منهجية المهدي القانونية في أمور النكاح والطلاق في السودان .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
منهجية المهدي القانونية في أمور النكاح والطلاق في السودان (1881 – 1885م) (1)
The legal Methodology of the Mahdi in the Sudan: Issues in Marriage and Divorce (1)
Professor Aharon Layish
بروفيسورأهارون لاييش
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
هذه ترجمة لبعض ما جاء في مقال للبروفيسور هارون لاييش عن منهجية مهدي السودان في أمور النكاح والطلاق، نشر في العدد الثامن من مجلة "Sudanic Africa" في عام 1997م عن دار نشر جامعة بيرجن بالنرويج. يعمل الكاتب البولندي الأصل الإسرائيلي الجنسية أستاذا فخريا للدراسات الإفريقية والآسيوية في كلية الدراسات الإنسانية بالجامعة العبرية بالقدس، وتخصصه البحثي الرئيس هو في قوانين الشريعة الإسلامية والأعراف في المجتمعات القبلية المستقرة. نشر كتبا ومقالات عديدة عن الوقف والمواريث والقوانين والتشريعات الإسلامية في لبنان (وبخاصة عند الدروز) وفي ليبيا والسودان (في عهدي المهدي ونميري) وغير ذلك. المترجم
******************
تزعم محمد أحمد بن عبد الله (المهدي) حركة دينية سياسية لبعث وتجديد (في الأصل إصلاح". المترجم) الإسلام، عرفت بـ "المهدية" وكان هدفها هو إعادة الثيوقراطية الإسلامية على أساس من القرآن والسنة، مثلما كان عليه الحال على أيام النبي محمد وخلفائه الراشدين. وظهرت فكرة الدعوة للمهدية في السودان أول ما ظهرت في القرن السابع عشر، وكان الباعث على حركة مهدية السودان توقعات أخروية يمكن تتبع مصدر إلهامها إلى مصر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وكانت لتلك الدعوة في مراحلها الباكرة سمات الحركات السياسية والاجتماعية المحتجة علي ما هو قائم من أوضاع. ولقيام الحركة المهدوية في السودان أسباب نجملها في الآتي:
1. استيلاء مصر – تحت قيادة محمد علي باشا- على السودان.
2. تدهور الوضع السياسي- الاجتماعي لرجال الدين التقليديين في البلاد، وقيام الحكومة بتعيين "علماء" يناصرونها.
3. ضم مصر لدارفور في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
4. محاولة إلغاء تجارة الرقيق بمساعدة المسيحيين الأمريكيين والأوربيين، وكان إلغاء تلك التجارة يتعارض مع مصالح السودانيين (الاقتصادية).
كان القانون العرفي القبلي راسخا في المجتمع السوداني، والذي كان يرتكز على موروثات طرق صوفية عديدة. ويشدد المؤرخ (البريطاني) ب. م. هولت هنا على ضرورة التفريق بين القبائل النيلية المستقرة والأكثر رقيا وحضارة، وبين قبائل الرحل في المناطق الداخلية في البلاد خاصة في غرب السودان. وأمدت القبائل النيلية المهدية بغالب أطقم بيروقراطيتها وشئونها المالية والقضائية، بينما قدمت قبائل الرحل للمهدية غالب أفراد جيشها الثوري، وطبقتها الحاكمة من التعايشة (في عهد الخليفة).
وكان لزاما على المهدي إن أراد النجاح لثورته الهادفة لتأسيس دولة دينية (ثيوقراطية) راديكالية في مجتمع مثل مجتمع السودان الذي ذكرنا، أن يفعل ما في وسعه كي يضعف من قبضة علماء الشريعة التقليديين (الأرثودوكس)، وأن يتنازل قليلا في أمور الأعراف والتقاليد عدا تلك التي تمس الأخلاق والأخلاقيات، والتي كان يتشدد في تطبيق أحكامها. وكان عليه أيضا أن يترك لنفسه كقائد صاحب جاذبية "كارزيما" مساحة من الحركة لحل المشاكل السياسية والاجتماعية اليومية التي قد تنشأ في دولته الثيوقراطية. ولكل ما تقدم تبنى المهدي منهجية قانونية مميزة منحته سلطة غير محدودة لسن قوانين وأحكام وضعية (positive laws) دون أي قيود مؤسسية قد تأتي من علماء الدين التقليديين.
