متابعات من واشنطن: حول أفغانستان والعراق !!. بقلم: السفير أحمد عبد الوهاب جبارة الله

 


 

 


Ahmed Gubartalla [ahmedgubartalla@yahoo.com]
كلما زرت العاصمة الأمريكية واشنطن  وجدتها وهى تعج بالأحداث الداخلية والخارجية ، وأجد نفسى ألهث وراء الصحف والمجلات وبرامج الحوار والأخبار فى محطات التلفزيون العديدة ، وأجتهد فى لقاء الأصدقاء العديدين هنا بما يساعدنى على فهم ما يجرى من أحداث . والأحداث الكبرى التى تجرى هنا ،لها آثارها على العالم كله وبالتالى فإن آثارها ليست  بقاصرة على  الولايات المتحدة وحدها. ولست فى حاجة للقول بأن  متابعة ما يعتمل من أحداث فى واشنطن ، فيه فرصة لفهم الكثير من حقائق ومآلات العلاقات الدولية ، وذلك بالنظر إلى النفوذ الهائل للولايات المتحدة فى الخارطة السياسية والإقتصادية والعسكرية فى عالم اليوم.                   
لاحظت خلال زيارتى لواشنطن هذه المرة ، أن هناك الكثير من الإهتمام بقضيتين إثنين من قضايا السياسة الخارجية الأمريكية ، أولاهما تتعلق بتطورات الأحداث فى أفغانستان ، والثانية ترتبط بمستقبل ومآلات الأوضاع فى العراق. وقد وجدت نفسى متابعا لهذين الموضوعين، ليس فقط لما لهما من انعكاسات على المنطقة العربية والإسلامية ، ولكن أيضا لتجربتى الشخصية فى العمل مع الأمم المتحدة لعدد من السنوات فى كل من أفغانستان والعراق.
يبدو واضحا الإنشغال الكبير للولايات المتحدة بما تشهده أفغانستان من أحداث ، لأن الكثير من التساؤلات ما فتئت تطرح هنا عما حققته الولايات المتحدة من أهداف خلال العشر سنوات الماضية بحربها ضد القاعدة وضد نظام الطالبان ، وسندها المكثف لحكومة الرئيس حامد كارزاى عسكريا وسياسيا واقتصاديا. وقد لاحظت أن مجلة " الشئون الدولية " المرموقة ، فى عددها الأخير(سبتمبر /أكتوبر 2001) ، نشرت  مقالا هاما عن الدور الأمريكى فى أفغانستان . ثم وجدت أن صحيفة الواشنطن بوست ، فى عددها بتاريخ السابع من أكتوبر الجارى نشرت عرضا وتحليلا يتعلق  بذات الموضوع. والمهم أن ندرك بأن القوات الأمريكية التى بلغ عددها  98 ألف مقاتلا ، تسعى لتنفيذ  جدولها بالإنسحاب التدريجى من أفغانستان . ومعها أيضا قوات أخرى من بعض دول حلف الأطلنطى فيما يسمى بقوات  الإيساف. ومما يجدر ذكره أن عدد الجنود الأمريكيين  الذين فقدوا حياتهم فى أفغانستان  بلغ حتى الآن1786 شخصا. ناهيك عن آلاف الجرحى ومئات البلايين من الدولارات التى أنفقتها الولايات المتحدة فى تلك البلاد. وبرغم كل هذا ، مازالت حكومة كارزاي لا تسيطر على الأوضاع ، كما أن الشعب الأفغانى لم يشعر بتحسن يذكر فى أوضاعه المعيشية تدفعه لتأييد النظام القائم . يضاف إلى ذلك أن جماعة الطالبان ما زالوا يقاومون فى حرب استنزاف لا هوادة فيها. وفوق هذا وذاك ، تثور الكثير من الأحاديث عن انهيار متوقع حال انسحاب القوات الأمريكية .
كذلك تحدثت بعض التقارير فى وسائط الإعلام الأمريكية عن اتهامات للحكومة الباكستانية وأجهزة مخابراتها بالتواطؤ والإتصال بعناصر الطالبان، من وراء ظهر واشنطن . وهذا أمر سيؤدى – فى نظر واشنطن- إلى إضعاف الجهود الرامية إلى التخلص من العناصر المتطرفة وبناء وضع يتجاوز أية تصورات تطمح فى العودة إلى حكومة تقودها عناصر الطالبان التى تحالفت مع القاعدة وزعيمها أسامة بن لادن ،الذى قتلته القوات الأمريكية مؤخرا فى باكستان.
