محاكم لاهاي”الشرعية” وإعلان الجهاد في كينيا ولبنان
(1)
خلال هذا الأسبوع، شهدت كل من كينيا ولبنان بوادر أزمة سياسية فجرتها قرارات محاكم من وراء الحدود. ففي لبنان، اقتربت الفصائل اللبنانية من الصدام بعد أن فشل مجلس الوزراء في التوصل إلى توافق حول كيفية التعامل مع قرب صدور قرار اتهام من المحكمة الدولية حول لبنان يحمل قيادات من حزب الله مسؤولية مقتل الحريري. وفي كينيا، سمي مدعي المحكمة الجنائية موريس مورينو أوكامبو ستة متهمين في أحداث العنف التي اجتاحت البلاد عقب الانتخابات الأخيرة، من بينهم نائب رئيس الوزراء ومدير الشرطة السابق وشخصيات مقربة من كل رئيس الوزراء ومنافسه رئيس الجمهورية.
(2)
ردة الفعل في كل من البلدين كانت مشابهة رغم تفاوت أوضاعهما، حيث رفض معظم أهل الشأن دعاوى المحكمة. ففي لبنان تعهد حزب الله بالدفاع عن منسوبيه ووصف قرارات المحكمة المرتقبة بأنها مؤامرة جديدة ضد المقاومة. وفي كينيا عقد البرلمان جلسة خاصة لمناقشة القضية طرح فيها مقترح بانسحاب كينيا من المحكمة الجنائية. والمعروف أن كينيا كانت من مؤيدي الجنائية، وكان رئيس وزرائها رايلا أودينغا هو الأكثر حماساً لها. وقد تم تحويل قمة الإيغاد التي دعت لها كينيا الشهر الماضي إلى أديس أبابا حتى لا تثار قضية استضافة الرئيس السوداني في نيروبي وتبعاتها.
(3)
حتى كتابة هذه السطور ما يزال أودنيغا يعتصم بصمت القبور، ولكن أكثر المتهمين الستة قرباً منه اتهم المحكمة بالتجني ودفع ببراءته، بينما خشي كثير من المراقبين أن اعتقال الرجل قد يفجر أحداث العنف من جديد. من جانبه فإن الرئيس مواي كيباكا أصدر تصريحاً شكك فيه في قرارا المحكمة ورفض إقالة أي من المتهمين من منصبه.
(4)
لاحظ عدد من المعلقين الأفارقة أن المحكمة الجنائية الدولية لم تستهدف حتى الآن أي شخص من خارج افريقيا، حيث وجهت الاتهام منذ قيامها إلى سبعة عشر شخصاً، ستة من السودان، خمسة من يوغندا، خمسة من الكونغو الديمقراطية، وواحد من افريقيا الوسطى. وحتى هذه المجموعات كانت جلها من المعارضين أو المطلوبين لحكوماتهم (الاستثناء هو الرئيس عمر البشير واحمد هارون). أي أن المحكمة لم تستهدف حتى الآن إلا هامش الهامش والمغضوب عليهم من كل جهة أصلاً. تغير هذا قليلاً في الحالة الكينية التي أضافت ستة متهمين جدد، جلهم من كبار المسؤولين.
(5)
ليست إشكالية المحاكم الدولية الكبرى انتقائيتها، وهو مع ذلك عيب كبير،فالعدالة لا تقوم إذا كانت الحدود تقام على الضعفاء وتستثني أهل الجاه. ولكن مشكلتها الأكبر في أن تطبيق حكم القانون لا يمكن أن ينفصل عن بقية مكونات حفظ النظام العام. ولعل الفرضية الأساس في عمل أي نظام قضائي هو استتباب الأمن وإذعان المتهم لسلطة القضاء، طوعاً أو (وهو الغالب) كرهاً تحت قبضة الشرطة. أما إذا كان المتهم على ظهر دبابة والقاضي أغزل إلا من عباءة القضاء، فإن من يصدر الحكم لن يكون القاضي.