تبدو منهجية المهدي القانونية في ظاهرها شديدة التبسيط (وربما السذاجة)، بيد أنها كانت شديدة الفعالية في الوصول به لمبتغاه وفي بلوغ أهدافه. وتجاهل المهدي ومنذ البداية كل التراث القانوني للمدارس القانونية والمذاهب المعروفة، وأزاح عن كاهله عبء التقليد، والقوانين الوضعية المتضمنة في تلك المدارس.
اعتمد المهدي في قوانينه وأحكامه وتشريعاته على ثلاثة مصادر، على الرغم من أنه لم يعرضها كمنهجية قانونية موحدة. وكانت تلك المصادر الثلاثة وبحسب ترتيب عرضها هي السنة النبوية والقرآن والإلهام الذي ينقله له النبي محمد. (أثبت هنا ما ذكره لي أحد المؤرخين السودانيين أن المهدي كان يعتمد على الإلهام مصدرا أولا ويخضع له القرآن والسنة وكان يتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيما اختص به ولذا جمع المهدي في عصمته تسع نساء! المترجم).
وقد يستنتج من هذا الترتيب أن السنة بالنسبة للمهدي - كمصدر للتشريع- أهم من القرآن. ويعضد هذا الاستنتاج ما عرف عن فهم المهدي لمفهوم النسخ (والذي هو إبدال نص بنص آخر)، ومبعثه هو إظهار إرادة الله في حالة الشك الناتج عن التناقضات في مصادر النصوص (معلوم أن النسخ والناسخ والمنسوخ من الأمور الخلافية والتي ألفت عنها الكتب الكثيرة، وقد أنكره بعض المتأخرين، ولكن الثابت عند غالب الفقهاء أن النسخ يقع في الأحكام وليس في الإخبار. المترجم). يجب على المرء أن يستنفد الصحيح أولا المصادر الرئيسة للتشريع قبل اللجوء إلى آلية الاجتهاد. وبحسب الطريقة التقليدية والمقبولة عند غالب العلماء فإن حذف أو تعديل نص قرآني بحديث سني أمر غير مقبول (والعكس صحيح أيضا). ويبدو أن فهم المهدي لأمر النسخ شابه كثير من التردد، إذ أنه أقر ذات مرة بأن حديثا صحيحا قد يلغي أو يغير من ما ورد في حديث صحيح آخر، وأن آية قد تلغي أو تغير ما ورد في آية أخرى، بيد أنه في حالة أخرى يقول بأن القرآن ينسخ القرآن، وأن الحديث ينسخ القرآن (اعتمد الكاتب هنا في مراجعه على بعض ما جاء في كتابين بريطانيين عن الناسخ والمنسوخ وعلى بعض مؤلفات بروفسيور أبو سليم عن منشورات المهدية. المترجم).
وكان المهدي من أنصار المدرسة الظاهرية الذين يأخذ رجالهم بالمعنى الحرفي للنصوص متماهيا مع مدرسة ابن حزم ومدرسته القانونية (الفقهية) والتي أسسها داؤود بن علي بن خلف (بحسب ما ورد في موسوعة الويكيبيديا فإن المدرسة الظاهرية تنادي بالتمسك وفق رؤيتها بالقرآن الذي هو كلام الله وسنة الرسول وذلك بحسب الدلالة المتيقنة منهما وإجماع الصحابة، وطرح كل ما عدا ذلك من الأمور التي تعتبرها ظنية (كالرأي والقياس واستحسان ومصالح مرسلة وسد الذرائع وشرع من قبلنا. المترجم).
