مذكرات في الثقافة والصحافة … بقلم: صديق محيسي

 


 

صديق محيسي
3 September, 2009

 

 

 

s.meheasi@hotmail.com        

 

   كانت مدينة وادمدني مسرح الصبا  وبوح الفقر  في امسيات العمرالغارب  ترقد علي ضفاف النيل منتشية  مثل ظلال وارفة تناغم اشجارها , لم  تكد عيوننا  في ذلك الزمان الذي مضي  تتفتح علي حقائق الحياة حتي بدأنا نستعد لتعلم ان نكون ثوريين في عالم  تتكون في باطنه الثورة.

 في او اخر الخمسينات وانا شاب في اوج الفتوة والتطلع التحقت بالحزب الشيوعي السوداني و من خلالة تعلمت كم هو مهم ان يكون للفرد دور في صنع الحياة الجديدة التي وعدتنا  بها الاشتراكية  , وبها ومعها ايضا  تفتحت عيوني علي الثقافة المغايرة, فقرأت بانبهارعظيم لآول مرة مكسيم جوركي , وتشيكوف, وتولسنوي , وجورجي امادو, وبابلو نيرودا , وناظم حكمت, وريتشارد رايت,   وارنيست همنغواي , وجيمس بولدين , وغارسيا لوركا , هؤلاء الذين كان الفقراء امثالنا يتحركون, ويتنفسون داخل صفحاتهم , في غمرة هذا النهم الجامح , التهمنا في العالم العربي  شعر, وقصص وروايات, الشقيقان ابراهيم عبد الحليم, ومحمد عبد الحليم , وكان لديوان عاصفة النيران لعبد الرحمن الخميسي ورواية الارض  لعبد الرحمن الشرقاوي اثرا      ساحرا علي اخيلتنا  الطرية , كانت مصر اشعاعا من التنوير يتسلل الينا من كل مكان, من هناك    عرفنا صلاح عبد الصبور,واحمد عبد المعطي حجازي, ويوسف ادريس , والفيتوري , وجيلي عبد الرحمن,وتاج السرالحسن, ومحي الدين فارس , ومحي الدين محمد ذلك  المفكرالسوداني الذي لايزا ل  يعيش  بالقاهرة , والذى اول من اطلق صرخة التغييرفي واقع التخلف العربي     ومن العراق  قرأنا محمد مهدي الجواهري(  اتعلم ام انت لا تعلم بأن جراح الضحايا  فم ) , وعبد الوهاب البياتي ( الشمس والحمر الهزيلة والذباب, وحذاء جندي قديم  يتداول الايدي وفلاح يحدق في الفراغ) وبدرشاكر السياب ( عيناك غابتا نخيل ساعة السحر او شرفتان راح ينأي عنهما القمر ) , ونازك الملا ئكة, وجبرا ابراهيم جبرا , وبلند الحيدري , وفي سوريا   , و شوقي بغدادي ,وزكريا تامر, ومحمد الماغوط, , وسليمان العيسي, ومن لبنان طالعنا مجلة الاداب لسهيل ادريس, والثقا فة الوطنية لمحمد دكروب, ومجلة الطريق لمهدى العامل, وتعرفنا علي جورج حاوي  وادونيس, ويوسف الخال ,والاخوين  حسين وكريم مروة, وانسي الحاج , ومطاع صفدي,وسنية صالح.وجورج طرابيشي , ومن فلسطين رافقنا معين بسيسو , وفدوي طوقان, وسميح القاسم , ومحمود درويش.

