معاناة الحجيج بين المشقة والرهق: (خواطر حاج عام 1439ه) الجزء الثاني (2/3)

 


 

 

 

رغم المعاناة، فأنا لم أندم على انضمامي لهذه الحملة، ولو خُيّرت مرة أخرى لما عدلت عن صحبتي لأولئك النفر الكرماء، ليس من باب "أكون في غبراء الناس خير لي"، لكن من باب السياحة التي لم يكن مقصدها يوماً الراحة، إنما الاستزادة التي لا تتحقق إلا بالتعرف على أصحاب الملاحة المكتنزين قيم الأصالة المشرئبة قلوبهم للتحلي بأسباب الواجهة. وقد كانت تلك مناسبة عظيمة أتاحت لي فرصة التعرف علي أناس لم يأتوا فقط من كل فج عميق، بل فروا الي الله بقلوب منيبة وأشواق عديدة. تسمع مناجاتهم فتحمد الله أن جعلك في معيتهم، تري معاناتهم طيلة أيام المناسك فتوقن ببؤس قادتهم الذين اتخذوا القدر مشجباً لكل الإخفاقات وربطوا المعاناة، بل جعلوها شرطاً من شروط العمل الصالح.

 

التقيت فيمن التقيت الحاج إبراهيم سكن، الحاج (اللزم) الذي لازم والده الحاج (العاز موصلي أبّالي) ملازمة واعية (ليت الله يجعلها في ميزان حسناته)، وقد آتو من خور برنقا (غرب دارفور)، الحاج إبراهيم الجعلي من بربر، الأخ حسين عثمان من امدرمان قدم من أمريكا لاصطحاب والدته (ليت كل خطوة خطاها تحسب له في الميزان)، عيشة حسين وبعلها، الشيخ عبدالرحمن عياد وإخوته، وأخيراً وليس أخراً هاشم النبيل. لمحت رجلاً لم أتبين ملامحه، لكنني قلت في نفسي "أيكون هاشماً هذا الأشعث الأغبر!؟" خلدت بعدها للنوم من شدة الإرهاق، ولم استيقظ إلا علي صوت مسؤول الحملة يطلب منا النزول، لأن الباص قد تعطل.


كيف لا يتعطل وقد حُمِّل فوق طاقته ونصف ذلك؟ نزل الجميع، فوقفت وجهاً لوجه مع هاشم كرار صاحب القلم المغوار. تسالمنا بحرارة وتقالدنا برفق، ابتدر حديثه لي قائلاً: إنشاء الله ببركة جيتك دي يا فلان، يرفع البلاء عن أهلنا بالسودان. لم أشأ أن أحبطه لكنني أسررت في نفسي قولاً مفاده: حسنك الظن بربك مطلوب، أمّا حسنك الظن بصحبك فبين مندوب ومهيوب. لم يمض وقت حتى افترقنا وأنا أقول في نفسي صدق أهلنا يوم أن قالوا "السعيد ما بموت شقي." ربنا يقبل حجته وينيخ راحلته في وادي السعادة، ويلهمنا وإياه حسن الإنابة.


لا يتوقع المرء معاملة طيبة وكريمة وذلك علي كافة المستويات، وإذا لقيها فإنه يشكر صاحبها كأنها تفضل منه وليس واجب. وهذا في حد ذاته إشكال تربوي ونفسي، ليس هذا هو المجال للاستفاضة فيه. مثلا، ينتفض النساء من سوء المعاملة فيهرعون إلي ازواجهم واخوانهم في الجانب الاخر من المخيم فيجدونهم في منتهي السلبية والانهزامية، بل التسليم والتمثل بأقوال مثل "الله غالب" (وأهلنا قديما قالوا: المُغلِّب بغلبك بي الله)، و "ربنا يعظم أجرك" و"السايرة واصلة" وهلم جر. يقيني أن هؤلاء النسوة لم يعترضن علي مشيئة الله ولم يكن يبحثن عن رفاهية إنما فقط كان مرادهن "شوية" انضباط إداري والتزام مؤسسي لا يُنَغِص عليهنّ روحانيتهن، ولا يفسد عليهنّ حجتهن.