وينفي المهدي عن نفسه تهمة احتكار حق الاجتهاد. ففي ذات مرة طلب منه أن يفتي في أمر الخلع (الذي هو فراق الزوج لزوجته بحسب طلبها بعوض يأخذه منها مثل المهر وغيره). وكان السؤال هو: هل يعد الخلع طلقة من ضمن الطلقات الثلاث التي تحرم بعدها الزوجة إلا بعد تتزوج من آخر. وأفتى المهدي في هذه المسألة بأن الزوج إن لم يلفظ بكلمة الطلاق فإن الخلع لا ينبغي أن يعد طلاقا، وأن بمقدور الزوج أن يرجع زوجته دون اللجوء لزواجها من رجل آخر، بعكس ما سيكون عليه الحال لو كان قد تفوه بكلمة "طلاق"، وأكد المهدي هنا أيضا أنه لم يأت بهذه الفتوى كرأي شخصي أو اجتهاد من عنده، بل استند – كما ذكر- إلى مصادر التشريع المعروفة المذكورة آنفا. وفي حالة أخرى أفتى المهدي في أمر توزيع الغنائم بما يفيد بأن الحديث يمكن أن ينسخ الآية، وكرر أيضا أنه ليس بمجتهد.
لا تتوافق "اجتهادات" المهدي مع النظرية الكلاسيكية للاجتهاد، بيد أن "نسخته الاجتهادية" لا تكاد تختلف كثيرا عن ما كان يؤكد عليه السلفيون المجددون والإصلاحيون من قبله (مثل السنوسي ومحمد بن عبد الوهاب) من أن القرآن والسنة النبوية هما مصدرا التشريع، مع ملاحظة أن المهدي قد استبدل الإلهام المباشر عن النبي محمد بالقياس (المبني على مصدري التشريع من قرآن وسنة نبوية) ، إذ كان يعد نفسه هو "الوارث" للنبي محمد وخليفته من بعده، وكان يزعم أنه على اتصال مباشر به بـ "الحضرة ".
ولعل المهدي قد قصد من هذا الزعم أن يخرج نفسه من دائرة النقد من العوام ومن تحكم العلماء أيضا. وبعبارة أخرى كان المهدي ينسب الأحكام الوضعية التي يفتى بها للإلهام الذي يتلقاه من النبي محمد مباشرة، وهي بالطبع أحكام لا تخضع لإجماع الفقهاء كما تقتضي نظرية القانون الاسلامي.
ويذكر هذا الوضع بما حدث من منافسة قديمة يعود تاريخها لسنوات العهد الإسلامي الأول بين "أهل الرأي" والذين اشتهروا بإعمال القياس والمنطق أكثر من غيرهم، وبين "أهل الحديث" والذين تميزوا بالاهتمام بالأحاديث المنسوبة للنبي محمد والتي بها يفرضون آرائهم في النزعات القانونية بين الفقهاء.
ويبدو كذلك أن "الإلهام" عند المهدي يفوق في المرتبة الأحاديث النبوية، لأن الإلهام (بعكس ما هو الحال مع الأحاديث) يستحيل أن يتطرق شك في صدقيته وموثوقيته بما يعرف بعملية "الجرح والتعديل" بالقدح في رواة الحديث أو القول بعدم مصداقيتهم.
أما فيما يتعلق بمنهجية المهدي القانونية، إن كان لنا أن نعيد تصور تشكيلها هنا بناءً على الأحكام التي أصدرها المهدي، فيلاحظ الغياب الكامل فيها لكلمتي "العرف" و"العادة"، على الرغم من أن عادات وتقاليد المجتمع السوداني القبلي الطابع تتحكم في كثير من أمور الحياة في البلاد.