  كان الشعر والثورة يملكان قلوبنا , ويؤججان اخيلتنا الغضة لدنيا جديدة  تنتشلنا من وهدة الفقرالاليف الي رحاب الاشتراكية والعدالة الموعودة , محمد عبد الحي, وعلي يسن, وعصام البوشي, وعمر محمد الحاج  وسعيد احمد خير يرحمه الله, ثلة من الاصدقاء التقت علي طريق الادب والفن في زمن كانت الجريدة  والراديو هما وسيلتا الاتصال الوحيدتان للمعرفة, سوق  مدني الذي تشقه  شوارع اسفلت ثلاثة, الرئيسي منها يؤدي الي المكتبة الوطنية التي يملكها عيسي عبد الله هي  ملتقانا , وملتقي مفتشي الغيض القادمين من مشروع الجزيرة , والطلاب القادمون  من مدرسة حنتوب الثانوية في عطلة الخميس والجمعة , بصات الاغريقي الحمراء  قادمة من الخرطوم تحمل الصحف والمجلات , وموظفون وعمال خرجوا  لتوهم  من الري , وورشة  114والمحكمة والبوستة , وشركة النور, كان خليطا من الافندية, والطلبة, والعمال, ولاعبو الكرة , وشرطيون علي رؤوسهم  قلنسوات اشبه برؤوس القرانيق, واخرين بجلابيب  بيضا , ومانديل حمراء يحصون انفاس الشيوعيين وكل معارضي حكومة عبود , رائحة القماش الجديد والزيت , والفول تتخلل الشوارع  المبللة بالامطار, ونهيق الحميرالساهمة الي اعلا  يسمع من اطراف  المدينة, واصوات احمد المصطفي , وحسن عطية , وعائشة الفلاتية , والتاج مصطفي , والخير عثمان, وعبد الحميد يوسف تنبعث من مقاهي ود العود, وبوزمات, وود الفكي  , اسطوانات مشروخة اشبه بكحة  قديمة لمصدور تعافي , لكنها تفعم الجو بجلال ساحر , ومسرة غامرة , عتالة  يفرغون من الصباح الي المساء بظهورمحنية شاحنات شائخة تحمل اقمشة الدمورية  والدبلان والكاكي,ونساء كخيال الظل يجلسن تحت رواكيب من القش يبعن الزيت, والودك, والسمنة البلدية لاعراب مشعثون قادمون من القري المجاورة , في ذلك الزمان الغارب تعرفت علي الصديق الشاعر محمد عبد الحي محمود رحمه الله عندما كان طالبا في المدرسة الاميرية الوسطي, حتي التحق بحنتوب الثانوية شرق النيل , كان والده عبد الحي محمود مديرا لمصلحة المساحة  ورئيسا لاتحاد الكرة في منطقة الجزيرة, وتلك وظيفة كان لها التجلة والاحترام في المجتمع , محمد بدراجته اللامعة وهيكلة الرقيق وعينيه اللتان يشع منهما  بريق الشعر والذكاء , كان يزورني بأنتظام   في بيتنا في قشلاق البوليس,  تلك الجدران المقشرة  المجدوعة  في اطراف المدينة, بيوتنا التي تستند علي بعضها كخراف مذعورة لم تكن كبيوتهم في الحي البريطاني الذي اصبح بعد السودنة الحي السوداني ,اريج الفل والياسمين, والزونيا, واشجارالسيسبان تفوح من هذه المستوطنة التي يسكنها كبار الموظفين, وبيوتنا التي تفوح  منها رائحة روث الاغنام  والجمال والدجاج , تلك الكائنات التي اوشكت ان تشاركنا السكن والمأكل , كان محمد عبد الحي  دائم الحضورالي, يجيئني  بمجلة الاداب, ودواوين السياب, والبياتي وخليل حاوي, وشوقي بغدادي , واخر اصدارات بيروت, كنا نقضي الساعات في قراءة الشعر, وتبادل الاراء في الصور, والاوزان, والبناء الفني للقصيدة

 

,شعراء  العراق الذين رادتهم نازك الملائكة بدواويينها المتتابعةعاشقة  الليل1947وشظايا ورماد1949وغرارة الموجة1957وكان الي جانبها بدر شاكر السياب الذي كان اصدر اكثر من ديوا ن في العراق الي ان نشرت له مجلة شعر ديوانة التاسيسي انشودة لمطر 1960  وينطبق الامر نفسه علي عبد الوهاب البياتي الذي انتقل من ملائكة وشياطين  واباريق مهشمة 1954  الي اشعار في المنفي57 19  وكلمات لاتموت1960ويكتمل المشهد العراقي بدواوين بلند الحيدري التي كان صدر منها اغاني المدينة الميتة, وكان ذلك في السياق الذي ظهرت فيه قصائد ادونيس في سوريا ثم بيروت  ا بتداء من قالت لي الارض  مرورا بقصائد اولي1957واوراق في الريح1958الي جانبه الشاعر السوري شوقي بغدادي الذي اصدر  اكثر من قلب, و حينا يبصق دما     1955  وكان نزار قباني يواصل انجازاته  الشعرية التي بدأت مع  طفولة نهد 1948وسامبا1949.

