ملاحظات عابرة حول أمر الكلوروكوين وسحبه كعلاج للملاريا في السودان. بقلم: بدر الدين حامد الهاشمي
بدر الدين حامد الهاشمي
29 September, 2011
29 September, 2011
دعاني لتسطير هذه الملاحظات العابرة عن أمر الكلوروكوين وسحبه كعلاج للملاريا في السودان، ما نشره زميلنا الكاتب المعروف د/ زهير السراج حديثا في سودانايل في مقاله المعنون: "أسرار إعدام الكلوروكوين" في السودان. ومنطلقي من كتابة هذه الملاحظات لا علاقة له بالسياسة الدوائية في البلاد، ولا بالمصالح المالية المتشابكة التي قد تكون (أو لا تكون) قد ساهمت في عملية "إعدام" الكلوروكوين، وإدخال دواء آخر هو آرتيمسنين، ولا تنتقص بالطبع من مساهمات د/ زهير السراج الأخرى في تسليط الأضواء على ما يهم الناس في معاشهم وصحتهم وأمورهم كلها. بيد أن هذا المقال لدكتور السراج يستلزم في نظري المتواضع وقفة "تصحيحية" لبعض المفاهيم التي وردت فيه، والتي قد تجد القبول من "عامة الناس" (بل و"خاصتهم" أيضا) إن لم تجد من يحاول أن يشير لخطلها وتخليطها.
خلاصة ما جاء به د/ زهير السراج هو أن هنالك جهة (أو جهات) ذات مصلحة نفعية قامت بإصدار قرار بعدم استعمال الكلوروكوين في علاج الملاريا، واستبدلته بدواء صيني هو آرتيمسنين - كما قال"- للسيطرة على السوق، وتحقيق المكاسب الضخمة للشركات المصنعة والوكلاء والعملاء والمنتفعين، بمن فيهم الذين أفتوا تحت إغراء المال بعدم نجاعة عقار الكلوروكوين، وذلك على حساب المواطن المسكين".
نبدأ بالقول أن دواء الكلوروكوين من الأدوية القديمة جدا في تاريخ أدوية الملاريا، إذ بدأ استعماله في عام 1946م، وقد ساهم في إنقاذ حياة الملايين الكثيرة من مرضى الملاريا (غض النظر عن نوع طفيل البلازموديم الذي يسببها، في طورها الذي يعيش في كريات (كرويات) الدم الحمراء، ولكنه لا يعالج أطوار الطفيل الأخرى. وثبت كذلك أنه دواء مفيد ضد الالتهابات، ولا يزال يستعمل إلى يوم الناس هذا في علاج أمراض أخرى مثل التهاب المفاصل الروماتيزمي، مع أدوية أخرى بالطبع). بدأ الطفيل المسبب للملاريا في إظهار المقاومة لدواء كلوروكوين، وبصورة متدرجة، منذ خمسينات القرن الماضي في كل أنحاء العالم، عدا جزيرة هيسبانيولا وبعض البؤر في أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية وجنوب شرق آسيا. وقد يأتي يوم يستعمل فيه هذا الدواء لعلاج أمراض أخرى متعددة؛ فسياسة شركات الأدوية الآن هي محاولة إيجاد استطبابات/ استعمالات طبية (indications) جديدة للأدوية القديمة، وأسباب ذلك كثيرة، أهمها العامل الاقتصادي الذي يسعى لتقليل الأموال التي تصرف في البحث عن ودراسة أدوية جديدة، علما بأن تكلفة إدخال دواء جديد للسوق قد تصل إلى مليار دولار أمريكي! ثبت كذلك أن الكلوروكوين قد أصابه ذلك الداء اللعين الذي حاق (ويحيق) بكل المركبات التي تستعمل ضد كل الميكروبات بأنواعها، وبالطفيليات من كل جنس وصنف...