ولكن هذا ليس بمستغرب إذ إنه حتى في النظرية الكلاسيكية للقوانين الإسلامية لا تكاد تجد للأعراف أو العادات موضعا كمصدر رسمي وأصيل للقوانين على الرغم من أهمية مساهمتها في التطور المادي للقانون الإسلامي.
وقد يعزى هذا الأمر لحقيقة أن النظرية الكلاسيكية لم تلق بالا للجوانب التاريخية، بل كانت مهتمة فقط بالجوانب المنهجية للقانون الإسلامي.
وكما هو متوقع لم يكن الفقهاء على استعداد لقبول الاعراف والعادات (والتي تتأتي من السلوك الاجتماعي للبشر) ومساواتها بالنصوص الخالدة المتمثلة في القرآن والسنة النبوية.
وكذلك كان لاعتماد الأعراف والعادات كمصدر للتشريع أن يسلب الفقهاء القدرة على التحكم، وأن يقوض طبيعة القانون الإسلامي كـ "قانون فقهاء". ولكن في الوقت ذاته يمكن القول بأنه من المحتمل أن لا تكون العادات قد اختفت تماما من الشريعة في نسختها المهدوية كما هو الحال مع الشريعة التقليدية (الأرثودوكسية) والتي استوعبت العادات والتقاليد بآلية الاجتهاد.
وبعبارة أخرى كان الفقهاء يصوغون أحكامهم القضائية الجديدة بناءً على سوابق قضائية من المصادر النصية آخذين في الاعتبار الضغوط الاجتماعية الآتية من القاعدة الشعبية. ومن البدهي أن تأثير العادات والتقاليد على القوانين الوضيعة التي صاغها المهدي وفق احتياجاته السياسية والاجتماعية يمكن تمييزه من البيانات والأحكام والاجتهادات والقرارات القضائية التي أصدرها، والأقوال التي نسبت له بعد وفاته. وفي هذا فالمهدي يحاكي السنة النبوية المتمثلة في أقوال النبي وأفعاله.
ويمكن تلخيص الأمر بالقول أننا بصدد نسخة متفردة من الاجتهاد الشخصي المعتمد على المصادر النصية، وعلى الإلهام، وليس على القياس كما تقتضي أصول النظرية الكلاسيكية. ويضفي هذا النوع من الاجتهاد على المهدي قدرا من "حرية التصرف" أوسع مما هو مسموح به في التفكير القياسي.
بالإضافة الى ذلك فقد كانت أحكام المهدي (وخلافا لما تقتضيه أصول الاجتهاد) فاصلة ونهائية لا يمكن الغاؤها، وليست ظنية تنتظر إجماع العلماء، بل لقد وصف أحد أتباع المهدي الرجل بأنه "معصوم من الخطأ" نسبة لتلقيه الوحي مباشرة من النبي (كان مرجع الكاتب لهذه النقطة هو الشاعر (و"العالم الثائر" بحسب وصف أ.د. ابو سليم، والمولود ببربر الحسن بن سعد بن محمد العبادي في ما كتب في "الأنوار السنية الماحية لظلام المنكرين على الحضرة المهدية" في عام 1888م).
تأثرت منهجية المهدي القانونية دون شك بالحركات الاصلاحية والتجديدية في جزيرة العرب (مثل الحركة الوهابية) وشمال أفريقيا (مثل السنوسية) في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، على التوالي، وكذلك بعدد من "العلماء" الذين قابلهم كفاحا، أو من الذين قرأ لهم في سنوات تكوينه الفكري الباكر.(لعل الصحيح عند غالب المؤرخين هو تأثر المهدي بالغزالي وابن عربي وليس بالفكر السلفي التيمي القيمي الوهابي).
وربما كان ذلك الإلهام منقولا عبر وسطاء مثل عبد الله الدافوني (؟) والذي لعب دور الوسيط بين المهدي والشيخ الصوفي المغربي أحمد بن إدريس، وعلم المهدي أوراده وأحزابه قبل أن يعلن أنه "المهدي المنتظر".
alibadreldin@hotmail.com