 في ذلك الزمان اصدرت مجلة شعر اول ديوان لقصيدة النثر لانسي الحاج  بعنوان( لن)1960وكان في العام نفسه الذي نشرفيه شوقي ابوشقرا  ديوانه الثاني خطوات الملك بعدعام واحد علي ديوانه اكياس الفقراء,وماء لحصان العائلة وهو العام  كما يقول الدكتور جابر عصفورالذي تأكد فيه حضور قصيدة النثربصدور الديوان الاول لكل من جبرا ابراهيم جبرا  تموز والمدينة , ومحمد الماغوط حزن علي ضوء القمر, لم  تكن حركة الشعر المصرية منفصلةعن انجازات شعراء السودان خصوصا الذين عاشوا في مصر  واصبحوا رأ س حربة الابداع الشعري محمد الفيتوري اصدر  ديوانه اغاني افريقيا1955 محي الدين فارس الطين والاظافر 1957وتوالت دواوين الشعر  صلاح عبد الصبور الناس في بلادي احمد عبد المعطي حجازي مدينة بلاقلب

    في حديقة كعكاتي المطلة علي النيل ينضم  الينا الشعراء الزين عباس عمارة, وعبد المجيد عبد الرحمن,وفضل الله محمد , وشيبون الذي اختارلنفسه  مأساة فاجعة معلقا عنقه بعمامة في بيت صديق له  بالحصحيصا ,  ويحي جاد كريم جحا يرحمه الله , ذلك الذي  تفيض منه السخرية والطرف  الحكيمة, فصارفي المدينة كالحكواتي يتداول رواياته الناس في كل مكان , حديقة كعكاتي السوري القادم من حلب تحتضن كل ظهيرة  وجوها اذا غاب احدها  افتقد ه الجميع , كمال عربي جراح العظام الشهير الذي رحل اخيرا, عباس ابا سعيد الدبلوماسي المتقاعد , معتصم محمد حسين   الذي هاجر الي امريكا وانقطعت اخباره سنينا  , ابراهيم عبدالله  فنى الخراطة بمشروع الجزيرة  والدفاع القوى  فى فريقنا فريق  النصر  حاج رضوان  رئيس النادى,  وخالد  ابكر ذلك الساعاتى  الحاذق  المحدق طوال اليوم  فى عقارب الزمن ,فاروق كشة الذى اختار رفاعة كنهاية لرحلته كما اختار مصطفى سعيد  قريته على النيل, عبد السميع عمريرحمه الله,محمدعبد الله مرسال القاضى والمحامى  الذى يشبه زوربا   , محمد ابو الكيلك يرحمه الله واسماء اخري غابت عن الذاكرة, كان زمانا غامرا في البراءة  يفيض بالصفاء  والحب, محمد عبد الحي شاعريته الاولي حبت في مدني, ووقفت علي ساقيها  في الخرطوم , ورسخت حروفها بعد نيله الدكتوراه , من حديقة كعكاتي تفتقت رابطة ادباء الجزيرة, عقدنا اجتماعها الاول  في منزل عبد الحميد البوشي عام 1958, ذلك العالم الموسوعة الذي كان يعّلم الناس اللغة الانجليزية, عبد الحميد البوشي هامس الصوت له ابتسامة طفل ,قريب الشبه بملوك الفراعنة القدامي, في صومعته داخل  جامع البوشي يتحدث الفارسية والالمانية ويدرس اللغة الهيروغلوفية القديمة , ويرصد النجوم  بمناظيرة  الغريبة, في صومعته  تلك اخترناه اول رئيس لرابطة ادباء الجزيرة, محمد عبد الرحمن شيبون امينا عاما, ومحمد عبد الحي مسئولا ثقافيا, اقمنا اول ليلة  شعرية في مكتبة البلدية القي فيها شاعر الجزيرة الفذ الهادي احمد يوسف قصائد  يتقطر منها الوجد,واضحك  فيها جحا الناس  بقصيدتة  الساخرة عن لوممبا يقول فيها (  يا لوممبا يا لوممبا, مهما تشومبي يرقص سمبا, انت اللمبة يالوممبا )

