منصور خالد إلى الغيبة الكبرى
بتصام المغارة خيولا بِجنّ بالليل
ياود جيل البحور يا الجدّك المانجيل
*
في يوم الخميس جانا الخبر وانشاعْ
بالأبع قِبَل أزرق طويل الباعْ
تبكيك الخلوق بأغزر الدماعْ
*
مرثية من أيام سنار المملكة
(1)
لم نكن ندري أن الشمس متأخرة عن ميعاد صحوها ،فقد أفل نجمٌ من نجومنا الساطعة ، في وقت ترجّلت الحوافر عن المسير بسبب الوباء. قديما يقولون إن لذهاب المرض ، ذبيحة كبيرة قادمة. وها هو يوم تلك الذبيحة قد أطلّ ، فلا حلي ولا عقود الجياد تنفع . إننا أمام استشهاد ضخم ، لا تقدر على دفنه تحت أرض الوطن إلا عبر زخات دموع الرجال ، وقلّت الأرجل . وصعد إلى الجلجثة وحيدا ، ورب شر يغادرنا باستشهاده، كما استشهد مثله خالد بن الوليد في فراشه. خاض معاركه مثقل بجراحات الزمان . لسنا مفارقين الدرب مع أخطائه ، فمن لا ذنوب له فليرجمه بالرصاص .
بلغ من العمر التاسعة والثمانون ، متقد الذهن ، يصابح كل يوم بمعركة جديدة. يغادر الساحة التي يزحمها الرجرجة والسابلة ، واتخذ من الصفويّين خونة مبدعين ، وهو منهم لم يرحمهم بقلمه المضّاء.
(2)
ودّعنا محمود محمد طه، وجون قرنق من قبل، وها قد جاء اليوم الذي كنا نخشاه، وما كانت النفوس كبارا ولكن تعبت في مرادها الأجساد. لا نعلم موعد الرحيل الأبدي كيف ومتى وأين ، فالكون منا محجوب مستقبله. وما أيسر التمني على النفس:
في صدر عمله بالخارجية بعث سيارة مع الجازولين وسائق وعدد من أشرطة التسجيل، وحمّل الأمانة الأستاذ هاشم حبيب الله والشاعر الفرجوني للشاعر عبدالله محمد عمر البنا في عمارة البنا بالبطانة، ليقول أي شيء يبد له. وأحضرا خمسة عشر شريطا مسموعا بصوت الشاعر الفذ وتسلمها دكتور منصور وشكرهما.
كنت آمل أن يكتب منصور عن الشاعر عبدالله محمد عمر البنا الذي تخرج عام 1929، لكن مضى الوقت وضاق العمر على رحابته، ولم يسع المفكّر وقتا يكتب عن البنّا معلم البروفيسور عبدالله الطيب في كلية غردون التذكارية.
لدى منصور سكرتيرة تكتب عنه، وهو يراجع النصوص مثلما كان يفعل طه حسين، لا يترك واردة أو شاردة إلا كتب عنها، كتابة المؤلف و المحقق. يداري النصوص بشبهات كي تصفى لك مياه اللّغة جزّلة سلسة وطربة، تدخلك لُجّة بحره العميق وكهف مبيته. فتأخذك إلى شطآن اللّغة وكان منصور واحد من أساطينها إنكليزية أو عربية.
للتوثيق عند منصور شأن آخر. فاق محمد حسنين هيكل الذي بدأ صحافيا في الأربعينات. اختار لتراجم أسفاره إلى العربية المبرّزين من خريجي الجامعات النُجب، ليصحّح خواطرهم إن لزم، بقيود أكاديمية صارمة. عسيّرة على من يستخفّون بالتدقيق.
لصداقته مع جون قرنق سيرة تشهد بأنه لقاء عمالقة في جوف الأسطورة السودانية، لم يأت لنا التاريخ بصحبتهما في الطريق ولا حوارهما النابه. بخُل المشاهدون الموثقون علينا بشذرات من تلك القاءات. وليت دكتور كمير ودكتور محمد يوسف أحمد المصطفى يكتبان ما لم تذكره السيرة الذاتية.