(6)
لهذا السبب فإن القضاء ظل حتى عهدنا هذا لا يقوم إلا في إطار دولة بسطت سلطانها على أراضيها غير منازعة، وقدرت على ضمان وصول المتهمين إلى المحاكم مخفورين، وليس على رأس ميليشيات مسلحة. ولنفس هذا الغرض فإن أي محكمة ذات طابع دولي لا قيام لها إلا إذا كانت تحت تصرفها قوة عسكرية ذات سلطان دولي قادرة على ردع من يتمرد على سلطانها. إما إذا لم يكن لها مثل هذا الدعم فإنها تصبح تمثيلية أكثر منها محكمة حقيقية، أو على أحسن تقدير منظمة حقوق إنسان تصدر أحكامها المعممة وتوزع الإدانات يميناً وشمالاً على أمل أن تشكل رادعاً أخلاقياً.
(7)
هناك سوابق لمحاكم نشأت بدون قوة أو دولة تدعمها، ولكنها نجحت في وقت وجيز في تجنيد ميبيشيات وإقامة دولة (أو دويلة) تأتمر بأمرها، وهي سوابق الطالبان في أفغانستان والمحاكم الشرعية في الصومال. ومن يتابع تصرفات مدعي عام المحكمة الجنائية مورينو أوكامبو يجب ألا يندهش إذا سمع عن قريب أن الرجل جند ميليشيا خاصة به. فالرجل يشبه في تحمسه لمعتقداته وقلة اكتراثه بعواقب أفعاله عتاة متطرفي الطالبان وحركة الشباب الإسلامي في الصومال .
(8)
أما محكمة لبنان فإنها أقرب إلى إخواننا في الجماعة الإٍسلامية في مصر، لأنها أعلنت في بدء أمرها الجهاد على سوريا وأجهزة مخابراتها، وأوسعت مسؤوليها ما طاب لها من قذائف الأدلة وصورايخ الاتهامات. لكنها ما لبث أن بدا لها، فدخلت في "مراجعات"، وتابت إلى الله تعالى من اتهام سوريا، قبل أن تنطلق بنفس الحماس تتهم وتقصف وتجاهد حزب الله حق الجهاد، دون أن يطرف لها جفن أو يداخلها شك في أن حضر قناعاتها قد يكون خطأ مثل سابقها.
(9)
مهما يكن فإن نصب محاكم لمقاضاة "الطائفة الممتنعة" (بحسب مصطلح ابن تيمية والجهاديين الجدد) هو في جوهره إعلان حرب، لأن هذه الطائفة لن تنزل على حكم القاضي إلا بعد إعلان الجهاد عليها وهزيمتها ثم إخضاعها لسلطان القانون راغمة. ولا شك من يقفون وراء محكمة لنبان الدولية يدركون هذا، ويرون أن المحكمة وقراراتها هي الطلقة الأولى في هذه الحرب، أو بالأصح اللغم الأول الذي يتمنون أن يوقع بحزب الله بأحد طريقين: إما أن يدخل في مساومات مع المحكمة فتتكون هذه بداية الطريق الطويل إلى الهاوية، وإما ان يتمرد ويشعل حرباً أهلية فتصدق في حقه التهم بأثر رجعي.
(10)
المبدأ الأول لعمل المحاكم يشبه المبدأ الحاكم في عمل المستشفيات بحسب فلورنس نايتنجيل (ألا تسبب المرض). فالمحاكم يجب كذلك أن لا تتسبب في ظلامات ومقاتل جديدة. فإذا تفجرت في كينيا بسبب قرارات اوكامبو أحداث عنف جديدة راح ضحيتها أضعاف من تسعى المحكمة لإنصافهم، أو إذا أدي ذلك إلى انهيار الدولة وصوملتها، فإن هذا دواء قد يفضل المريض الداء عليه.
(awahab40@hotmail.com)