مقدمة السير ريجلاند وينجت لكتاب “عثمان دقنة” من تأليف هـ. س. جاكسون .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

Introduction to H. C. Jackson’s Book: “Osman Digna”
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هي ترجمة المقدمة التي كتبها السير ريجلاند وينجت لكتاب "عثمان دقنة" الذي قام بتأليفه الإداري البريطاني هنري سيسيل جاكسون عام 1926م.
كان جاكسون قد عمل في مجال الخدمة المدنية بالسودان بين عامي 1907 – 1931م، في الخرطوم والبحر الأحمر وسنار وبحر الغزال وبربر وحلفا، وكتب الكثير من المقالات والكتب عن السودان منها كتاب "السودان: أيام وعادات" و"المتحاربون السودانيون"، وأَرَخَ لبعض شخصيات السودان مثل عثمان دقنة والزبير باشا رحمة. وقام الرجل أيضا بكتابة سيناريو شريط سينمائي عن غردون.
أما كاتب المقدمة فهو السير فرانسيس ريجلاند وينجت الذي ولد في عام 1861م في مدينة جلاسجو الأسكتلندية. التحق وينجت بالأكاديمية العسكرية في عام 1878م وتخرج فيها في 1880م برتبة الملازم ثاني. وبُعث للعمل في عدن والهند، وانتدب منها للعمل في الجيش المصري. وفي مصر عمل أمينا لسر قائد الجيش المصري (السردار) سير ايفيلين وود، ولخلفه سير فرانسيس قرينفل. ثم عين في عام 1887م مساعدا لمدير المخابرات، وفيها أسس لإدارة المخابرات العسكرية، التي يُنسب إليها الفضل في نجاح حملة الجيش الإنجليزي – المصري ضد دولة المهدية بين عامي 1896 – 1898م. وفي عام 1899م خلف وينجت لورد كتشنر في منصب سردار الجيش المصري وحاكم عام السودان، وظل في ذلك المنصب حتى عام 1917م، حين نُقل للقاهرة في وظيفة المندوب السامي البريطاني في مصر.
أشكر الأستاذ أحمد محمد حسن (باحث في تاريخ السودان) لمدي بنسخة من الكتاب ولاقتراحه لي ترجمته.
المترجم
***** ***** ******