 

 في  بداية ستينات القرن الماضي, كان  محمد عبد الحي معجبا ايما اعجاب ببدر شاكر السياب, ولوركا, وناظم حكمت, وظهر ذلك في قصائده الاولي مثل واقعة هكس التي  كانت قريبة الشبه من القصيدة التي كتبها ناظم حكمت بأسم الشيخ بدر الدين, ذلك التركي الذي كان يدافع عن الفلاحين ضد  الاقطاعي خوركان في ديار بكر, ففي واقعة هكس حاول عبد الحي ان يعطي صورة لجنود المهدي مضرجين بدماء النصر وهم  يقاتلون الجنود المصريين والشركس  والالبان الذين جاؤا من ورا لافق, ومن عالم لوركا اخذ عبد الحي روح المأساة التي قادت الشاعر المغدورالي  مصرعة بالرصاص ببنادق جنود فرانكو, كان مقتل فرديريكو غارسيا لوركا يحملنا الي تخوم غرناطة مقاتلين في صفوف الجمهوريين,ويعطينا القوة والامل في هزيمة اول ديكتاتورية في السودان,وعبد الحي البرجوازي الذي كان يسكن الحي البريطاني الراقي لم تكن قصائده تعجبنا كثيرا,  فكنا نري ان قصائد  النضال يجب ان يكتبها شعراء كادحون فقراء امثالنا, ويدور داخل هذا المفهوم نقاش مستمر دون وجوده, فاروق كشة الذي يكتب القصة القصيرة يسخرمن عبد الحي  بصوت  هامس ان هذا البرجوازي لا صدق في شعره لانه لايؤمن بالمباديء الثورية , وعثمان جعفر النصيري بنظراته الحادة, وثوريتة المتوترة الصادقة يري ان التجربة الشعرية الاصيلة لابد وان تنبع من وسط العمال والمزارعين الذين يصنعون لنا الحياة, كان عبد الحي سريع الغضب اذا انتقد احد شعره, فهو يري علي عكس مانري انه ليس ضروريا ان يكون الشاعر شيوعيا كناظم حكمت, وبابلو نيرودا,  ولوركا حتي تكون تجربته صادقة, يقول انني احب هؤلاء الشعراء, احب صورهم الفنية وموضوعاتهم التي يتناولونها , ولكنى لست مستعدا ان اضع علي معصمي قيودا ايدويولجية, لست مستعدا ان اكون عضوا في الحزب الشيوعي, كل له تجربته ورؤيته  للحياة, فأنا حر في ان اعبرعن نفسي كما اري التعبير.ورؤية عبد الحي التي رفضناها عدنا وقبلنا بها بعد اربعة   عقود من الزمان ,كان هو علي  صواب, وكنا نحن علي خطأ   فهو قرأ المستقبل, ونحن اكتفينا بقراءة الحاضر.

 