إذا كان الأجر علي قدر المشقة، فيجب التمييز بين المشقة التي تصيب الجسد من جراء القيام بعمل لم يعهده، والرهق الذي يصيب الروح من جراء التعرض لأمر لا يتناسب مع الفطرة، مثل الكذب الذي آلفه مسؤول الحملة، بل اعتمده كوسيلة لتدارك اي حلل إداري. كان الهروب هو أحدي الفَنِيات التي اعتمدها "يونس شلبي" في تلافي المشكلات، فكان يختفي إذا أستفحل امر، كأن يأتي حاج ولا يجد غرفته أو تأتي جماعة في ساعة متأخرة من الليل ولا يستطيع توفير طعام لها، او يأتي حاج ولا يجد مقعده في الباص، إلى آخره من المشكلات التي يترك مهمة حلها لزملائه الاخرين، سهير رمزي أو عادل أمام. وإذا ما حلت أو حلت المشكلة نفسها فإنه سرعان ما يظهر في المسرح مبتسماً، بعد أن يكون الحاج قد بات علي الكنبة، أو حلت الحاجة مشكلتها بالذهاب لتناول الطعام في مطعم مجاور، أو استأجرت تاكسي بسعر خرافي للذهاب الي الحرم وقد وعِدت بالسكنة بالقرب من الحرم، إلا انها فوجئت بأنها تسكن في الحجون التي تبلغ تكلفة الوصول إليها من منى 200 إلى 300 ريال بالتاكسي. وذلك، بعد أن يكون الحاج قد قطع 7 كيلومترات للوصول إلى الموقف. استحالت المنافع في هذا الموسم إلي انتهاك صارم لحرمة الحجيج وإلي ابتزاز من قبل مواطنو الدولة المضيفة الذين لا يحسنون المطالبة بحقهم في الثروة فيلجؤون لاستغلال إخوتهم في العقيدة. فهل يلامون علي ذلك؟


لك أن تتخيل أن هناك أناس مسنين أو مُعْوذين صرفوا اخر ما لديهم من مدخرات وتَديَّنوا أُخريات لسداد 140 الف قيمة الحج السياحي، بعد أن آيسوا من قرعة الحج الحكومي والذي أصبح عبارة عن حيلة أشبه بذر الرماد في العين. وهنا يكمن تقصير الدولة المضيفة التي كان بمقدورها أن توفر باص (shuttle)، خاصة أنها تعلم أن نسبة معتبرة من الحجاج لا تستطيع المكوث في معسكر منى لأن الأوضاع فيه مزرية، فهم يفضلون الرجوع كل يوم صبحاً إلى مكة والرجوع للمبيت في منى للإيفاء بمتطلبات الشرع.


مزدلفة بالنسبة لي ولأخرين كثيرين كانت أكبر امتحان للتصديق فلم يعد هناك مكان للمبيت إلا لفئة قليلة ومصطفاة، فهل كانت هذه هي الغاية، أم أن الغاية كانت الاستواء– استواء الكل على صعيد عرشه السماء وهمته الإخاء؟ إن تعطل الباص والذي حُمِّل قدر حمولته ونصف ذلك، كاد يٌفَوت على النساء ركن أساسي وتشريع مطلبه جمع المغرب والعشاء في مزدلفة وعدم التحرك منها قبل منتصف الليل. في غياب أي خدمة إسعافيه علي الطريق (triple A)، وضِع الكل بين خيارين فقط لا ثالث لهما: إمّا أن تترجل أو تفوتك الشعيرة فيضيع عليك الحج. ومن كان معه سيدة مُسِنة أو إنسان معاق، فخياره أوحد، وهو أن يكون تحت رحمة رجل المرور الذي يبدو وكأن موسم الحج قد هبط عليه من السماء تلك الليلة. فلا يحسن غير تحريك المحابس وإغلاق الشوارع دون دراية بما قد يحدثه ذلك في الطرف الأخر من المدينة. علماً بأن أمريكا قد استخدمت أبراج المراقبة معتمدة على ال (Traffic simulation programs) لتوجيه رجل المرور قبل عقود. فهل سعت الدولة المضيفة للاستعانة بهذه التكنولوجيا التي في متناول اليد؟


الامر لا يتعلق فقط باستيراد هذه التكنولوجيا فهي في متناول اليد، إنما استيعاب الكادر القادر علي تفعيلها. وهذا الكادر هو كادر غربي بامتياز، فإذا كانت مكة قد حرمت علي المشركين لدواعي عقائدية، فقد انتفت هذه الدواعي بل أوجب السماح لهم لمشاهدة هذا الجمع كي يستشعروا حيوية هذا الموكب الإيماني العظيم، وبالمرة يساعدوا في تنظيم النسك فقد فشلنا في إدارتها ووجب علينا الاعتراف بذلك. حتي هذه العبارة الأخيرة ربما لا تكون كافية لاستفزازنا واستثارة حِسنا فقد تبلدت مشاعرنا. الشواهد كثيرة، أعني شواهد الفشل والتبلد، بيد إنه لا مناص لي عن إيراد حيثية ترفيهيه تقام في مدينة ستورات عارت (Stuttgart) وتستمر لفتره تتراوح بين 10 أيام إلي أسبوعين، علها توقظ بقية من حميتنا.


