متاهة الخرطوم والوعود الامريكية
خالد التيجاني النور
26 June, 2011
26 June, 2011
جاء المبعوث الرئاسي الأمريكي السابق الجنرال سكوت قريشن إلى الخرطوم في سبتمبر الماضي عارضاً على الحكومة السودانية خريطة طريق لتطبيع العلاقات بين البلدين, على نهج سياسة الخطوة خطوة التي ابتدعها هنري كيسنجر, والتي تربط بين مضي الخرطوم قدماً في إكمال تنفيذ متطلبات اتفاقية السلام الشامل بما في ذلك تسهيل قيام دولة الجنوب المستقلة دون عراقيل, وبين خطوات أمريكية مقابلة محدودة ومحسوبة بإتجاه التطبيع الكامل الذي لن يتم حسب العرض الأمريكي إلا بعد تسوية أزمة دارفور.
فوجئ الجنرال قريشن, حسب مصادر دبلوماسية مقربة منه, بأنه لم يجد أية صعوبة في إقناع كبار المسؤولين في الحكومة السودانية بعرضه, بل مضت مهمته بسهولة أكثر مما توقع حين أبلغوه بأن الخرطوم ستفي بالتزاماتها تجاه إكمال تنفيذ عملية السلام في كل الأحول انطلاقاً من موقف مبدئي وبغض النظر عن عرض التطبيع الأمريكي المتزامن الحطوات, وأنها تفعل ذلك لا رجاءً في الجزرة ولا خوفاً من العصا الأمريكية, واكتفى كبار رجال الحكم بتذكير المبعوث الأمريكي بخيبة الأمل في وعود التطبيع الأمريكية المبذولة بلا وفاء خاصة بعد ارتفاع الأمال التي رافقت أجواء المفاوضات وتوقيع اتفاقية السلام التي رفعت سقف التفاؤل بتطبيع وشيك ولعل ذلك كان سبباً مباشراً في إظهار مرونة زائدة, وربما تساهلاً, في تمرير بعض القضايا الخلافية التي كانت تنذر أحياناً بإجهاض العملية برمتها.
لعل الجنرال قريشن لم يمض بعيداً في دهشته من سهولة تفويت المسؤولين في الخرطوم لهذه الفرصة السانحة لاستخدام كروت الضغط القوية المتاحة في يدها وهي لضرورية وحاسمة لإكمال عملية السلام إلى نهايته, خاصة وأن ذلك كان قبل الاستفتاء على تقرير المصير بخمسة أشهر, وهو الخطوة الأكثر أهمية ومفصلية من بين كل خطوات تنفيذ استحقاقات عملية السلام, فتجربة السياسة الأمريكية في التعاطي مع حكم الانقاذ خلال العشرين عاماً الماضية أثبتت لها دائماً أن السياسة الخارجية السودانية ظاهرة صوتية تفتقر للرؤية الاستراتيجية الواضحة الأهداف وتعوزها الحنكة الدبلوماسية قليلة الفعل ومحدودة التأثير, ولذلك تنقلب دائماً وبالاً على أصحابها, فقد حفظت واشنطن أسلوب الساسة الحكوميين في الخرطوم عن ظهر قلب, يرفعون الصوت عالياً بالشعارات المتحدية بلا رصيد من معطيات موضوعية وفعلية تسند ذلك ودون تبصر في العواقب, وما أن تتبين خطورة ردود الفعل على حتى ينهضون للبحث عن مخارج من الورطة التي أوقعوا أنفسهم فيها بلا مبرر ولا سبب وجيه, ومثلما يبدو هؤلاء الساسة متطرفون في الشعارات المتحدية العديمة الأثر, يبدون تساهلاً يفوق التوقعات في التعاون مع ما كان يتحدونه بالأمس إلى درجة ألا يطلبون مقابلاً لهذا التعاون تنازلاً بتنازل, بل ينتظرون أن تتفضل واشنطن بتفهم مدى ما بذلوه من تنازلات وتقدم المقابل الذي تختاره في الوقت الذي تراه مناسباً ثم لا تقدم شيئاً أصلاً, لأنها تكون حصلت على ما تريد دون أن تجد ما يلزمها لتقديم المقابل.
وعهدت واشنطن سياسة شراء الزمن المفضلة لدى ساسة الحكومة في الخرطوم, ولكنها خبرت أيضاً أنهم في نهاية المطاف يستجيبون لما رفضوه بالأمس, ولا بأس إن جرى في إطار ذلك استخدام بعض المساحيق من باب رفع الحرج أو حفظ ماء الوجه.