في مطلع ستينات القرن الماضي حمل التاريخ صورا من المعارك الايديولوجية , الماركسية    بقيادة الاتحاد السوفيتي قلعة الاشتراكية ,والراسمالية تمثلها الولايات المتحدة الامريكية قلعة الامبريالية, هذه هي كانت التسميات السائدة في ذلك الزمان, ثقافة كان من المستحيل الفرارا منها    فضاء ملتهب احاط  بكل شيء, السياسة, والاقتصاد, والاداب, والفنون,وفي غمرة خيبة الامل   التي اصابت شعوب العالم  الثالث من رفض الاستعمار المتعدد الجنسيات الوفاء بوعده في  منحها استقلالها  بعد ان قاتلت بجانبه  النازية في الحرب العالمية الثانية , نشأت حركات التحريرالوطني في غيرصورها  التقليدية , وكان محتما ان يتبع هذا الزخم من الشوق الي الحرية ارادة قوية في نيل الحقوق الوطنية, تجلي ذلك في وجوه شتي كان ابرزها الاداب, والفنون, اي الشعر, الرواية, المسرح, القصة القصيرة, حركة النقد , ثمة لغة جديدة في الادب بدأت تحل محل رومانسية اولت اهنماماتها للطبيعة  كان علي رأسها مصطفي لطفي المنفلوطي وجبران خليل جبران, وميخا ئيل نعيمة وغيرهم كثيرا من التهويميين , لم  يكن السودان بعيدا عن هذه المؤثرات, فقد هبت علينا رياح التغييرمن جهة الشمال, من مصر اول دولة عربية ظهرت فيها  الحركة الشيوعية علي  يدي اليهودي هنري كوريل, ا ختارت الشيوعية السنتها في الاداب والفنون مثلما ما اختارت ذلك في السياسة , والاقتصاد , والعلوم الاجتماعية,من القاهرة عرفنا الادب الاشتراكي, والنقد الاشتراكي من محمد مندور, وسلامة موسي ومحمود امين العالم,   وعبد العظيم انيس, اللذان صدرا كتابا مشتركا باسم( في الثقافة المصرية ), واحدث ذلك الكتاب تحولا كبيرا في مفاهيم الفنون الابداعية, واثار نقاشا واسعا حول دور الادب في التحرر من الاستعمار , وما اذا كان الفن للفن, اوالفن من اجل الحياة , رياح الواقعية الاشتراكية حملت الينا في السودان اولي  بذورالتحول من رومانسية غارقة في الطبيعة, وتهويمات الاحلام, وادب المناسبات, والاخوانيات الشعرية, الي مفاهيم جديدة في جعل الابداع احد اهم وسائل النضال ضد الاستغلال والاستبداد ,  سمعنا دوي اشعارجيلي عبد الرحمن وتاج السر الحسن في ديوانهما المشترك قصائد من السودان, والفيتوري في اغاني افريقيا, ومحي الدين فارس في الطين والاظافر, كنا نشعر بالفخر والاعتزاز ونحن نسمع عن شعراء سودانيون   يسهمون في نهضة الشعر  العربي الحديث, جيلي عبد الرحمن كان رئيسا للقسم الثقافي بصحيفة المساء, محي الدين فارس كان محررا في الجمهورية خاض معارك في  مجلة  الاداب مع نزار قباني واطلق عليه شاعر الفراش , الفيتوري ظل يدافع عن افريقيته وسط  اتهامات له بالعنصرية  ظل ينفيها امام مثقفين عرب كانوا لايعرفون شيئا عن افريقيا سوي سوادها .

 

 