(3)
تحدث هو عن الطيب صالح خلال احتفاءيه عام 2013
{ هو أديب جدير بالحفاوة. والاستحفاء بالشخص في اللغة هو المبالغة في الاستخبار عنه . ظلت الأمم التي تقدر الفن والأدب ، بكل ضروبهما ـ تستذكر الفحول من الأدباء والشعراء والفنانين ، بل ذهب بعضها إلى تمجيد أدبائها وفنانيها لدرجة تقارب التقديس . فرنسا مثلا أقامت صرح البانثيون في باريس كمرقد أبدي لأدبائها وأسمته مجمّع الخالدين . إنجلترا أنشأت بهوا في كنيسة وست منستر لتودع فيه أجداث الأدباء والشعراء . إيطاليا مثلا ذهب الأقيال في فلورنسا والبندقية إلى إضفاء قدسيّة على العظماء والنوابغ من الفنانين، مثلا أطلقوا على مايكل أنجلو و رفائيل الديفيرو . في هذه الاحتفالية إعادة لحياة الكاتب والشاعر والفنان ،بل فيها تأكيد على أن الأدباء الفحول لا يموتون ولا لمثلهم أن يموت وإن ارتحل بجسده عن عالم الأحياء، وإن قلت أن تقاليدنا عن النأي بالنفس عن هذا النمط من التقدير، إذ إنك ميت وإنهم ميتون، إلا أن التكريم لفحول الأدب ضروب وشكور، من ذلك ما قامت وتقوم به زين ، فباسم كل أصدقاء الأديب الراحل وكل عاشقي أدبه ،نقول شكرا لزين كما نقول لربان السفينة في السودان كفيك من رجل. اليوم وفي هذه الجلسة نجتمع لتلقي إفادات من مُجتهدة الأدب والنقد الأدبي ليدلون لنا فيها جوانب من شخصية الكاتب جديرة بالتبيان . الطيب لم يكن رجلا واحدا فحسب بل كان رجالا في واحد ., كان الطيب قرويا سودانيا يباهي بقرويّته وكان بها سعيد ، كان عربي الثقافة تملكته تلك الثقافة حتى بلغت مُشاش مخه. كان بمحاياته للثقافة الغربية ،بل أقول بانغماسه فيها وإلمامه بدياناتها ولغاتها ، حداثيا في أفكاره ووسائل إقباله على الحياة . كان صوفيا صوفية تَقمّصته وتقمَصها حتى أخذ يغوص داخل نفسه ، لا بحثا عن خباياها ،بل أيضا لمادية العالم الذي يحيط به ، ولا غرو فشيخه الذي كان يتمثله ولا يخفي الإعجاب به سيدي محي الدين بن عربي ، والقائل في داخلك انطوى العالم الأكبر. كان الطيب أيضا رؤوفا بقارئه ،إذ ضمن في مطاوي أقاصيصه مفاتحة عيون قارئ كتبه متعددة الدلالات ، متنوعة المعاني على الوصول إلى ما استغلق عليه فهمه، تماما كما يفعل الفنان الماهر الذي ينصح من يتملّى في تصاويره بأن لا يبحث في أصل الصورة التي يريد بها الفنان ،لأن معاني الصور ترقد في عين الرائي . و لا شك بأن الذين سعوا لإجلاء شخصية هذا الكاتب متعدد المذاهب قد لجئوا كما ستلجأ الكوكبة التي أمامكم هذه الساعة إلى تشريح وتحليل شخصية الكاتب عبر الولوج فيما كتب ، ثم استكشاف ما قاد إليه من تنوع ومن صراع في دواخل الكاتب أو ما حباه به الله من قدرة على تجاوز التناقضات التي قد تنجم عن ذلك الصراع ، ولعلني أقول وقد صحبت الأديب الراحل منذ عهد الدراسة وعبر تطوافه في أرجاء العالم ، أنني ظللت أخاطب وأجادل وأتفق وأختلف دوما مع رجل كان متوازنا في داخله ومتصالحا مع نفسه ، بل كان أبعد الناس عن الخُيلاء الفكرية وأكثرهم صبرا على احتمال أذى الحمقى وتلك منة من الله. الطيب صالح لم يكن فحسب كاتبا أتاحت له الكتابة أرضا مندوحة للخيال ، بل كان مناضلا بأدب . النضال تعبير شابه الكثير من التلويث والتحبيل ممنْ لا يملكون إلا ألسنة زائقة، كانت هي والسحاب الخارس سواء ، ذلك السحاب الذي لا رعد فيه ولا مطر . لم يكن الطيب يناضل بنصال رمح أو بصوت زاعق ،بل بسنان القلم وصوت خافت عميق . في نضاله ذلك كان الطيب يعتصر ذاته متأملا فيها ومستوحيا لها ليخرج من كيانيه الوجودي والمعرفي ما يغذي به النضال ،مثل ذلك النضال خاضه في بلاد الله أدباء القرن التاسع عشر ضد التزمت الفيكتوري مثل شارلس ديكنز وتوماس هاردي ، وإن كان صاحبنا قد ارتحل مثقلا بالجراح المعنوية والتي هي أشد إيلاما من تلك الأسية وربما كانت له نظرات في أدبنا مثل طرفة بن العبد يقول طرفة:
خليلي لا والله ما القلب سالم .. وإن ظهرت في شمائل صاح
وإلا فما بالي ولم أشهد .. الوغى كأني مثقل بجراح
رحم الله رجلا خطاء وتواب
عبدالله الشقليني
29 أبريل 2020
alshiglini@gmail.com