الذكريات قصيرة. ومرت تحت الجسور الكثير من مياه أبينا الكبير النيل منذ وقوع العديد من الأحداث المثيرة التي أفضت لظهور الدرويش الرهيب القائد عثمان دقنة، وشَهَرَت اسمه في طول الإمبراطورية البريطانية وعرضها.
لقد أدى ذلك القائد البارز أدوارا مهمة في تلك السنوات النحسات السبع عشر التي كابدها السودان، حين أُريقت فيها دماء غزيرة، وساد في غضونها رعب هائل. لقد بدأ ذلك التدهور والسقوط مع بداية نشر المهدي لتعالميه الشيوعية التوجه (communistic doctrines) في عام 1882م. ولم يفق السودان من ذلك الكابوس المرعب إلا بعد مقتل خليفته عبد الله في نوفمبر من عام 1899م، عند نهاية سنوات ذلك العهد العجاف، الذي لم يكن له من حصاد سوى الموت بسبب الحروب والمجاعات والأمراض لستة من الملايين من الرجال والنساء والأطفال، وتحويل أراضي السودان الواسعة الخصبة (التي تعادل مساحتها ثلاثة أرباع مساحة الهند) إلى أرض يباب. وبدأ ذلك البلد من بعد ذلك في الاِستِفاقة تحت قيادة مجموعة من العاملين البريطانيين المجدين المخلصين، الذين أحسب أن مؤلف هذا الكتاب من أبرزهم.
وبالمقارنة مع تلك السلسلة من المآسي التي بلغت ذروتها بمقتل البطل غردون وسقوط الخرطوم، يمكن أن نعد الدور الذي أداه عثمان دقنة في دراما السودان دورا ثانويا إلى حد ما. ولكنه، كقائد ملهم للعديد من قبائل شرق السودان ("الفزي ويزي" عند روديارد كبلينغ) واجه مع أتباعه القوات البريطانية في معارك التيب وتاماي وزريبة ماكنيل، وغيرها، بكل قوة وعنف وحنق. وأكسبتهم تلك المعارك سمعة مستحقة كرجال شجعان، ولكنها شجاعة متهورة متعصبة. وخلدت تلك السمعة عثمان دقنة في ذكريات الرأي البريطاني العام في ثمانينات القرن التاسع عشر أكثر من غيره من القادة الكبار في تلك الحركة، إذ أن حجم العمليات في مناطق السودان الداخلية كانت بعيدة عن أنظار العالم الخارجي، ولذا لم تكن معلومة للبريطانيين في ذلك الوقت.
لقد أحسن مؤلف هذا الكتاب صنعا في استعراض أحداث تلك السنوات العاصفة بشكل موجز ومحكم. ولا يراودني أدنى شك في أن القراء الذين كانوا لصيقين بالأحداث التي سردها المؤلف، أو عكفوا على دراسة تاريخ السودان في الأربعة أو خمسة عقود الماضية، سيوافقون على أن الكاتب قد نجح نجاحا باهرا بالفعل في أداء الواجب الذي ألزم نفسه به. وكان المؤلف في غاية التأهيل لتلك المهمة، فقد عاش في السودان لسنوات طويلة، وتدرج في قسمه السياسي في عدة وظائف إدارية، من مساعد مفتش إلى مدير مديرية. وكان شديد الرغبة في مد يد العون لهم، وفي البقاء دوما لصيقا وشديد التعاطف مع الذين أُتي به ليحكمهم. وكان يحاول أن ينقل إليهم نظرته كمؤرخ مدني وليس عسكري، والتي كانت نظرة متحررة من الميل والتحيز للمنتصر على حساب المغلوب.
لقد وُهب الكاتب قلما سيالا وسهلا ممتنعا. وكانت استنتاجاته كلها عظيمة القيمة والفائدة، وجديرة بأن يتعهدها بالدراسة الجادة المتأنية كل الذين يرغبون في فهم الأحوال السائدة في البلاد في السنوات الباكرة التي نجح فيها عثمان دقنة في تحقيق بعض الانتصارات العسكرية، وتأثيرها على الأحوال في سودان اليوم. وكل هذا مع الأخذ في الاعتبار أن الكاتب يدرك أنه بقيت هنالك العديد من المشاكل الاقتصادية والسياسية والإدارية بين السودان، ومصر وبريطانيا تنتظر الحل. ويدرك أيضا أن حل تلك المشاكل بأي درجة من الدقة يتطلب دراسة دقيقة وناقدة للأحداث التي مرت بالسودان، فهذا من شأنه تقويم الأهمية الحقيقية لأوضاعه الحالية.
وأتبع المؤلف في كتابه طريقة حاول بها أن يقود القراء – ومن بينهم الذين سيقودون هذه البلاد العظيمة في المستقبل – بطريقة الحث (induction method) أكثر منها عن طريق الآثار المباشرة (direct implications). وبهذا، فهو يساعد القراء على تكوين حكمهم الخاص حول الحلول الممكنة للمشاكل التي تواجههم دون تأثر أو تحيز.
وباختصار، يعرض المؤلف الوضع بعد ثورة السودانيين ضد القمع الطائفي والفساد، وضد الحكم المصري القديم، المعروف بفساده وقلة كفاءة موظفيه. ويجعل المؤلف القراء يدركون السهولة التي يعيد بها التاريخ نفسه إذا حدث – نتيجة لسوء حظ أو خطأ ما – أن تغيرت الأحوال المُرْضية الحالية، وبدأ المحكومون في الاعتقاد بأن الأمور قد تعود لما كان عليه الحال في نظام الحكم السابق.
وخلص المؤلف – بتوفيق كبير – إلى استنتاجات ختامية ضمنها الفقرة الأخيرة من كتابه. وسيدرك الذين يعرفون ويفهمون الأهالي السودانيين وتطلعاتهم أن تلك الاستنتاجات ستجد قبولا واسعا لصراحتها وقوة حجتها.


alibadreldin@hotmail.com
///////////////////

 

آراء