأكثر خطورة من هذا الاستشهاد المهتريء، فهو مروره مرور الكرام في أجهزة الاعلام، بل وأن يعتبره البعض – كرئيس تحرير صحيفة المريخ مما يحسب للسيد الوالي!!. فتأمل!.  كثيرا ما اعزي ذلك الى الفراغ الاخلاقي والفلسفي المدعوم بسلطة اللوائح والقوانين المنظمة للعبة. فهذا النوع من التعليق هو  استثمار  لثقافة العنف والدموية في مجال مؤسس على السماحة والاخوة، ومن ثم يجب على قائله أن يتحمل تبعاته عقابا ليس اقله الاجبار على الاستقالة والاعتذار علنا عن هذا الهتر. وهذا ما يحصل في كل المجتمعات التي يحكم نشاطها الانساني معايير وقواعد اخلاقية مؤسسة على الحس العام تمثل مرجعية اخلاقية واحيانا قانونية. 

ففي انجلترا ،مثلا، وقبل عدة سنوات، أجبر  مدرب المنتحب الانجليزي الشاب "غلين هودل" على الاستقالة لأنه أفصح في حوار صحفي  كا فهم على أنه إقلال من شأن المعوقين، وكانت لحظة مأساوية للاتحاد الانحليزي الذي كان مغبوطا بالنجاحات الساحقة التي حققها هذاالمدرب مع المنتخب في فترة وجيزة من توليه مهامه. ولكن اخلاقيا استحال أمر  استمراره، وهذا ما عبر عنه بيان الاعفاء الصادر من الاتحاد الانجليزي والذي إفصح فيه عن اسفه وخيبة أمله في التخلي عن مدرب بهذه القدرات العظيمة ولكن من الصعوبة بمكان استمراره  بعد الاخلال بأهم الاسس الاخلاقية التي تستند عليها الرياضة وهي: رفض التمييز بكافة أشكاله ونبذ العنصرية وتشجيع قيم المحبة والتسامح، على حد وصف البيان والذي لم يكتفي بذلك بل طالب المدرب بالاعتزار الفوري للمعوقين وكل منظمات حقوق الانسان.. انتهى.

لا يحلم كاتب هذا المقال بشيء من هذا, فالغيبوبة هي المسيطرة، فلا صاحب التعليق يعي أنه أتى أمرا إدا، ولا المعنيين بأمر اللعبة من اتحاد وصحافة  بلغوا درجة من الرشد تعينهم على تبني مواقف صارمة  تعيد للعبة هيبتها وتفسح لها موقعا متقدما في تنمية المجتمع اخلاقيا، اجتماعيا وثقافيا.

عبد الخالق السر

 To: caricaelsir@hotmail.com

 

آراء