مسار العقيد جعفر محمد نميري … بقلم: طلحة جبريل
طلحة جبريل
12 April, 2009
12 April, 2009
لم يحدث ان التقيت جعفر محمد نميري ، بيد انني اقتربت منه صدفة في بهو أحد الفنادق في العاصمة التونسية وكان ذلك في بداية الثمانينات. لم يكن اصلا ممكناً ان التقي به ، إذ بقيت معارضاً لنظامه حتى سقوطه بانتفاضة ابريل، ثم انني لم اكن أعرف أحداً من الدائرة القريبة منه بعد ان اصبحت الصحافة هي مهنتي. الشخص الوحيد الذي تعرفت عليه عن كثب وكان من المقربين لنميري هو الراحل العميد معاش الرشيد نورالدين، وكان سفيراً في المغرب وقتل في حادثة مروري قرب مدينة فاس. لكن علاقتي مع المرحوم الرشيد ظلت فاترة. مرد ذلك الى نشاطي الطلابي ورئاستي لاتحاد الطلاب السودانيين في المغرب، وهو الاتحاد الذي قاد مواجهة مع السفارة في صيف عام 1976 وأحتل مبانيها مما أدى الى اعتقالنا، وتلك قصة اخرى. والاشكال ان ذلك الاعتصام تزامن مع الهجوم الفاشل الذي نفذته " الجبهة الوطنية" لقلب نظام الحكم في الخرطوم، والذي اطلق عليه الاعلام السوداني الرسمي ايامئذٍ " الغزو الليبي" أو " انقلاب المرتزقة". كان الرشيد نورالدين، عليه الرحمة ، وهو رجل له خبرة مخابراتية وسبق له ان ترأس جهاز الامن القومي ،يقول إن اعتصامنا بالسفارة جزء من مخطط لصرف الانظار عن الاحداث التي ستجري في الخرطوم، وظل يعتقد جازماً بصحة تحليله ،بناء على معلومات تقول إن عناصر كانت تعمل مع الجبهة الوطنية ترددت على المغرب والتقت بعض الطلاب وحرضتهم على الدخول في مصادمات مع السفارة. أقول للتاريخ ان تلك المعلومات كانت في جزء منها صحيحة، لكن لم يكن اولئك الطلاب في قيادة الاتحاد، ولم يكن احتلالنا للسفارة له اية علاقة بتحركات " الجبهة الوطنية" من ليبيا بل كان من أجل مطالب طلابية عادية، بيد ان حماسة الشباب دفعت الامور باتجاه السياسة، وأتذكر انه حين سألني الرشيد نور الدين امام مجموعة من الطلاب بعد خروجنا من السجن ، حول ما إذا كنت معارضاً للنظام كان جوابي حاداً بل لعلني رديت على سؤاله بعنف.أعود لنميري ، الذي لم يعد أحد يتذكره الآن الا بالكاد مرة في السنة عندما تاتي ذكرى انتفاضة ابريل. الواضح انه دخل الى ظلال النسيان. لكن اريد ان اتوقف عند بعض المحطات في مسيرة هذا الرجل الذي حكم بلادنا مدة 16 سنة. وسأضع جانباً الموقف من ذلك النظام، تحرياً للموضوعية.بداية هل كان هناك ما يبرر انقلاباً عسكرياً في مايو 1969؟بعض الناس يقولون إن الجماهير التي خرجت في اكتوبر 1964 لم تحقق شعاراتها وبالتالي كان حتمياً ان تتجه الامور نحو حسم عبر" الضباط الاحرار" الذين انحازوا الى جانب الشعب وساهموا في سقوط الحكم العسكري بقيادة ابراهيم عبود. المؤكد ان بعض فصائل التيارات اليسارية التي كانت شعاراتها هي السائدة آنذاك دفعت بهذا الاتجاه، خاصة بعد ان اختارت الاحزاب الحاكمة مواجهة الشيوعيين عبر وضعهم خارج الشرعية. كانت المحطة الاولى أن جاءت "مايو" يسارية على الرغم من انها أدت الى انقسام الشيوعيين أنفسهم. بيد ان عدم استيعاب العلاقات