يجتمع في هذه الفعالية قرابة 4 مليون سائح يغرفون من نهر للبيرة يتجاوز طوله 2 كيلومتر فلا يتشاكسون ولا يتذمرون، بل يسمرون ويضحكون. ذاك هو مهرجان البيرة الذي ظل يقام كل عام منذ عام 1818م، فلم يحدث أن اشتبك فيه "السُكاري" حد الاختناق، أو انهالت عليهم رافعة، او نشب حريق لمجرد وقوع سيجارة في فرش أحدهم. هل وصلت الفكرة؟ أعتقد ذلك. فالإخفاق البنيوي (بمعنى غياب البنيات ذات المواصفات السليمة)، يؤدي إلي إخفاق مؤسسي (انعدام الكادر المؤهل المتحقق بالعزيمة والأمانة والأهلية التي يتحقق بها التراكم المعرفي)، الذي يتسبب بدوره في نوع الانحرافات السلوكية التي وصفتها آنفاً. إن الانحراف ليس من فطرة الإنسان لكنه قد يلجأ إليه أول الأمر كحيلة للبقاء يعتمدها لاحقاً كاستراتيجية للثراء. مثلاً، اضطر أحد الحجاج دفع 800 ريال للمطوف (أقصد المطفف) كي يستخرج جوازه لأن لديه التزامات تستوجب سفره قبل الحملة. قناعتي أن هذا المطوف لم ينوي إيذاء الحاج لكنه رصد ثغرة في النظام الإداري (loophole) استغلها لصالحه. لو أن الدولة المضيفة ضبطت مواردها جيداً، رشدت بنود صرفها، ورتبت اولوياتها بطريقة تعطي هذا أو ذاك الموظف معاشاً مناسباً وحافزاً جيداً يغنيه عن التذلل، ما لجأ لمثل هذه الحيل التي لا ترضي ضميره ولا تُعَبِّي جيبه. هل دريتم من المتسبب إذن في هذا الهرج والمرج الذي تعيشه مجتمعاتنا؟ إنهم الولاة الذين صاروا بمثابة جُباة، بل غزاة. وقد وجب التخلص منهم بكافة السبل.


ظل دأب المسؤولين في الدولة المضيفة منذ أن غشيتها رياح التغيير لا تستحثهم إلا الكارثة ولا يستفزهم غير الإعلام وإذا لا سمح الله تكلم أحد بدافع أخلاقي أو ديني تستحثه مصلحة الوطن المنكوب، الأمة الأسير أو حتى الأسرة المجيدة فإنه عندهم من المقبوحين. ولذا فالدولة بكامل طواقمها تعكف على خدمة شلة ال VIP والتي لا تتجاوز نسبتها ال 5 في المائة، فكل سفير مثلاً يحق له أن يصطحب 100 شخصاً من "الوجهاء"(وإذا شئت الشركاء) من بلده الذي أنتدب للعمل فيها (وهؤلاء في أغلب الأحيان عبارة عن بلهاء ليس فيهم قراء أو علماء، يفضل أغلبهم أن يذهب إلي بيروت أو أديس ابابا لقضاء ليلة حمراء على التبتل لرب الأرض والسماء. هذا من واقع تجربتي ومعرفتي على الأقل بحال المتخمين في بلادي). تصرف الدولة المضيفة جل اهتمامها لهؤلاء وأمثالهم، بل ويتسابق إعلاؤها لإظهار حجم الكرم والعناية الذي تتلقاه الوفود الرسمية وتتسابق القنوات في إبراز حجم الاحتفاء بهم.


