مرثية حزينة لـ “إستقلالنا المجيد!!

 


 

 


أعتدت على الكتابة دوما بمناسبة "رفع راية إستقلالنا"، مهنئا الشعب السوداني بذكرى ذلك الحدث "المجيد"، معددا مآثر آباءنا الذين صنعوه، و أورثونا بلدا مترامى الأطراف. ليس هذا فحسب بل كنت أعدد كذلك مآثر من تصدوا لجحافل "الغزاة الباغية" في شيكان وطردوهم من البلاد، و من تصدوا لهم مرة أخرى ك "الأسود الضارية" فى كررى، مقدمين أرواحهم رخيصة دفاعا عن تراب الوطن. و أذكر انه فى مرة من المرات باغتنى أحد القراء الكرام بالسؤال التالي: عن أي إستقلال تتحدث، و فيم التهنئة للشعب السوداني؟ لقد إستئت كثيرا من ذلك السؤال فى حينه، و أعتبرت سائله فى عداد أؤلائك الذين فقدوا إحساس التفاعل مع مناسباتنا الوطنية!!
مرت سنوات عديدة منذ ذلك الحين، و مرت على البلاد أحداث جسام جعلتني أفكر ، ليس مرة واحدة، بل مرات عديدة، فى ذلك السؤال/الحكمة. علمتنى تلك الأحداث المغزى الحقيقي من ورائه، و الأسباب الحقيقة التى دفعت من سأله الى توجيهه. و إليكم بعضا منها:
- ورث أبناء و أحفاد تلك "الأسود الضارية" وطنا مستقلا بحق و حقيقة، استقلالا لم تشوبه أي شائبة، من نوع الأحلاف العسكرية، أو المحاور السياسية، بمعني آخر إستقلال ك"صحن الصيني، لا شق لا طق"، كما و صفه الزعيم الأزهرى فى يوم من الأيام. لكن الآن يتجول الجنود الأجانب على أرضه الطاهرة المترامية الأطراف، وعلى مرأى ومسمع، بل و مرمى حجر من بيوت حكامنا و قادة معارضتنا الأجلاء. بل لقد أصبح وجودهم ظاهرا باينا للعيان، أكثر من وجود قواتنا النظامية " الوطنية". ليس هذا فحسب بل أصبح وجود القوات الأجنبية فى بعض مناطق السودان ضرورة لا غنى عنها لحماية المواطن من الإرهاب و الإذلال و التنكيل الذي يتعرض له على أيدي قواته "الوطنية".... فتأمل!!
- ورث أبناء و أحفاد "تلك الأسود" الضارية و طنا موحدا من حلفا الى نمولى، و لكن حولوه، بعد مرور خمسة و خمسين عاما من عمر ذلك الإستقلال، و بملئ إرادتهم، و جراء سياساتهم الحمقاء، و قصر نظرهم السياسي، و أنانيتهم المطلقة، و تقديم مصالحهم الحزبية و مكاسبهم الشخصية على المصلحة الوطنية، الى دولتين منفصلتين. بل لقد تمادوا فى غيهم ذلك و أعملوا فيه سيوفهم ليقطعوه الى أشلاء، و يفتتوه الى "كنتونات" لا يسع الواحد منها سوى أفراد قبيلة واحدة. و إذا قيض لهم الإستمرار على نفس هذا النهج، فسوف يحولوه الى مجرد "حيشان" لا يكاد الواحد منها يسع سوى "فخذ" قبيلة، أو حتي أسرة ممتدة واحدة.... فتأمل!!
- ورث أبناء و أحفاد تلك "الأسود الضارية" وطنا حرا يتمتع بنظام حكم مثالي يتميز بفصل سلطاته الثلاث، التشريعية و التنفيذية و القضائية، و إستقلالها عن بعضها البعض بمستوى من النزاهة صانت كرامة المواطن و جعلته يتمتع بكافة حقوقه المدنية و الشرعية. مواطن لا يخاف من أجهزة أمنه و شرطته، لأنها قد أسست و دربت لحماية حريته، و ليس لإضطهاده و إهانته و إذلاله، كما يحدث الآن فى ظل هذا النظام الفاسد المستبد.
- ورث أبناء و أحفاد تلك "الأسود الضارية" دولة مدنية ديمقراطية تسع الجميع بمختلف أديانهم و ثقافتهم و أجناسهم و أعراقهم، الى أن جاء هذا النظام الفاسد المستبد فحولها الى دولة دينية، فأضحت الدولة السودانية دولة الحزب الواحد بدلا من دولة الوطن الواحد.