ولعل مصدر الغرابة المثير للعجب في أسلوب الخرطوم في إدارة سياستها الخارجية تكرارها لأخطائها أن تلدغ من الحجر ذاته ثلاث مرات وأكثر, والحكمة أن المؤمن لا يدغ من حجر واحد مرتين, كانت المرة الأولى حين تحول اتجاه السياسة الخارجية مائة وثمانين درجة من النقيض من النقيض إلى النقيض, فقد بدأت الانقاذ عهدها بالحكم مناهضة للسياسة الأمريكية وتورطت بلا حساب ولا تبصر في مصيدة الغزو العراقي للكويت, ثم في احتضان الحركات الجهادية المسلحة الموصوفة أمريكياً بالإرهاب, ولعل العذر الوحيد في ذلك أنها كانت تعيش وقتها مرحلة طفولة ثورية, وحين أدركت عواقب ذلك انقلبت على تلك العلاقات في محاولة للاقتراب أكثر من السياسة الأمريكية بتعاون غير محدود السقف في ملف مكافحة الإرهاب رجاء أن يساعد ذلك في تنظيف اسمها ورفعه من لائحة الدول الراعية للإرهاب, وأكثر من ذلك تعبيد الطريق أمامها لدخول نادي الشرعية الدولية.
ولم يعد سراً أن محاولات الخرطوم للتقرب من واشنطن التي بدأت بعرضها إبعاد أسامة بن لادن في العام 1996, وبلغت أوجها مع مطلع القرن الجديد حين بلغ التعاون الاستخباري بين البلدين حدوداً فاق الخيال والتوقعات الأمريكية, وفتحت الخرطوم أبوابها على مصاريعها لتعب واشنطن عباً من ملفات ومعلومات بالغة الأهمية في مطاردة ومحاصرة المطلوبين أمريكياً وما كان لها أن تبلغ ذلك لولا كرم السلطات السودانية الحاتمي, وبغض النظر عن انتقادات البعض من أن ذلك التعاون تجاوز كل الخطوط الحمراء, وطنياً وإسلامياً, إلا أن وجه الغرابة يأتي من أنها سجلت سابقة في العلاقات الدولية حين يبلغ التعاون الاستخباري بين بلدين هذا المدى البعيد, ثم لا تجد له أي أثر إيجابي على العلاقات السياسية, فقد بقيت العلاقات بين الخرطوم وواشنطن على حالها من التردي والضغوط, فقد حصلت واشنطن على كل ما تريد وأكثر ولكنها لم تكن ترى نفسه ملزمة بتقديم شئ لأن الخرطوم لم تتقن اللعب على الطريقة الأمريكية (الخطوة .. خطوة) وأعطت ولم تستبق شيئاً وسلمت كل أوراقها بلا مقابل فوري, وتوهمت أن المبادرة بحسن النية الذي يصلح في تقوية العلاقات الشخصية يصلح كذلك في عالم السياسة وفي فن العلاقات الدولية في عالم يزداد تعقيداً.
المبرر الوحيد الذي ساقه أخيراً أحد عرابي تلك الفترة من التعاطي ذو الاتجاه الواحد مع واشنطن, أن ذلك التعاون الاستخباري المفتوح من قبل الخرطوم حمى السودان من ضربة أمريكية انتقامية في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر نحو ما حدث في الهجوم المحدود على مصنع الشفاء في أعقاب تفجير سفارتي واشنطن في نيروبي ودار السلام, قد يكون ذلك وارداً أن السودان نجا من ضربة عسكرية أمريكية محتملة مثلما حدث في أفغانستان, لكن من المؤكد أن ذلك النهج المتسم بقدر غير من التواضع في فهم وإدارة ملفات السياسة الخارجية, والفطير بطبعة في عالم السياسة الدولية, لم ينج البلاد من ضربة سياسية أعمق أثراً ذلك اكتشاف واشنطن أن هلع الخرطوم من الانتقام الأمريكي جعلها تتصرف على نحو غير متزن إلى درجة أن تبذل كل هذا الجهد وتفتح خزانة أسرارها دون أن تحصل على مقابل سوى الأمل بما يمكن أن تتبرع به واشنطن, ليصبح ذلك مفتاح السياسة الأمريكية تجاه الخرطوم واسلوبها المجرب والمعتمد أي أن الخيار أمامها في التعاطي مع حكم الانقاذ ليس بين الجزرة والعصا, بل بين استخدام العصا أو وقف استخدامها أحياناً باعتباره ذلك جرزة في حد ذاته.