في عام 1960  وصل محمد مفتاح الفيتوري لاول مرة الي السودان منهيا غربة دامت ما يقارب الثلاثين عا ما , الفيتوري الذي بزغ نجمه الشعري في مصروالعالم العربي, واعتمدت  ثورة يوليو المصرية  قصيدته ( اخي في الشرق في كل وطن)  في المنهج الدراسي الجديد للثورة,عاد  الي السودان بدعوة من حكومة عبود, التقاه اللواء طلعت فريد وزير الاستعلامات والعمل في احدي زياراته الي القاهر ةوطلب منه المجيء الي بلاده ليسهم في الحركة الادبية , وصل الفيتوري الي مطار الخرطوم في عام1959 وكان في استقباله الراحلان احمد اسماعيل شيلاب, وطه عبد الرحمن, وهما شاعران وموظفان في الوزارة , تسلم الفيتوري رئاسة تحريرمجلة هنا امدرمان التي تغير اسمها فيما  بعد الي مجلة الاذاعة والتلفزيون, كان ذلك حدثا كبيرا في الاوساط الادبية اذ يعود شاعر مثل الفيتوري الي ارض الوطن, عندما ذهبنا اليه في مكتبه بوزارة الاعلام, سعيد احمد ,ومحمود محمد مدني ويوسف عيدابي, وعثمان الحوري  وعبد الرحيم الشبلى  , وصافحناه احسسنا  كأنما نصافح  مخلوق من كوكب اخر, كان السرور يملؤنا  ونحن امام هذا الرجل القصير , جاحظ العينين, سريع الخطى والكلام , قلق الحركة  ,  تخرج الكلمات من فمه كنقاط المطر, قدمنا له انفسنا كشعراء شباب معجبون به وبشعره وانتهي اللقاء بدعوة منه  لنا في  مطعم فندق الشرق المشهور يومذاك , كان الفيتوري ولايزال شديد الاعتداد بشاعريته , يجيد الالقاء المرافق بالحركة  كانه يقف علي خشبة مسرح, يحرك يديه ملوحا بها في الهواء ,متوعدا الطغاة منتهكا بلاطهم, وعروشهم ينازل استبدادهم  بكلمات صاخبة وحارقة, اختارالفيتوري حي بري عندما وصلت زوجته الفلسطينية المصرية من غزة استاجر بيتا هناك, واشتري سيارة ايطالية ماركة فيات , كان يطوف بنا شوارع الخرطوم ليلا ننتقل من حديقة الي حديقة, ومن فندق الي فندق, يغدق علينا بالمال في نهاية  كل سهرة عاصمية , لم يدخل الفيتوري في معارك ادبية مع الحرس الشعري الذي كان يقوده الشاعرصخم الجثة منير صالح عبد  القادر الذي اطلق عليه محمودابوالعزائم اسم ايفان الرهيب,  كما فعل ذلك زميله محي الدين فارس , تعامل الفيتوري مع الساحة الادبية بأستعلاء شديد , ولم يكن يسهرمع الشلل الادبية التي ميزت عصرالستينات, كانت معظم سهرات الفيبتوري تتم مع محمد احمد محجوب وتوفيق صالح جبريل,و قيلي احمد عمر, ومصطفي راشد كيشو ملك الفنادق الذي كان الفيتوري يسميه بتاجر النوم , ومع ذلك فانه  كان يفضل دائما ان يكون معنا نحن الشباب حيث الاحترام  والاطراء المستمر, امتازالفيتورى بدرجة جيد في تغيير مواقفه السياسية, والارجح  انه لم يكن سياسيا اصلا, ولايتعاطي السياسة بقدر ما يمكن ان تقدمه له من مصالح, وهذا ماحدا بالشاعر الكبير ركوب موجة الثورة  لينقلب كلاعب سيرك حازق علي نظام عبود  عندما اطاحت به ثورة اكتوبر الشعبية, سارع  وكتب لمحمد وردي  نشيد   اصبح الصبح  , عينت  الثورة الفيتوري رئسيا لتحرير, مجلة هنا ام امدرمان الفنية  وبقدارته  الصحفية  المميزة   زاوج الفيتوري  باسلوب  وخيال صحفيين  بين   الفن  والادب , فنقل المجلة  من مجلة  تهتم باخبار الاذاعة  والفنون   الي مجلة   شاملة تهتم  بالشعر   والمسرح  والقصة القصيرة , فاقبل عليها  المبدعون  من كل  جنس, ولما كانت لاتوجد  في البلاد اصلا مجلة  ثقافية  فان الفيتوري  خلق من هنا امدرمان  ذلك المنبر الثقافي  الذي يلتقي فيه  صوت الغناء  مع الشعر مع  المسرح مع  النقد,     استمر الفيتوري   يراس تحرير المجلة   حتي اسقطت  الثورة   الشعبية  العارمة  في الحادي  والعشرين من اكتوبر عام 1964نظام الرئيس عبود وعودة  الديمقراطية مجددا  الي البلاد فعين  الفيتوري رئيسا  لتحرير صحيفة  النيل  لسان حزب الامة  بالرغم  من انه  لم يكن   عضوا  في هذا الحزب لكنه  سرعان ما اختلف مع  حزب الامة  ليلتحق   بجريدة  الناس كمدير لتحريرها  ومن هنا ك  كتب رباعياته  المشهورة  بيدبا  والملك  التي يهاجم فيها  من طرف خفي الصادق  المهدي,  وجريدة  الناس التي التحق  بها  الفيتوري  كان معروف  عن صاحبها محمد  مكي محمد بموالاته  للسياسة الامريكية في المنطقة  و كانت تنشر مقالات  من مكتب الاتصال  الامريكي  في الخرطوم  ضد  الثورة الفيتنامية باعتبارها  ثورة شيوعية يؤيدها الاتحاد  السوفييتي  وليس ثورة وطنية  ضد محتل اجنبي , وضد  الثورة  في الجنوب اليمني  علي  الاستعمار البريطاني,  غادر الفيتوري السودان   في بداية السبعينات بعد      ان استولي النميري  علي  الحكم ,  وذهب الي ليبيا   بعد  قيام  ثورة القذافي  حيث حصل هناك  علي الجواز  الليبي  وصار ملحقا  اعلاميا  لليبيا  في عدد  من سفاراتها بالخارج في المغرب وروما  والقاهرة  وبيروت ,   وللذين لايعرفون الفيتوري   فانه