ألا وهو داء "المقاومة". ومقاومة الميكروبات والطفيليات للأدوية من المسلمات في علم الأدوية والعلاج؛ وقد أريق حولها حبر كثير، ملأ مجلدات ضخمة، حول كيفية وأسباب حدوثها، وآثارها الاقتصادية، وطرق الوقاية منها، مما لا يتسع المجال لذكره هنا. وفي السودان – وخلافا لما ذكره د/ السراج من أن الأبحاث التي تم الاعتماد عليها "لإعدام" دواء الكلوروكوين لم تجر في السودان- فلقد وجدت أن هنالك ما يقارب الستين بحثا تم إجراؤها فقط على موضوع مقاومة الكلوروكوين في السودان. وتمت هذه الأبحاث في السودان وفي بلدان كثيرة أخرى، منها ما أجراه علماء سودانيون و"أجانب" يعيشون ويعملون في دول آسيوية وأفريقية وأوروبية، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، كينيا وفرنسا واسكتلندا وإيطاليا والسويد والبحرين. ولا يعقل أن يتفق هؤلاء جميعا على القول بأن الكلوروكوين قد أصابته "المقاومة" لطفيل الملاريا، إن لم يكن بالفعل هذا هو ما حدث! لم أقف على ما يؤيد زعم الدكتور من أن الأبحاث التي بني عليه قرار إيقاف استعمال الكلوروكوين للملاريا هي أبحاث "لا ترقى للمستوى المطلوب"، أو "ممولة من إحدى الشركات المنتجة لدواء آرتيمسنين. فلقد سألت عددا من العلماء المختصين في مجال الملاريا وعلاجها ممن ليست لهم مصالح مالية مع شركات الأدوية، واطلعت على ما نشر في الأدبيات العلمية في هذا المجال؛ فوجدت أبحاثا كثيرة منشورة في مجلات محكمة صارمة و"ثقيلة العيار" مثل "المجلة الأميركية للطب والوقاية في المناطق الاستوائية"، وغيرها من المجلات التي لا تقبل بحثا للنشر إن كانت هنالك شبهة تعارض مصالح أو دعاية تجارية لدواء منافس. نبئت أيضا من خبير لا يشتغل، ومنذ عقود، بغير الملاريا ومقاومة الأدوية لها، أن منظمة الصحة العالمية قد أوصت بأن يسحب من الأسواق كل دواء ثبت أن نسبة مقاومة الميكروبات/ الطفيليات له قد زادت عن 30%، ومثبت علميا أن نسبة فشل العلاج بالكلوركوين تتعدي ال 60% في أفريقيا و80% في جنوب شرق آسيا، وأن حالات موت الأطفال بالملاريا تزداد طرديا مع ازدياد حالات المقاومة للكلوروكوين. ولعل من أوصوا بسحب الكلوروكوين من الاستعمال في السودان قد اعتمدوا أيضا على مثل هذه التوصية، والتي لا أشك أنها لم تصدر لتفيد تسويق دواء صيني أو غيره!
ذكر الدكتور السراج أن سعر دواء آرتيمسنين يبلغ أربعة عشر مرة سعر دواء كلوروكوين. وقد يكون هذا صحيحا، ولكني لا أرى العلاقة المباشرة بين السعر والفائدة العلاجية. فالدواء الرخيص - إن كان ناجعا- هو الذي ينبغي تفضيله عما سواه. ولكن ما العمل إن كان الدواء الزهيد الثمن قد فقد فعاليته؟ وهل تستفيد الشركة المنتجة من بيعها للدواء الغالي الثمن – بالضرورة- أكثر من استفادتها من بيع الدواء الرخيص؟ وعلى كل، فإن ارتفاع سعر الدواء في السودان صار أمرا مقلقا، بل وينذر بخطر عظيم. شاهدت قبل أيام على شاشة قناة النيل الأزرق ندوة عن أمر غلاء أسعار الدواء، شارك فيها صيادلة من مصنعي الدواء وموزعيه، وممثل لجهة حكومية موكول لها أمر الرقابة الدوائية، وممثل لجمعية حماية المستهلكين؛ وخرجت من مشاهدتي للحلقة وأنا أكثر جهلا بأسباب الزيادة الفاحشة في أسعار الدواء، بيد أني تيقنت من سببين حقيقيين كنت أعلم أنهما وراء زيادة أسعار الدواء من قبل مشاهدة الحلقة، وهما في نظري المتواضع: التدهور المريع والسريع لقيمة الجنيه السوداني، والفساد الذي ضرب عندنا كل مرافق الحياة تقريبا، ويشمل ذلك بالطبع (دون ميل للمبالغة) من يصنع