وتكرر السيناريو ذاته مع عملية السلام السودانية, ومع أن التفاوض والتوقيع على الاتفاقية جرى بين أطراف سودانية, إلا أنه لا جدال في أن الدور الأمريكي كان اساسياً وحاسماً في كل أوقات العملية منذ تبنى إدارة الرئيس جورج بوش الإبن لسياسة إنهاء الحرب في الجنوب, ونموذج التسوية الذي اقترحته, ثم بعثة الشيخ جون دانفورث والدور المحوري الذي لعبه في تحريك قطار التسوية, لقد جرت تلك العملية بتجاوب كامل من الحكومة السودانية, وبدرجة واسعة من المرونة, تحت وعود قاطعة بأنها مفضية لا محالة إلى تطبيع سريع ليس بين الخرطوم وواشنطن فحسب بل ومع المجتمع الدولي قاطبة, ومرة أخرى لم تكن هناك ضمانات محددة سوى الثقة في أن الثمن الوحيد المتوقع للانخراط بحماسة في اللعبة الأمريكية لتسوية الحرب الأهلية الأطول عمراً في القارة الإفريقية ستكون هي دخول حكم الانقاذ أخيراً بعد انتظار طويل إلى نادي المجتمع الدولي مكللاً بالغار بعد إبرام اتفاقية سلام باستحقاقات والتزامات غير مسبوقة بما في ذلك خيار القبول بتقسيم البلاد, ويبدو أن أضواء الإعلام العالمي الكثيفة والاهتمام الدولي غير المسبوق الذي حظي به المفاوضون وحتى كلمات الثناء والتقدير التي أحاطت بهم مع توقيع كل برتوكول من اتفاقيات السلام اسلمت الجميع إلى "إحساس عميق" بأنه ليس هناك حاجة لطلب ضمانات أو ربط التقدم في المفاوضات بالحصول على مقابل في تحسين العلاقات, لقد استسلم صانعو السياسية الحكومية الخارجية إلى فكرة أن التطبيع سيأتي جملة واحدة بعد التوقيع على الاتفاقية والشروع في تنفيذها, خاصة وأن ذلك سيكون أمراً لازماً لدور الضامن الدولي للاتفاقية الذي كانت واشنطن تتهيأ له. ومضت سنوات الانتقال الست ولم تظفر الخرطوم بشئ من وعود واشنطن, لتكتشف مرة أخرى أنها اشترت الترام, لتواصل الإدارة الأمريكية اتقان لعبة ترحيل الوعود إلى ما لا نهاية مع مطالب متجددة.
لعل ذلك كله ربما كان شيئاً من الماضي لولا أن أثر ذلك التعاطي الملتبس في السياسة الخارجية سيكلف الخرطوم غالياً في ما هو مقبل عليها من أيام صعبة وشديدة الوطأة, فتقسيم البلاد حدث, والانفصال اصبح واقعاً, غير أن ما يثير الإنزعاج والقلق العميق إزاء هذه التطور الخطير أن البلاد تقبل عليه وهي بلا رصيد من استعداد حقيقي لتبعاته وتداعياته, فمغامرة التسوية بكلفتها الغالية تحولت إلى مقامرة بامتياز, فربما كان مقبولاً أن يكون هذا الثمن الباهظ معقولا لو أنه أفضى إلى سلام حقيقي مستدام, وإلى تطبيع علاقات السودان مع المجتمع الدولي, وإلى إعطاء فرصة سانحة للاستقرار والنهوض, لكن أياً من هذا كله ليس واضحاً في الأفق, فقيام دولة الجنوب الجديدة يأتي ونذر الحرب تطل من جديد وإرهاصاتها لا تحتاج إلى دليل, ليس فقط بين الشمال والجنوب على منطقة ابيي المتنازع عليها, بل في مناطق الجنوب الجديد في سودان الشمال.
تبقت أيام معدودة على نهاية الفترة الانتقالية, ومسائل غاية في الأهمية وضرورية ولازمة للاستقرار لا تزال عالقة بلا حل, فقضيتا أبيي وترسيم الحدود من استحقاقات التسوية الاساسية في معادلة السلام تنتهي الفترة الانتقالية وتتجاوزهما وتخلص إلى استحقاقها الأهم تحقيق الانفصال, وقضايا فك الارتباط بين الدولتين وجلها ترتيبات حساسة خاصة في جوانبها الاقتصادية لضمان استمرار الدولتين الجديديتين قادرتين على الحياة والعيش بسلام وتعاون, تنتهي الفترة الانتقالية بلا تسوية ملفاتها, باختصار تنتهي الفترة الانتقالية ويتم التقسيم في ظل قنابل موقوتة متعددة تكفي كل واحدة منها لتفجير الحرب الشاملة مجدداً.