وهذا أمر محمود ونشامه عربية مطلوبة، بيد أن من جاء يسعي وهو يخشي فإن الإدارات جميعاً عنه تلهّى. عوض عن السهر على خدمته لأنه جاء بحر ماله يطلب ولا يستجدي خدمة يستحقها. ليس هناك إشكال في التفاضل (التمايز بين درجات الحسن والجمال)، إنما الإشكال في التفضيل (الذي هو تمييز بين درجات القبح والسوء). بمعنى أنه لا غضاضة لدي أو لغيري من المسلمين اذا وفرت الدولة المضيفة للحجاج الإمارتين – فهم حبايبنا وناس حلوين وقريبين لقلوبنا – طعام من هداك المطعم الفرنسي الذي استورد منه شاه إيران الشوربة ساخنة في الطائرات احتفالاً بمئوية عرشه، أو إذا وفرت لغيرهم صالات للدلك، أو حملت أخرين على الآسِرة لرجم إبليس (غضب الله عليه!!)، لكن المرء يحس بحسرة لحال المسلمين الأخرين إذا لم توفر لهم الدولة المضيفة الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم، واكتفت أو تركت الأمر برمته للمحسنين كي يستوصوا بإخوانهم خيراً. وما أكثرهم في تلك البقعة الطاهرة. بل ما أجملهم وما أنبلهم.


إن الجهد الذي بذلته الدولة المضيفة في توسعة الحرمين يغنيها عن التزلف لأي جهة، لكن واجب السدانة يلزمها الاسترشاد بهدي الخبراء والتزود بآرائهم، ووضع ما تراه مناسبا قيد التنفيذ. كم من المسلمين يجب أن يموتوا قبل أن تتحسن الخدمات؟ فموت الألوف المؤلفة قبل سنوات أدى إلى تحسن رمي الجمرات والذي لا يعد مثالياً بعد، فهناك بعض الإشكالات التي تتعلق بعدم وجود مصاعد تقل المعوقين وأصحاب العجلات؛ وقد رأيت شاباً خليجياً يعتزم دفع عجلة والده في السلم الكهربائي إلا أن العسكري لحق به في أخر لحظة وجنبه الوقوع في كارثة ماحقة كان يمكن أن تودي بحياة والده. لا توجد مراقبة لصيقة بالكاميرات، فقد وقعت عجوز تركية أمامي فلم يأت الإسعاف لحملها طيلة ال 20 دقيقة التي مكثتها ولم ادر حينها ما حدث لها. بيد أنني علمت بعدها من بعض السيدات التكرونيات اللائي جلسن امامي في مركبة عامة مساء ذاك اليوم انها توفيت.


اتوقع أن تحدث كارثة قريباً (بمعني في الأعوام القادمة) في معسكر منى الذي يفتقر تماماً إلى إجراءات السلامة فلا يوجد فيه مجرد معدات لإطفاء الحريق علماً بأن سلوك توصيلات الكهرباء معظمها بائس ومعد بطريقة ليس فيها نوعاً من الاحترافية، ولا تحتمل بنيته ثلث ما أدرج فيه هذا العام. أما عرفة فحدث ولا حرج. بالنسبة للمطوفين في كلا المرفقين، فالأشخاص، أي الحجاج، هم عبار ة عن أعداد يجب تجاوز إرادتها إلى محفظتها. إن الواجب الديني يشترط علينا التعرض بالنقد لسلوك هؤلاء المطوِّفين (وإذا شئت المطففين)، بل من واجبنا التعريض بهذا السلوك الاصطفائي والازدرائي المقيت والإقرار بأنه لا سبيل لإصلاح هذا الخلل السلوكي والمؤسسي إلا بتوحيد مراتب الحج. فهذا التمايز قد حرم كثيرين مستحقين وأعطى أخرين متنزهين فرص فوق ما قد يحصل عليه حي بأكمله في أي من بلاد العالم الإسلامي. فيمكنك أن تقدم للحج الحكومي وتتوقع أن لا توافيك القرعة لأعوام، أمَّا الحج السياحي فلا يُجَّلِي، في أغلب الأحيان، إلا إذا كان اسمك محظوراً أو مغضوب عليك من قبل الدولة المضيفة التي أصبحت سريعة الغضب، مخالفة بذلك بسالة الفيصل وإخوته، حكمتهم ونبلهم، تمهلهم وقدرتهم في الاحتفاظ على شعرة معاوية في أحلك الظروف. يا إلاهي، ما الذي حدث لهذه الاسرة المجيدة ولذاك الإرث التليد؟


