مخاطر غير نظاميه … بقلم: د. حسن بشير محمد نور – الخرطوم
20 May, 2010
من أهم وظائف النظام التمويلي تنويع وتوزيع المخاطر ونقلها بين اكبر عدد من المدخرين والمستثمرين. يعني ذلك تجميع المخاطر بشكل يمكن من توفير أصول تمويلية متنوعة من حيث النوع ، الآجال ، مستوي الجدارة الائتمانية و توزعها بين مختلف الأنشطة و القطاعات الاقتصادية بشكل يوسع الخيارات و المواعين الخاصة بالادخار و الاستثمار للمتعاملين من أفراد و مؤسسات و شخصيات الاعتبارية. هذه الوظيفة التمويلية في غاية الأهمية لضمان انسياب التمويل و توفير المناخ الملائم للوساطة المالية في نقل الأصول المالية و الأرصدة التمويلية القابلة للإقراض بين المقرضين و المقترضين ، بين المدخرين و المستثمرين في مختلف القطاعات و الأنشطة الاقتصادية. بالنسبة للمختصين و العاملين في هذا المجال فإننا ننبه الي ان تناولنا لا يتعلق بالمخاطر الخاصة بالمنشأة علي المستوي الجزئي و إنما عن المخاطر الخاصة بالنظام التمويلي و بالتناول الكلي للمخاطر في اطار الوظائف الكلية للتمويل.
من جانب اخر فان تناولنا هنا يقتصر فقط علي نماذج للمخاطر غير النظامية التي لا يستطيع الاقتصاد التخلص منها او تجنبها مثل الكوارث البيئية كالزلازل و الأعاصير و موجات التسونامي. كما ان هناك مخاطر غير نظامية ناتجة عن طبيعة النظام الاقتصادي نفسه كما حدث في الركود العظيم او في حالة الازمة المالية العالمية الحالية ، او مع بعض الحوادث التي تؤدي الي كوارث اقتصادية مثل انهيارات المناجم او انفجار ابار النفط الحالية و التسرب الذي حدث في خليج المكسيك.
بالنسبة لنا في السودان فان معاناتنا من المخاطر غير النظامية التي لا تؤثر فقط علي النظام التمويلي و انما تمتد أثارها الي مختلف أنواع الأنشطة الاقتصادية الكبيرة و الصغيرة ، المنظمة و غير المنظمة. معاناتنا من تلك المخاطر كبيرة لدرجة من الصعب حصرها. يواجه السودان بالمخاطر الطبيعية مثل السيول و الامطار و فيضانات الانهار ، كما يعاني من الافات التي تفتك بالزراعة. لكن المخاطر غير النظامية الناتجة عن طبيعة النظام السياسي بمؤسساته و هيئاته و طرق عمله، كبيرة جدا و مؤثرة بشكل خطير علي حياة الناس و علي أعمالهم و وسائل كسب عيشهم.
من الظواهر الجديرة بالاهتمام هذه الايام انخفاض سعر الصرف للجنيه السوداني مقابل العملات الاخري. بالتاكيد هناك العديد من الاسباب و العوامل الاقتصادية البحتة المؤثرة علي سعر الصرف لكن الاسباب و العوامل غير النظامية تبدو اكثر تاثيرا في هذه الظاهرة في الوقت الراهن. اذا تجاوزنا العوامل المرتبطة بتداعيات الازمة المالية العالمية و نقص احتياطي العملات الاجنبية ، الطلب العالي بالنسبة للحكومة نفسها و المصارف و قطاع الاعمال و الافراد علي النقد الاجنبي و المشاكل ذات العلاقة بسلة العملات المكونة اساسا من اليورو ، الدرهم الاماراتي و الريال السعودي ، اذا تجاوزنا جميع تلك العوامل و معها الارتفاع الكبير لتكاليف الانتاج و التصاعد المستمر لمستويات الاسعار لدرجة جعلت السودان من اغلي بلدان العالم ، فسنجد لدينا العديد من العوامل المسببة في ارتفاع سعر الصرف للعملات الأجنبية ، خاصة الدولار و الأفضل الإشارة إليها ، بأنها ( عوامل او مخاطر غير نظامية). اهم العوامل غير النظامية هي تلك المرتبطة بنتائج الانتخابات و ما أفرزته من وضع ملتبس حول مستقبل السودان. أنتجت الانتخابات مستوي عالي من الترقب و الخوف من المستقبل. يرتبط ذلك بالخوف من نتائج الاستفتاء و مستقبل النظام السياسي و احتمال انفصال الجنوب بما يترتب علي ذلك من نقص في الموارد في بلد تاتي حوالي 50% من إيراداته العامة من البترول. معروف ان حوالي 90% من ابار البترول اما في الجنوب او علي الحدود معه. سيعرض أي توتر ناتج عن الخلاف حول إجراءات الاستفتاء ، ترسيم الحدود او عدم الرضا عن نتائج الاستفتاء ، سيعرض الموارد البترولية للخطر خاصة في حالة نشوب حرب او مواجهات عسكرية عنيفة حتي و لو كانت لفترة محدودة من الزمن . الكثير من الملفات الخاصة بإجراء الاستفتاء و إكماله و قبول نتائجه بشكل سلمي لم تكتمل و مازالت محاطة بهالة كثيفة من الغموض و اختلاف الرؤي. هناك ايضا مشاكل اخري متعلقة بالديون و ربط سدادها بحصص النفط التي ستذهب الي هذا الطرف او ذاك.