- ورث أبناء و أحفاد تلك "الأسود الضارية" وطنا يتميز بأكفأ نظام خدمة مدنية على المستويين العربى و الأفريقى، إن لم يكن على مستوى العالم الثالث بأكمله،. نظاما لا يعرف الواسطة أو المحسوبية أو الرشوة، و يمنح كل ذى حق حقه، وفقا لقوانين و لوائح و إجراءات الخدمة المنية الراسخة، لا يستطيع كائنا من كان تجاوزها، بداء بوكيل الوزارة، مرورا بجميع المدراء و رؤساء الأقسام، و إنتهاءا بأصغر موظف. و قد إنتهى بنا هذا النظام الفاسد المستبد الى تأسيس نظام جديد أصبح فيه عنصر الولاء قبل الكفاءة للتوظيف و شغل المناصب حتى أضحى أصغر موظف فى الخدمة المدنية "يقاول" و "يفاصل" أي مراجع عن حقوقه ، و بقوة عين يحسد عليها،قبل إنجازه لأية معاملة، و مهما صغر شأنها... فتأمل!!
- ورث أبناء و أحفاد تلك "الأسود الضارية" نظاما تعليميا كان، بكل تأكيد، يعد الأفضل على المستويين العربي و الإفريقي، و كان يعتبر خريجوه كالمعادن النفيسة، يفضلون أينما ذهبوا على بقية خريجي جامعات العالم الثالث، سواء كان ذلك فى التوظيف، أو تنسم المواقع القيادية داخل المؤسسات الدولية و الإقيلمية، أو حتي على إغتنام فرص الدراسات العليا المحدودة وقتها فى الجامعات الغربية، و بالأخص البريطانية منها، وذلك لكفاءتهم، و مهنيتهم، و أمانتهم، إلى أن حلت بنا كارثة "ثورة" التعليم العالى، فى ظل هذا النظام المستبد الفاسد، التى هندسها خريجو ذلك النظام المتفرد، الذين، و يا للمفارقة، تلقوا تعليمهم مجانا تحت ظلاله الوارفة، فقضت على مؤسساتنا التعليمية الراسخة، بل و حتى على مجانية التعليم، الذى أصبح لا يقدر عليه سوى أبناء الحكام و الطفيليين من تجار الدين و الأعيان الجدد، حتى أصبح خريجو "ثورتهم" التعليمية يواجهون البوار داخل سوق العمل محليا، و يسأل الخريج منهم فى دول الخليج إن كان قد أكمل تعليمه الجامعي قبل أو بعد العام 1990.... فتأمل!!
- ورث أبناء و أحفاد تلك "الأسود الضارية" نظاما صحيا حكوميا لا يعادله فى الكفاءة و حسن الأداء سوى المستشفيات البريطانية، و يقدم خدماته بالمجان لكل أفراد الشعب السودانى. بل إن بعض أطباء السودان كانوا يرفضون ممارسة العمل الخاص، بإعتباره منافيا لأخلاق المهنة و ربما يقود فى نهاية المطاف الى تدهور الخدمات الصحية الحكومية برمتها. يا لبعد نظرهم و صدق تنبؤاتهم التى أثبتها هذا النظام الفاسد المستبد الذى حول القطاع الصحي بأكمله الى تجارة رابحة، و أصبح العلاج لمن يتمكن من دفع تكلفته المادية، و ليس حقا مجانيا مكتسبا، كما كان فى السابق. فإما أن تدفع ليتم علاجك أو تموت على طاولة الطوارئ إن كنت من رقيقي الحال، كما هو حال معظم بنات و أبناء شعبنا. لكن المفارقة الحقيقية تكمن فى أن "هؤلاء الناس" يطيرون الى العلاج بالخارج، متى ما ألم تعرضوا للمرض، حتى و إن كان عارضا، كما حدث لوزير دفاعنا الهمام، الذى نقلوه الى مستشفى الملك فيصل التخصص بالسعودية لتلقى العلاج لمجرد أن شعر ب"إجهاد" بسيط، أو هكذا أخبرونا، جراء جهوده الجبارة التى بذلها للذود عن ترابنا الوطني، مما أهله لصد قوات "التمرد" على أعقابها، بعد أن وصلت الى مشارف كبارى النيل الأبيض بالعاصمة الوطنية أم درمان...فتأمل!!
- ورث أبناء و أحفاد تلك "الأسود الضارية" نظاما قضائيا كان يعتبر الأفضل على مستوى المنطقة من حيث الكفاءة و النزاهة، و إستقامة القائمين على أمره، الى أن جاء هذا النظام الفاسد المستبد فعاث فسادا فيه حتى أضحت الرشوة صنوا لهذا النظام بدلا من العدل، و أصبح القانون يطبق على الفقراء و المساكين من بنات و أبناء شعبنا، و يعفى أبناء "الذوات"، مهما إرتكبوا من جرائم، و ما جلد فتاة "الفيديو تيوب"، و حفظ قضية إنهيار العمارة ، إلا خير دليل على صحة ما نقول.