الدواء، ومن يستورده، ومن يوزعه، ومن يصفه، ومن يبيعه، وأكاد أقول من يستعمله أيضا. بيد أن كل هذا لا يبرر زعم دكتور السراج أن إدخال دواء آرتيمسنين وسحب دواء كلوروكوين من علاج الملاريا كان بسبب فساد مالي. ففي هذه الحالة بالذات – وليس في غيرها- توجد من الدلائل العلمية القوية ما يبرر سحب دواء كلوروكوين وإدخال دواء آرتيمسنين. وعلى ذكر دواء آرتيمسنين، فلابد من سطور قليلة لتعريف القارئ بهذا الوافد "القديم كل القدم، الجديد كل الجدة" كما يقول طه حسين. للدواء قصة مثيرة ملخصها أن هذا الدواء (ويصح أن نقول عنه أنه "عقار" فالعقار هو ذلك الدواء ذو الأصل النباتي وليس غير ذلك) قد عرف في الصين منذ آلاف السنين كعقار مستخرج من نبات sweet wormwood ، وقام العلماء الصينيون باستخلاص دواء آرتمسننين من هذا النبات، ودرسوا خواصه ضد طفيل الملاريا فأثبت نجاحا كبيرا. وحكى لنا أحد العلماء البريطانيين في محاضرة عامة أن عالما صينيا هرب للغرب بنتائج هذا الاكتشاف المثير، بيد أني لم أقع – حتى الآن- على أي مصدر مكتوب يؤيد هذه القصة. يجب القول أن دواء آرتيمسنين لم يسلم هو الآخر من داء "المقاومة"، والتي بدأت تظهر على استحياء في بلاد مثل كمبوديا، بحسب تقارير نشرت من ذلك البلد في عام 2008م. ونشر حديثا عالم سوداني خبير بالملاريا يعمل بالبحرين في قسم للكيمياء الحيوية أن الزهو والتفاؤل بالأمل الذي يوفره دواء آرتيمسنين لمرضى الملاريا في السودان ليس له ما يبرره، وأن سلامة وأمان دواء آرتيمسنين ليستا مختبرتين بما فيه الكفاية، وأن الوقت ما زال مبكرا جدا للحكم علي هذا الدواء. تقول بعض الدراسات التي أجريت على الحيوانات المعملية (ولم تسجل حتى الآن في البشر) أن دواء آرتيمسنين قد يسبب آثارا ضارة علي القلب وعلى السمع. بيد أن هذه النتائج قد تصدق أيضا على مئات الأدوية التي كانت وستظل تستعمل في البشر، مما يعني أنها لن تكون سببا لسحب ذلك الدواء من الأسواق في القريب العاجل.
وأختم بذكر أن سحب بعض الأدوية وإدخال أخرى هي عملية "ديناميكية" مستمرة. فإن سحب دواء ما اليوم، إما لأنه صار عديم الفعالية ضد مرض معين، أو أنه مضر في ناحية من النواحي، قد يعود ذلك الدواء بعد حين بعد أن تثبت الأبحاث أنه مفيد لمرض آخر. فلقد صارت الأدوية اليوم مثل "حذاء الطنبوري" الشهير...لا تختفي تماما إلا ريثما تعود تارة أخرى تحت ستار مختلف! وكمثال على ذلك نذكر دواء اسمه "اولتي براز" اكتشفته شركة فرنسية لعلاج البلهارسيا قبل نحو ثلاثة عقود. ولم يصب ذلك الدواء نجاحا كبيرا في علاج هذا المرض، فسحب من الأسواق.. بيد أنه الآن في طور التجريب كعلاج للتليف، والتشمع الكبدي، وسرطان القولون. وحتى بالنسبة لدواء كلوروكوين، فقد أثبت فريق بحثي في ملاوي بقيادة البروفيسور الأمريكي "بلاو" أن الطفيل المسبب للملاريا (البلازموديم) قد يستعيد حساسيته لدواء كلوروكوين (أو أن الكلوروكوين قد يستعيد فعاليته ضد طفيل الملاريا) بعد مضي نحو عقد من الزمان بعد إيقاف استعمال الدواء. إن صح هذا الزعم، فلا يستبعد أن يعود الكلوروكوين عودة مظفرة لعلاج الملاريا ولو بعد حين!
نقلا عن "الأحداث"
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]