كان الناظر سعيد مادبو رحمه الله رحمة واسعة كثيراً ما يحكي لنا عن الملك فيصل رحمه الله فيقول ذاك رجل اجتباه الله وحباه بقلب منيب بفراسة بدوية عظيمة. كان آل مادبو على قيادة غرب السودان وزعامة البقارة عندما أرادت الدولة السودانية استضافة الملك فيصل رحمه الله واختارت دارفور، نيالا بالتحديد مكاناً وسطاً لذاك الاستقبال بتاريخ (5 مارس 1966). استحث الناظر محمود موسي مادبو إخوته من الملوك والشراتي والنظار وقال لهم لا يفوتنكم هذا الفضل فهبوا لا يلوون على شيء ولا يبخلون بمال. متي كان المال يملى أعينهم؟ استقبلت دارفور الفيصل قائداً للعروبة بمعناها الثقافي والاجتماعي وليس بمعناها العرقي وأميرا للإسلام بمعناه العقدي وليس الطائفي أو المذهبي (فالشيعة من أهل القبلة بإجماع أهل السنة، فمن ذا يخرجهم منها؟ وما الصراع الذي نراه اليوم إلا صراع بين المستبدين في كلا المعسكرين)؛ استعرضت مجدها الذي كان سبباً في استهداف الإمبريالية الإسلامية لها، انتظم خيل قبائلها أربعات من كثرتها، متسقات بألوانها .. البيدي والأشقر والأخضر واللحو والأبيض والأزرق ... ومنسجمات مع بسالة أصحابها (مئة ألف على ظهور الخيل متراصين من شدة الحَزم لا من شدة الحُزم). كان الملك فيصل يطالع ذاك المشهد المهيب الذي قل ما يماثله مشهد، إلا اذا استثنينا أصحاب محمد وهو يندفعون نحن وادي حنين، فقال للناظر سعيد – الذي كان شاباً وقتها انتدب لمرافقة الملك – وقد انفعل حتي ارتجفت أطرافه من الفروسية والهاشمية وقد سمعه من وليه: "هدول الرجال هدول الأبطال، هدول لو عندي لحررت بهم بيت المقدس." الرجال ما زالوا موجودين عندنا وعندكم، بيد أنهم في انتظار من يقودهم بصدق؟ أين هي القدس اليوم من أولويات قادتنا؟


قد تُصْعَق إذا علمت أن الفقراء يٌمولون حج الأغنياء، فالدولة التي يفد منها الحجاج والتي يفد اليها الحجاج، تستغلان موارد الفقراء (علماً أن من يدفع 10 الف ريال سعودي لا يمكن أن يُصَنّف بأنه فقير، لكنه ضحية خلل سياسي وإداري مريع)، الذين هم غالبيه الحجاج، لتوفر خدمات 5 نجوم للمسئولين الحكوميين، الذين يعطوا منح إكرامية، علماً بانهم متخمين وممتلئة بطونهم بمال السحت. وهناك تكمن المفارقة. هناك حجاج تنظف غرفهم وتُبَخّر وتُعقم حماماتهم، تتوفر لهم سبل مواصلات مريحة، فيما تكتظ غرف "الحج السياحي" التي تسع 30 شخصاً ب 200 شخص، تظل غرفهم متسخة وموبوءة طيلة أيام المناسك، حماماتهم مزدحمة، قذرة ومثيرة للاشمئزاز، وسبل مواصلاتهم منعدمة، ممّا يلجئ غالبيتهم للترجل قاطعين متوسط 12 كيلومترات في اليوم. مررت بهذه الخيام أيام النسك طرفي النهار وزلفاً من الليل فلم الحظ غير نسبة قليلة منشغلة بالذكر، التهجد أو تلاوة القران. فالحج الذي من المفترض أن يكون نفحة من نفحات الإخاء الإنساني ومجالاً من مجالات التواصل الفكري، استحال إلي ملهاة بالنسبة للأغنياء، وإلى معاناة بالنسبة لمحدودي الدخل.