ادي الارتباك الحاصل في الوضع السياسي بشكل عام بما فيه اعتقال د. الترابي و ما حدث حول مشكلة دارفور ، ادي لزيادة عدم اليقين لدي المواطنين خاصة أصحاب الدخول المرتفعة و أولئك الذين تتوفر لديهم حيازات للأصول بمختلف أنواعها خاصة العقارات و الأراضي. كما ان المواطنين الذين لديهم أموال مستثمرة في السوق السوداني أصبحوا يراجعون حساباتهم. في هذا الوضع ارتفعت الأحاديث حول تحويل المدخرات الي نقد أجنبي ، خاصة الدولار او بيع ما ملكت يداك و تحويله الي دولار و التحوط بشراء عقار في بلد ما مثل مصر ، سوريا و ماليزيا او تحويل المدخرات الي الخارج في شكل دولار. سبب ذلك ضغطا مضاعفا علي العملة تمت إضافته الي تحويلات العمالة الأجنبية و اخذ الجنيه يتهاوي الي الأسفل و الدولار يطير الي الاعلي.
من الممكن التخفيف من حدة تأثير العوامل السياسية غير النظامية علي الاقتصاد و انعكاس ذلك علي سعر الصرف كمتغير تابع لتلك العوامل. لكن ذلك لا يتم الا بتغيير العقيدة الاقتصادية و السياسية للدولة. بالنسبة للجانب الاقتصادي لا بد من البحث عن مصادر حقيقية للايرادات العامة للدولة تضاف الي البترول. يجب ان يتم ذلك في قطاعات الانتاج الحقيقي من زراعة و صناعة و خدمات منتجة بجميع ما يلزم ذلك الخيار من شروط. الجانب الثاني اصلاح السياسة التوزيعية للدولة فيما يختص بالتنمية ، مكافحة الفقر ، اصلاح توزيع الدخول و الثروة و معالجة الاختلال الكبير في الحقوق الجارية و المكتسبة من مرتبات و معاشات و عائدات عناصر الإنتاج و سبل كسب العيش ، و بالطبع هذا لا يحدث الا بالاستخدام الأمثل للموارد المتاحة و بعدالة سياسة التوزيع و التنمية المتوازنة. اما الجانب الأخير الحاسم فيما يختص بالسياسة الاقتصادية فهو ذلك المتعلق بسياسات الاستقرار الاقتصادي خاصة التحكم في التضخم و الارتفاع الجنوني للأسعار و بالأخص أسعار السلع الضرورية ، الاهتمام بتوفير فرص للعمالة عبر القطاع العام و تحسين تنافسية القطاع الخاص السوداني حتي يستطيع توفير فرص للعمالة و بأجور مقبولة علي اقل تقدير. كل تلك العوامل ستحسن من معدلات النمو الحقيقي للدخل القومي و ستؤثر ايجابا علي ميزان المدفوعات و تجنب السودان الوقوع في مصائد الديون. اما بالنسبة للعقيدة السياسية فهنا تبدو معضلة حقيقية تحتاج الي حواة لفك شفرتها. الاستحقاقات هنا كثيرة منها المتعلق بالحقوق و الحريات العامة ، مشاكل التحول الديمقراطي التي تتراجع الي الوراء ، توسيع قاعدة المشاركة الشعبية ، الالتزام باتفاقيات السلام ، انجاز متطلبات الاستفتاء و تحقيق السلام في دار فور. بعد كل تلك الجوانب يمكن الانطلاق في بداية جديدة لتحقيق التغيرات المطلوبة علي المستويات التشريعية و المؤسسية و نظام الحكم بعد يناير 2011م. في غياب رؤية واضحة لحل المشاكل العالقة ستتفاقم المخاطر غير النظامية و ستسبب مشاكل غير قابلة للحل و لا يمكن التنبؤ بها.
Dr.Hassan.
hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]