وعندما كتب الفيتوري  مرثيته  الشهيرة  في عبد الخالق محجوب  سكرتير  الحزب الشيوعي  السوداني الذي اعدمه  النميري  طلب الاخير من السلطات  اللبنانية  طرده  من بيروت  ,  فخير الفيتوري  بين  تسليمه  الي السودان , او الذهاب الي دمشق   فغادر  الي دمشق   ومنها جال في بلاد  العالم . ملأ الفيتوري  سماء بيروت  شهرة  وسحب الاضواء عن كثيريين  من شعراءها, كان الفيتوري متمردا علي  الوجود  كله, يعيش في لاهوت  الوجد  الصوفي  ويغني للثورة  من داخل هذا  الوجد

 

         

حين يأخذك الصمت منا

فتبدو بعيدا

كأنك راية قافلة

غرقت فى الرمال

تعشب الكلمات القديمة فينا

وتشهق نار القرابين

فوق رؤوس الجبال

وتدور بنا أنت

يا وجهنا المختفي

خلف ألف سحابة

فى زوايا الكهوف

التى زخرفته الكآبة

ويجر السؤال .. السؤال

وتبدو الإجابة نفس الاجابة

****

ونناديك

تغرس أصواتنا

شجرا صندليا حواليك

نركض خلف الجنائز

عارين فى غرف الموت

نأتيك بالأوجه المطمئنة

والأوجه الخائفة

بتمائم أجدادنا

بتعاويذهم حين يرتطم الدم بالدم

بالصلوات المجوسية الخاطفة

بطقوس المرارات

بالمطر المتساقط فى زمن القحط

بالغاب والنهر والعاصفة

****

قادما من بعيد على صهوة الفرس

الفارس الحلم ذو الحربة الذهبية

يافارس الحزن مرغ حوافر خيلك

فوق مقابرنا الهمجية

حرك ثراها

انتزعها من الموت

يافارس الحزن

كل سحابة موت

تنام على الأرض

تخلقها ثورة فى حشاها

انتزعها من الموت فارس

الحزن

أخضر

قوس من النار والعشب

أخضر

صوتك بيرق وجهك قبرك

لا تحفروا لى قبرا

سأرقد فى كل شبر من الأرض

أرقد كالماء فى جسد النيل

أرقد كالشمس فوق

حقول بلادى

مثلى أنا ليس يسكن قبرا

****

لقد وقفوا ..

ووقفت

لماذا يظن الطغاة الصغار

وتشحب ألوانهم

أن موت المناضل موت القضية ؟

أعلم سر احتكام الطغاة الى البندقية

لا خائفا .. ان صوتى مشنقة

للطغاة جميعا ..

ولا نادم .. ان روحى مثقلة بالغضب

كل طاغية صنم

دمية من خشب

وتبسمت .. كل الطغاة

ربما حسب الصنم الدمية المستبدة

وهو يعلق أوسمة الموت فوق صدور

الرجال ..

انه بطلا ما يزال

وخطوت على القيد

لا تحفروا لى قبرا

سأصعد مشنقتى

وأغسل بالدم رأسى

وأقطع كفى

وأطبعها نجمة فوق واجهة العصر

فوق حوائط تاريخه المائلة

وأبذر قمحى للطير والسابلة

****

قتلونى وأنكرنى قاتلى

وهو يلتف بردان فى كفنى

وأنا من؟ سوى رجل

واقف خارج الزمن

كلما زيفوا بطلا ..

قلت: قلبى على وطنى

 

 

غائب والعيون عليك اشتياق

هائم خمرك الذكريات العتاق

كلما عانقتك مرايا الوجوه

تبعثرت فوق زجاج العناق

يا سحابا من اللحم والعضم

ينخر في حلم عاصف لا يطاق

غير هذا الزمان زمانك

فاللحظة انطلقت والشفاه

 

 

آراء