لقد قررت منذ أول يوما اصطدمت فيها بمسؤول الحملة التعامل مع الحج كحالة بحثية (Case Study) أجري فيه حوارات وأسجل فيه ملاحظات أنقلها من بعد للقراء. لا سيما أنني تذكرت بأن الأخير يمثل الحلقة الأضعف في هذا الإخفاق المركب(multiple layers of failure)، لأنه ببساطة ورغم تحاملي عليه لا يتحمل اكثر من 15 في المئة، تلك المتعلقة بالإخفاق السلوكي، فهناك 25 في المئة تتحملها وزارة الأوقاف، تلك المتعلقة بالإخفاق السلوكي والمؤسسي للدولة الموفدة، و60 في المئة تتحملها الدولة المضيفة، تلك المتعلقة بالإخفاق السلوكي والمؤسسي والبنيوي.ولك حق الاختلاف معي في المقدار، ولكنها خبرتي المتواضعة في العمل المؤسسي والتي هيئت لي إمكانية التقييم وفق معايير محددة ينبغي إخضاعها لسبل البحث الميداني، المختلفة إن أزمعنا التنقيب علي الحقائق ولم نكتف فقط بالبهرج واتخاذ الحج مناسبة إعلامية تظهر كرم الدولة المضيفة وتفانيها في خدمة الإسلام والمسلمين. وصفت جريدة المدينة تجربة الحج لهذا العام بقولها "حج ناجح بامتياز" (بتاريخ 13 ذو الحجة 1439 الموافق 24 اغسطس 2018). وفق أيّ معايير وعلى اي أسس تم هذا التقييم؟ لم أر مسؤولاً قد مرر استمارة ولو على مجموعة مختارة عشوائياً أو عقد اجتماع أو أجرى بحث ميداني أو أجرى لقاء معمّق مع قائد حملة. أهو كلام ووهم من جملة الأوهام وعلى أمير المؤمنين السلام. حتى متى نستمر في هذا المنوال؟


إن عدم توفر أي جهة رقابية من طرف أغلبية الدول الإسلامية غالباً ما يجعل الحاج (أو الحاجة) تحت رحمة مسؤول (أو مسؤولة) الحملة، الذي لا يتردد في استئجار حافلة تتمرجح و إذا شئت تتأرجح طيلة الطريق من المدينة إلي مكة. يقف الباص في (آبار علي) كي يُحرم الحجيج فيغلق السائق الباص ويذهب). قد لا تستحثه تلفونات المسؤول الذي يشعر بالحرج لمعاينته أناس مرضي لا يقوا علي الوقوف، وسيدات لا يتحملن الرطوبة وشدة الحرارة في تلك البقاع القاحلة. فلا يأتي الا بعد ساعة من الموعد المضروب، كما لا يأبه بتقديم اعتذار غالباً ما تستدعيه المجاملة وليس بالضرورة تأنيب الضمير. لدى هذا الشعب خصال كثيرة حميدة ليس من بينها اليوم خصلة واحدة تعين على النهضة، فالنهضة تتطلب أكثر من همة، إنها تتطلب انضباط. كان سائقو الناقلات على أيام النقل النهري يلبسون أبرول، واليوم يلبس السائق "عراقي" من تحته فنلة داخلية وقد يكون في مهمة شبه رسمية اذا لم نقل مهمة فيها نوعاً من القدسية. (للأمانة، لقد نسيت أغراضي في إحدى الباصات، فانتظرني أحدهم يومين ولم يرض تسليمها لشخص غيري خشية أن تضيع، حتي لقيني فسلمني عهدتي بنفسه. وهذه في حد ذاتها محمدة ومزية لا توجد اليوم.)


وقف الباص في مكان مُقْفر، فلم أكد أصدق نفسي من هول البؤس الذي اتسمت به الاستراحة التي رأيتها بذات المنظر قبل تقريباً ربع قرن من الزمان، وقد لاحظت الغياب التام للخدمات وكافة نظم الإصحاح البيئي. مما جعل كثير من السيدات يمتنعن من استخدام المراحيض، ويفضلن الانتظار حين الوصول الي المدينة المنورة، والتي وصلها الباص بعد 9 ساعات (علماً بان هذه المسافة لا تتجاوز ال4 ساعات تحت أي ظرف من الظروف).قال لي أحد الإخوان العراقيين أنهم وقفوا في استراحة لم يستطيعوا الصلاة فيها رغم ضيق الوقت لأن مياه الصرف الصحي طفحت فوق موكيت المصلى؟ كيف لبلد هو الأغنى في العالم من حيث الموارد أن تظل مرافقه بهذه الرداءة وأن لا يعمل على انتشال بقاعه المترامية من هذا التخلف؟


أمضي السائق قرابة الساعة في محاولة لإثناء 3 ركاب سودانيين قرروا بكل عشوائية وسبهللية ركوب الباص الذي لا يسمح لسائقه إلا باصطحاب الحجاج الذين أدرجوا رسمياً في المنفستو، والذين دفعوا الرسوم المقررة واتبعوا الإجراءات المعتمدة لدي وزارة الداخلية. مثل هذه التصرفات لها صله بمستوي التحضر والانضباط لدي الحجاج من الدولة المعنية، بيد أن هنالك تداخل بين ما هو سلوكي (Behavioral) وما هو مؤسسي (Institutional)، لان الرسوم الباهظة التي تشترطها بعض الدول الاسلامية علي حجابها والمعاملة الضيزى التي يتلقاها اصحاب القطاع الخاص، من البنك المركزي، مقارنة بالقطاع العام (وما يسمي بالحج الحكومي)، تجعل مسؤولو الحملات يتفكرون في أي حيلة يزيدون بها هامش ارباحهم، وتغطية ما قد يكونوا قد تكبدوه من خسارة في خانات أخري.