من خلال تجربتى ومتابعاتى للوضع فى أفغانستان، وما سبق أن كتبته فى هذا الموضوع ، فإننى أميل للتأكيد على أن مشكلة أفغانستان ليست هى بمشكلة أفغانية...ولكنها مشكلة دولية. بمعنى أن المتابع لتاريخ أفغانستان السياسى يجد أنها ظلت دائما ميدانا تصفى فيه القوى الخارجية حساباتها على حساب الشعب الأفغانى. وهى موقع تتنازعه مصادمات القوى المجاورة لها ، ثم القوى غير المجاورة لها ، وذلك لا فرق فيه بين أيام الإستعمار الأوروبى، وأيام الحرب الباردة بين الإتحاد السوفيتى وقتها وبين الولايات المتحدة ، وأيام بزوغ نجم الطالبان فى التنازع  بين الباكستان والهند وإيران وبعض دول الخليج العربية .  وهكذا فإن الخاسر دائما فى هذه الدوامة الجهنمية، هو شعب أفغانستان ، والمفارقة الكبرى أن الطرف الرابح فى هذه المعادلة ما زال مفقودا حتى الآن!! ورحم الله صديقنا الأفغانى فاضل بختيارى ، الذى كان يقول لى دائما أن بلاده ليست سوى ميدانا لتجارب السلاح ، وهى برغم جبالها الشاهقة، ضائعة فى بحر من الأهوال لا شاطئ له على الإطلاق.                       
وبرغم كل هذه المصاعب والعقبات ، فإن واشنطن لم تفقد الأمل ، وقد أشارت صحيفة الواشنطن بوست فى عددها المشار إليه أعلاه، إلى حديث لأحد كبار المسئولين الأمريكيين قال فيه: "لا بد أن نصل إلى حل سياسى لهذه الحرب ، فى نهاية المطاف..وعلى الرغم من أننا لم نقترب بعد من ذلك الهدف ،فإن جهودنا لن تتوقف أبدا.
أما ما يخص العراق فى إهتمامات واشنطن ، فهوأمر جد شائك ومعقد ، وذلك نسبة للمصالح الأمريكية الهائلة التى دفعت الولايات المتحدة لغزو العراق فى عام 2003. فالأمر هنا أكثر تعقيدا من أفغانستان. فبالرغم من مرور ثمانية أعوام على الغزو الأمريكى للعراق ، فإن العديد  من الأجندة التى طرحتها إدارة الرئيس بوش الإبن وقتها ، مازالت بعيدة المنال. ولعل ما نقله جاكسون ديهل فى مقاله بصحيفة الواشنطن بوست بتاريخ العاشر من أكتوبر ، عن المعلق الإستراتيجى ميجهان أوسيليفان ، فيه تأكيد لهذا المعنى. حيث قال أوسيليفان :" إن ما جرى فى العراق جاء دون توقعات كل من الولايات المتحدة والعراق.ويبدو أن النفقات الباهظة والمعاناة الأمريكية فى العراق ، أصبحت هى الرادع للولايات المتحدة وحلفائها من التدخل بشكل مماثل فى سوريا ...". غير أن ديهل يختم مقاله بفكرة مثيرة للتأمل جاء فيها :" إن ثورات الربيع العربى وتوجهاتها قد جعلت غزو العراق أمرا مستحقا ، وربما يأتى يوم يقول فيه السوريون ليت الغزو كان من نصيبنا أيضا.."  وفى تقديرى أن السيد ديهل لم يضع فى الإعتبار مئات الآلاف من العراقيين الذين فقدوا أرواحهم وحوالى ثلاثة ملايين من العراقيين والنازحين الذين عصفت بهم الحرب إثر الغزو الأمريكى للعراق.ناهيك عن الدمار المريع الذى أصاب البنية التحتية للعراق