- ورث أبناء و أحفاد تلك "الأسود الضارية" قوات مسلحة تلتزم باليمين الذى أدته، و العهد الذى قطعته عل نفسها بحماية الدستور و ترابنا الوطني، و كانت تعتبر من أكفأ جيوش المنطقة، حتى أنه كان يعهد لضباطها تدريب جيوش البلدان الشقيقة و الصديقة، و ظلت على ذلك العهد الى أن جاء هذا النظام الفاسد المستبد فحولها الى قوات حزبية ذات عقيدة آيديولوجية، هي عقيدة الفساد و الإفساد، التي تحولت فى ظلها الى حماية النظام، بدلا من حماية الوطن، حتى أضحت تراب السودان مستباحة من قبل كل من هب و دب من بلدان لم يسمع بها البسطاء من بنات و أبناء شعبنا من قبل.
- ورث أبناء و أحفاد تلك "الأسود الضارية" قوات شرطة كانت تعتبر مثالا يحتذي به على مستوى المنطقة من حيث الكفاءة و النزاهة  وحسن الأداء. قوات لم تعرف الرشوة أو المحسوبية أو الفساد الى أن جاء هذا النظام الفاسد المستبد فتحولت فى ظله الى النقيض تماما. لم يكتف هذا النظام بذلك بل كون نظاما شرطيا بديلا أسماه شرطة أمن المجتمع، الذى أثبتت التجربة العملية أن الدور الذى رسم له يتناقض بصورة صارخة مع الإسم الذى أطلق عليه، حيث صار نظاما لترويع المجتمع، إلا من مرتزقة هذا النظام، و عينوا فيه مجموعة من شذاذ الآفاق و الفاقد التربوي فعاثوا فسادا بلا حدود، و أصبحت كلمتهم هى النافذة حت على الشرطة الرسمية، بإعتبارهم ملشيات خاصة تتبع لتنظيمهم السياسي، ولا علاقة لها البتة بالمجتمع، أو أمنه، إلا أن كان ذلك يعني فى عرفهم إرهاب أفراده و إذلالهم و التنكيل بهم.
- هل أكتفى بذلك أم أزيدكم "من الشعر بيتين"؟ يستحسن الزيادة لأختم بها هذا الإرث النبيل، الذى ورثه أبناء و أحفاد تلك "الأسود الضارية"، لأحدثكم عن المجتمع السوداني نفسه الذى إتصف بالتسامح الديني، و التماسك الإجتماعي، و التكافل و إتصف أفراده بالإيثار و التضحية و نكران الذات و الصدق و الأمانة، حتى أضحت كلمة "زول"، التى تطلق على السودانيين فى جميع البلدان العربية، مرادفة تماما لتلك الصفات النبيلة، الى أن جاء هذا النظام الفاسد المستبد فأصيب المجتمع السوداني فى مقتل. لقد أدت السياسات الخاطئة التى نفذها هذا النظام، و فى جميع مناحى الحياة، الى تفكك نسيج المجتمع و الأسرة، و برزت الى السطح ظواهر إجتماعية لم تكن معروفة من قبل، بل لم يسمع بها السودانيون مطلقا كأطفال الشوارع، و اللقطاء، و مجهولي النسب. وكذلك تمت "إعادة صياغة" الفرد السوداني، و لم يعد السودانيون كسابق عهدهم، و قد نجح هذا النظام الفاسد المستبد فى ذلك تماما لدرجة جعلت أديبنا المبدع المرحوم الطيب صالح يطلق سؤاله/المقال، "من أين جاء هؤلاء الناس؟".
أليس محقا ذلك القارئ فى سؤاله، عن أي إستقلال تتحدث، و فيم التهنئة للشعب السوداني؟ و نحن على أعتاب الذكرى الخامسة و الخمسين لإستقلال البلاد يحزنني أن أرثي لكم السودان الذى عرفناه بحدوده السياسية التى أورثنا إياها أؤلائك الرجال الصناديد، تلك "الأسود الضارية". ذلك الإستقلال الذى لم نستطع حمايته كالرجال، وفرطنا فيه جميعا لطغمة "الإنقاذ" الفاسدة المستبدة، فأصبحنا نبكي على التفريط فيه، كالنساء بالدمع الثخين... فتأمل!!
30/12/2010م

Ibrahim Kursany [sheeba82@hotmail.com]

 

آراء