مثلا، إن الإدارة العامة للحج والعمرة (السودان)، والتي من المفترض أن تكون جهة رقابية أو سيادية مهمتها رسم السياسات، جعلت من نفسها جهة تنفيذية، بل قررت بيع الريال السعودي ب 7،8 ج للقطاع العام، وللوكالات ب 12,700 جنيه تشتري الوكالات العملة الحرة من السوق السوداء لتغطية الاعباء مالية والمصاريف التي تردها للمؤسسة الأهلية للطوافة (مؤسسة استحدثتها الدولة المضيفة ذات صبغه مبهمة لا هي بالأهلية ولا الرسمية)، تتراوح بين 1196 للحج العامي، 1674 للحج السياحي، بالإضافة لشيك الوكلاء. و 11,000 للحج المميز. تأخرت الفيزات هذا العام (2018م)، لأن بنك السودان تحصَّل الفلوس من الوكالات ولم يسددها للدولة المضيفة التي أوقفت الإجراء بعد أن شبعت من المقالب والغش والكذب الذي احترفه المسؤولون السودانيون، والذين أرادوا للدولة المضيفة تحمل المعرة– معرة منع المسلمين من الوصول لأداء مناسك الحج، علماً بأن الفيزا الإلكترونية تصل تلقائياً وأوتوماتيكيا لمجرد نزول البيانات وتسديد الرسوم.


كانت الدولة المضيفة الي زمن قريب تتحرج عن اتخاذ قرارات صارمة مع جهات ذات صبغة رسمية، خاصة إذا كانت دينية، لكن المسئولين السودانيين في زمن الإنقاذ، لم يبق لهم ماء وجه يراق، فاستنفذوا كل حيل الاحتيال، مما اضطر سلطات الدولة المضيفة ايقاف مسؤول الأوقاف السوداني وإنزاله من الطائرة بعد أن أزمع مغادرة أراضيها متهرباً من دفع استحقاقات مالية. فاضحننا أينما ما حللتم، الله لا كسبكم.
لقد اصبح مال الحجيج مرتعاً لوزراء الأوقاف وكبار مسؤولي الوزارة علماً بأن تنظيم هذا المرفق لا يحتاج الي شخص "متدين" قدر حاجته الي شخص ذو كفاءة إدارية ومهنية كما يحتاج الي مستوي من المعقولية. فالنظام المصري مثلاً لاتتجاوز نسبة دعمه للموظفين الحكوميين 25%، فيما تتجاوز الدولة السودانية نسبة 75% مما يجعل التميز في الخدمات الذي يتلقاه أصحاب المنح يأتي علي حساب ما يدفعه أصحاب الحق الأصليين، الذين ينتظر بعضهم عقوداً لتحصيل المال الحلال كي يفدوا الي الرحمن. أيهم أولي بالمنحة: المزارع الذي يعمل 35 عاماً مدّخراً ومقتطعاً جزءاً من ماله، أم الدستوري العاطل الذي لا يتجاوز جهده مهمة التملق لشاويش أفضل ما يجيده المراوغة والكذب؟


بدأت فكرة الحج السياحي عام 1422ه، بحُجّة تسهيل الإجراءات وتحسين مستوي الخدمات للكل، بيد أنها لم تفلح في تحقيق أي من هذه الأهداف الوسيطة، بل أضاعت النتيجة الرئيسة: تهيئة المناخ النفسي والمادي الذي يهيئ للمسلمين ادخار طاقاتهم للترقي الروحي والفكري، وعدم انشغالهم بأي امر من الأمور الدنيوية التي من شانها أن تعكر عليهم صفوهم.