كما هو الحال فى أفغانستان ، فإن إدارة الرئيس أوباما منشغلة بأمر الإنسحاب التدريجى من العراق والذى سيبلغ مداه بنهاية هذا العام، بعد أن وصل حجم القوات الأمريكية هناك أكثر من 140 ألف فى عام 2006 . وحتى الآن فقد بلغ عدد القتلى من الجنود الأمريكيين فى العراق 4408 جنديا ، وقد تجاوزت النفقات العسكرية المباشرة أكثر من 900 بليون دولار ، علاوة على أكثر من 30 ألف من الجرحى . وعند مطلع عام 2012 سيكون عبء التعامل الأمريكى مع العراق قد انتقل من وزارة الدفاع الأمريكية إلى وزارة الخارجية الأمريكية . مع ملاحظة أن المصادر الأمريكية تتحدث عن تضاؤل للوجود العسكرى ، الذى سيفوقه وجود مدنى ، تحت إشراف السفارة الأمريكية يصل أفراده إلى 16 ألف أمريكى ، معظمهم من المقاولين ، فى أكبر عملية للخارجية الأمريكية ، تضاهى عملية "خطة مارشال" لتعمير أروبا بعد الحرب العالمية الثانية . ولعل الفرق بين ما سيجرى فى العراق وبين ما جرى فى أروبا ، أن نفقات البناء والتعمير فى العراق سيتحملها شعب العراق من موارده النفطية ، بينما تقوم الشركات الأمريكية بعمليات التنفيذ.                                                    
وفى سياق ما يجرى فى العراق أيضا، إهتمت الدوائر الأمريكية مؤخرا ، بما أبدته حكومة العراق من تقارب مع نظام بشار الأسد فى سوريا. فقد عبرت الدوائر الأمريكية عن عدم ارتياحها لهذا الموقف العراقى ، الذى أصبح مطابقا للموقف الإيرانى  الذى أخذ يدعو إلى التغيير فى سوريا فى إطار النظام القائم، ولا يميل إلى تغيير النظام برمته ، كما تدعو الإدارة الأمريكية فى تصريحاتها.                                      
هناك أيضا الكثير من التساؤلات عن قضية التوازن الإستراتيجى بين إيران من جهة، وبين العراق والدول العربية المجاورة من جهة أخرى. ويظل السؤال الكبير قائما: إلى أى مدى سيكون النفوذ الإيرانى ماثلا فى العراق ، بتراجع الوجود العسكرى الأمريكى فى العراق؟ وبنفس القدر: كيف سيكون الوضع فى المعادلة الإستراتيجية بين إيران والمملكة العربية السعودية ؟ ثم كيف ستكون الأوضاع الإستراتيجية فى المنطقة بعد إنهيار النظام السورى الحالى؟   تلك كلها أسئلة قد تغيب عن الكثيرين، ولكنها لا تغيب عن فكر ومتابعات السياسات الإستراتيجية للولايات المتحدة ، ولغيرها من القوى التى تحسب مصالحها بحساب براجماتى  تقتضيه معالجات العلاقات الدولية وتعقيداتها.                                                      
فى هذا المقام علينا الإشارة أيضا إلى الإقتصادى الأمريكى المرموق ، جوزيف ستيجليتز ، الحائز على جائزة نوبل فى الإقتصاد، وزميلته الأستاذه ليندا بيلميس ،  وما ورد فى كتابهما " حرب التريليونات الثلاثة" حول نفقة الحرب فى العراق . وكان تقديرهما لتكلفة هذه الحرب بأنها بلغت  الثلاثة تريليونات من الدولارات ( هذا رقم فلكى لا نريد للقارئ أن ينشغل بمسألة تحويله لجنيهات سودانية ، على كل حال!!)....
ذلك ما رأينا عرضه بصورة موجزة عن قضيتين هامتين ( العراق وأفغانستان) تنشغل بهما السياسة الخارجية الأمريكية  بقدر ما انعكس فى وسائل الإعلام فى واشنطن. وبالطبع فإن الإهتمام المستمر بمضاعفات هاتين القضيتين ، لا يشغل الإدارة الأمريكية عن سواهما من القضايا . و لا يفوتنى أن انبه القارئ إلى أن هناك أيضا قضايا داخلية كبرى يراها المرء ،هذه الأيام ، فى قمة إهتمام الإدارة والرأى العام الأمريكى ، وفى طليعتها مسألة الوضع الإقتصادى ومسألة الإستعداد للإنتخابات الرئاسية التى ستجرى فى نهاية العام القادم

 

آراء