المعقدة داخل المؤسسة العسكرية، والتي تجعل ضباطها سواء كانوا من اليمين أو اليسار، يعتقدون أنهم الاقدر للتصدي لقيادة اي تغيير، وان " المدنيين" لا يتقنون سوى النقاشات التي تدور في حلقات مفرغة، هي التي جعلت " الضباط الاحرار" يختارون جعفر نميري لقيادتهم ليكتشفوا لاحقاً أنه لم يرض بدور الواجهة بل هو يعتقد انه قادر على قيادة البلاد وفق تصوراته على الرغم من محدودية وعيه السياسي. وفي المقابل تجمعت قيادات الاحزاب التي فقدت السلطة في تحالف اراد ان يواجه النظام الجديد بالقوة العسكرية في الجزيرة ابا وودنوباوي، وكان اول صدام دموي وضع الأمور على محك صعب، وأسوأ نتيجة لتلك المواجهات أن جعلت نميري يظن انه اصبح مؤهلاً ان يترشح لمنصب رئيس الجمهورية وهو ما اثار حفيظة الشيوعيين، وقرر تنظيمهم العسكري الاستيلاء على السلطة ، وكانت المحطة الثانية أنقلاب يوليو 1971، والذي تخللته مجزرة " دار الضيافة" وجعلت نميري يرتكب مجزرة أخرى ضد رفاقه السابقين على الرغم من ان بعضهم لم يشاركوا في الانقلاب بل لم يكونوا حتى داخل البلاد.وهكذا سالت دماء غزيرة خلال سنتين من عمر النظام سوى في الجزيرة ابا وو دنوباوي ، أو في الشجرة، واندفع نميري في اتجاهين تسببا بعد ذلك في كوارث بلا حصر. الاتجاه الاول تكريس نفسه" قائداً ملهماً" للبلاد، والاتجاه الثاني اعتقاده ان سياسة البطش والمناورات التكتيكية الصغيرة هي بالضبط " فن الحكم" الذي يحتاجه السودان، لذلك راح في كل يوم يستبدل الأشخاص والسياسات، وكرس نفسه عبر استفتاء ظل يتكرر بطريقة سمجة " "الرئيس القائد " للبلاد، واكتشف نميري ان " الدكاترة" الذين كان يتحاشى الحوارات معهم ظناً منه أنهم يملكون علماً لا قبل له به، ليسوا سوى فزاعات يمكنه ان يغريهم بالمناصب والمواقع ، ويستطيع أن يذلهم ويرميهم كما ترمى قشرة الليمون متى ما شاء . ولسوء حظ البلاد أن ذلك كان صحيحاً. ثم كانت المحطة الثالثة هي المحاولة الانقلابية الفاشلة " للجبهة الوطنية" عندما وصل "جنود" الى الخرطوم وهم لايعرفون ما هو الفرق بين" دار الهاتف" و" القيادة العامة" . وكانت المحطة الرابعة محاولة ضباط وضباط صف القيام بانقلاب عسكري بقيادة المقدم حسن حسين وبرروا انقلابهم بضمان "استقلالية جامعة الخرطوم" وحل هيئة المراهنات الرياضية " توتو كورة" عندما راحت الحكومة تبيع وهم الثراء للمساكين الذين اعتقدوا ان تخميناً صحيحاً لنتيجة 11 مباراة في كرة القدم يمكن أن يجعلك بين عشية وضحاها تركب سيارة مرسيدس آخر طراز بدلاً من الحافلات الشائخة. وكانت المحطة الخامسة ما سمي " المصالحة الوطنية" إي ادخال الحزبين الكبيرين تحت مظلة النظام، وأصبحت عضوية المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي هي المكافأة على هذه " المصالحة".