يحدث ذلك بسبب خطأ استراتيجي قاتل أعادت الحكومة في الخرطوم ارتكابه في شأن تعاطيها مع واشنطن, دون أن تنسى أو تتعلم شيئاً من سابق تجاربها, وهو أمر متوقع في ظل الافتقار إلى رؤية استراتيجية للحكم وإدارة ذات بصيرة مدركة للعواقب, لقد كانت خريطة الطريق الأمريكية التي عرضها الجنرال قريشن هي عين ما تحتاجه الخرطوم في ذلك التوقيت بالذات ليس من أجل التطبيع, وهو ترف سياسي في ظل التحديات الراهنة التي خلفتها تسوية نيفاشا التي يبدو أنها قسمت البلاد ولم تجلب سلاماً إن لم تكن في وارد إعادة إنتاج الحرب مجدداً, بل من أجل ضمان تنفيذ متوازن وكامل لكل استحقاقات تسوية نيفاشا حتى تفضي إلى سلام حقيقي مستدام.
لقد تعامل ساسة الحكم في الخرطوم تعاملاً قصير النظر مع الحرص الأمريكي على ضمان قيام استفتاء تقرير المصير والقبول بنتيجة الانفصال التي كان معلوماً سلفاً أنها محسومة النتيجة, ومحاولة الظهور بمظهر أخلاقي في أمر سياسي بهذا الخطورة لم تكن في محلها على الإطلاق, فإعطاء الخرطوم ضمانات قاطعة للجانب الأمريكي بالتزامها بقيام الاستفتاء في موعده والقبول بنتيجته أفقد الحكومة أهم كرت ضغط بيدها, ليس للحصول على التطبيع المزعوم, بل لضمان التنفيذ الفعلي لكل استحقاقات عملية السلام.
ولم يكن مطلوباً من الحكومة السودانية التنكر لالتزامها بتنفيذ كل استحقاقات التسوية, ولكن القبول بآخر استحقاقاتها الاستفتاء دون المرور بالاستحقاقات العالقة التي كانت تسبقه موضوعياً وعملياً لم تكن قفزة في الهواء فحسب, بل كانت مثيرة للتساؤلات الحائرة حول المعطيات التي تتخذها بها مثل هذه القرارات المهمة, ومكمن الحكمة وراءها.
لقد كان أمراً طبيعياً تماماً أن ترهن الخرطوم الوصول إلى آخر استحقاقات عملية التسوية وهو الاستفتاء بعد إكمال تنفيذ ما تسبقه من بنود وهو في هذه الحالة حسم مسألة أبيي وترسيم الحدود, هذا على أقل تقدير وإن كان ضرورياً أيضاً الاتفاق على أسس فك الارتباط عند الانفصال, لقد كان ذلك أقوى كرت بيد الخرطوم تضغط به على واشنطن لضمان حسم كل استحقاقات التسوية موضوعياً وفعلياً, بما يضمن استدامة السلام, ولكن كالمعتاد أهدرت تلك الفرصة جرياً وراء سراب التطبيع.
والوضع المأزقي الأن في أبيي, ثمرة مرة لذلك, وخير برهان على عمق الأزمة, فالعودة إلى الحرب ليس نزهة, واللجوء إلى القوة لحسم الخلاف ليس ممكناً, وأثبتت المفاوضات الجارية للخروج من هذا النفق من خلال الاستعانة بقوة أجنبية لنشرها في المنطقة بعد سحب القوات المسلحة, أن الحلول العسكرية قصيرة النفس فضلاً عن أنها ليست مجدية. فإن كانت الخرطوم رغبت عن مقايضة الانفصال بالتنفيذ الكامل للاتفاقية قبل إجراء الاستفتاء خشية إغضاب واشنطن أو محاولة لإغرائها بتطبيع سريع, أو لمجرد تفادي الحرب, ها هي تواجه كل هذه الأمور مجتمعة لأنها لم تحسن سبل التعاطي السياسي الاستراتيجي, بل ستكلف هذه القضايا العالقة الخرطوم تدخلاً دولياً لا قبل لها به.
Khalid Tigani [tigani60@hotmail.com]