شَهِدت بسالة المسلمين، وقفت علي محبتهم لنبيهم، التمست التكافل كقيمة محورية في اجتماعهم، استشعرت رغبتهم لتلبية امر ربهم وعزمهم علي اقتفاء اثر سيدهم وأبيهم إبراهيم. لكنني خشيت أن طال بهم الأمد أن تستحيل عبادتهم، التي تجعلهم في اتساق مع الكون وانسجام مع مخلوقاته في التسبيح بحمده، خشيت أن تستحيل هذه العبادة إلي عبادة الوثنية، تزدهر متما ضاعت مدلولات العبادة، وجهل العابد رمزية النسك. ربما يأتي علينا زمان نلهج فيه بأدعية تغرس قيم التوحيد، لكننا لا نبرح ساحة الشرك. نردد قوله (صلي): لا إله الا الله وحده، أنجز وحده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، فيما نمتثل للطواغيت ونقر منهجيتهم في الاستبداد والاستضعاف لعباد الله. يبكي بعضنا ويتقلب متأثرا لفراق الروضة الشريفة ويتنحنح لوداع المصطفي، ويرجع فيتملق الحاكم ويظلم المحكوم.


لقد ارتضينا لأنفسنا علمانية وجودية، هي أشبه باللائكية (ولا حتي المفاصلة القيصرية: ما لله وما لقيصر لقيصر)، والتي قادت بعضنا للانفصام واوقعت البعض الأخر في الزندقة والإلحاد. السؤال الفلسفي الذي ظللت أكرره علي نفسي طيلة أيام الحج: هل يحتاج الفرد المسلم إلي الوعي بالشيء كي يجني ثماره أم أن الجانب الطقوسي الجماعي قد يكفل انسياب القيم إلي ضمير ذاك الفرد؟ بمعني أكثر وضوحاً، هل تغييب العقل هو أحدي مطلوبات الإيمان أم أن الاعتقاد يفتح منافذ للذهن غير المتعارف عليها؟ لا أدري، ومن قال لا أدري فقد أفتى.


هل يحتاج الله الي معاناتنا، أم أنه أدخر المشقة وسيلة، لربما حدثت بها يقظتنا؟ هذه اليقظة التي طالما خافها خلفاء المسلمين وامرائهم عبر التاريخ، بل عمدوا علي إخمادها، لأنها إن اشرأبت يوماً بعنقها فسوف تعيد الأمر الي نصابه، وسترد التعاليم إلي أصولها متجاوزة الفقه الذي اعجزهم برسمه عن مواكبة العصر، فانفصلوا عن ذواتهم أو قرروا ببساطة المواكبة بأجسادهم.


لم يعد هناك مجالاً للمراء، فأموال الحج قد ادخرها "الوسطاء"، فهناك مسؤولو الحملات، وزارات الأوقاف بالدول الإسلامية، و"المؤسسة الأهلية للطوافة" التي تصر الدولة المضيفة بأنها مؤسسة أهلية. حتى ولو، لماذا لا تخضع للمحاسبة؟ لماذا لا يكون هناك موقع الكتروني تعرض فيه الأرقام بمنتهى الشفافية فهذا حريُّ أن يدفع عن جهات كثيرة تهمة التلاعب بأموال الحجيج؟ عندما تسأل مسؤول الحملة عن عدم التناسق بين رسوم الحج ومستوى الخدمات، يقول لك المُطَوِّف زاد السعر هذا العام؛ عندما تسأل المطوف، يقول لك الأمير الفلاني اُقْتُطِع مساحة فقسمها بطريقة لا يمكن تصريفها للحجاج بسعر "معقول" إلا إذا حشر فيها أكبر عدد منهم. وأنت في خضم هذه الفوضى "لايص" (ضائع)، لا حيلة لك للوصول للحقيقة إلا تخميناً أو تقريباً. وقد تكتفي بالتسليم السلبي (الانهزامية) أو الاحتساب القدري (وليس الشرعي) وأنت تضمر في نفسك الذهاب مستقبلاً مع حملة مغايرة (فالحبوبات قلن "الحجات تلاتة: قضى فرضو ورضى ربو والأخيرة نسيتها ومن ذكرها فليراسلني امكن أتحمس شوية)، او تنسي الموضوع مجرد رجوعك إلى بلادك سالماً وتقول في نفسك "للبيت رب يحميه"! ولذات الأسباب ظلت المأساة تتكرر كل عام وستظل ما لم يقرر المسلمون اتخاذ موقف جماعي يبدأ بترجمة هذه المقالة إلي جميع اللغات وتوزيعها على اكبر قدر ممكن من المسلمين في أنحاء المعمورة.

 

auwaab@gmail.com
//////////////

 

آراء