وجاءت المحطة السادسة حينما أدت تهويمات نميري الى ظنه انه اهتدى الى سواء السبيل، وتحول الى كاتب اسلامي وأصدر" النهج الاسلامي لماذا" ثم " النهج الاسلامي كيف" ، وفتح الباب واسعاً أمام " الجبهة القومية الاسلامية" التي طبقت ما أسمته بسياسة " التمكين" والتغلغل في جميع الاتجاهات، وأختار نميري ان يكون " اماماً للناس" واقترب من الطرق الصوفية، وصدق ما كان يقال له بان الملائكة تحيط به لذلك راح يترك كراسي فارغة لهذه الملائكة تجلس الى جانبه حتى في المناسبات الرسمية، وكان من نتائج هذا الهوس الديني أن انتقل بعض المعتوهين الى القصر الجمهوري واصبحوا مستشارين لهم رأي يسمع واجتهادات يعمل بها وقول فصل في كل شيء. ثم كانت " قوانين سبتمبر" التي قطعت أطراف البوساء والتعساء، وسمعنا عن تنفيذ حدود لم تطبق حتى زمن الخلفاء الراشدين. وكانت المحطة السابعة ان اعتقد نميري ان اصبح من حقه منح صكوك الايمان والردة، فقرر اعدام الاستاذ محمود محمد طه ونصب له مشنقة ورمي بجسده في أرض خلاء. مع هذه المحطات جميعاً تردت أحوال الناس تردياً مريعاً، وانتشرت المجاعات والأمراض ، الى حد ان الاطفال في غرب السودان ودارفور بصفة خاصة كانوا يركضون تحت طائرات الاغاثة التي ترمي أكياس الطحين ويسدون رمقهم باضافة ماء الى دقيق، ونميري ينفي أن في البلد مجاعة بل يقول إنها مجرد " فجوة غذائية" ، وأصبحت البلاد طاردة وابواب الهجرة مفتوحة على مصاريعها ، وتحول السودانيون الى رعاة للأبل في الخليج وغسل الصحون في مقاهي ومطاعم اوربا.ثم كان أن انفجر الشعب في انتفاضة ابريل، وكان أن سقط النظام ، واصبحت السلطة ملقية على قارعة الطريق الى ان التقطها وزير دفاع النظام نفسه، وتكرر ما حدث في اكتوبر عندما سقطت السلطة لكن رئيسها الفريق ابراهيم عبود على الرغم من ذلك بقى رئيساً للدولة. وهذه واحدة من مفارقات السياسة السودانية على كثرة ما تحفل به من مفارقات. في اكتوبر رئيس الدولة هو نفسه رئيس النظام الذي أسقطته الجماهير، وفي ابريل رئيس السلطة هو وزير دفاع النظام الذي أسقطته الجماهير.وكان مطلوباً ان يحاكم نميري ليس انتقاماً لكن من أجل الحقيقة لكن الرجل بقى في القاهرة، وعاد الى سيرته الاولى وتبخرت كل حكايات " النهج الاسلامي" ثم راحت الايام تمر اياماً بعد ايام ، ,اصبح الرجل مرشحاً للرئاسة يقود حزبه " تحاف قوى الشعب العامل" بل ويجادل في نتائج الانتخابات ويقول إنه فاز لكن جرى التلاعب بالنتائج.هل حدث كل هذا؟ نعم حدث. ثم مرة أخرى ماذا أقول .هكذا كان مسار العقيد جعفر محمد نميري جاء في عطلة الى الخرطوم وكان وقتها قائد مدرسة "جبيت للمشاة" واعتقد الذين قادوا انقلاب خور عمر عام 1969 أنه يصلح تماماً لدور الواجهة وطلبوا منه أن يقطع عطلته ويصبح "رئيساً لمجلس قيادة الثورة" واستمرت أيامه حتى أضحى مرشحاً يعتقد انه فاز في انتخابات يفترض ان من شارك فيها هو الشعب نفسه الذي انتفض ضده في ابريل 1985 .والخلاصة ان بلادنا سلمت وخلال 16 سنة الى رجل لا يستحق وفي أحسن الظروف لا يعرف.
عن"الاحداث"
مقالات سابقة
جميع المقالات السابقة منشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى ، ويمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط
http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1