من أجل استفتاءٍ “سلس” وليس “سلسيوني”

 


 

 


•    لنكن في الشمال سلسين و ليس "سلسيونيين" و لنتعامل مع أمر الوحدة/ انفصال بلباقة و لياقة و ليس "لواقة"
•    لو أن بعض الإستفتاءآت تجرى لتقرير المصير، فإن استفتاء الجنوب ليس أكثر من إجراء شكلي حول مصير قد قُرر و هيهات هيهات أن تدور  عقارب الساعة إلى الوراء.
*****
قال لي صديق أجنبي عندما عرف أن من أكلاتنا الشعبية المفضلة "الويكة" بكل أشكالها و أن  السودان ينتج و يصدر، أو كان ينتج و يصدر، أكثر من تسعين في المائة من صمغ العالم، قال لي مداعباً، " الآن عرفت لماذا أنتم شعب sticky " أي لايوق أو بعبارة أخرى لزج، لصِّيق أو لصوق كما تترجمها بعض القواميس.

تذكرت ذاك الصديق و أنا أتابع كيف أن الكثيرين من الشماليين يؤمنون بوحدة السودان إيماناً يقينياً مطلقاً لا تخالجه ذرة من شك و يدعون لها في إخلاص و بتجرد و لا يترددون في أن يبذلوا من أجلها النفس و النفيس، كما فعلوا في الماضي، و كيف أن بعضهم أصابته حالة من الحزن العميق و الاكتئاب الشديد لمجرد إحساسه بأن انفصال الجنوب صار حتمياً و وشيكاً على الرغم من أن الكثيرين من الجنوبيين يقابلون ذلك بنفورٍ شديد و امتعاضٍ  متناهٍ و يبذلون كل ما أوتوا من جهدٍ رسمي و شعبي، في الداخل و الخارج بالحق و بالباطل، لجعل انفصال جنوب السودان أو استقلاله أو تحرره - ليس المصطلح ذا أهمية في هذا المقام - أمراً حتمياً بل واقعاً و خياراً لا بديل له أو تراجع عنه.  ليس ذاك فحسب، فالكثيرون من الجنوبيين، لا يمقتون شخصاً مثل مقتهم من يتحدث عن الوحدة و يدعو لها لا يفرقون في ذلك بين الجاد و المتصنع، الحاكم و المعارض، اليساري و اليميني، الجنوبي و الشمالي، السوداني و غير السوداني و لا يهمهم عن أي شكلٍ من أشكال الوحدة يتحدث. جدير بالذكر في هذا المقام أن الكثيرين من الجنوبيين، خاصة المتطرفين في دعوتهم للانفصال، يكنون أيضاً الكثير من الحقد و الكراهية المطلقة لدعاة الانفصال في الشمال متجاهلين في هذا أنه مهما كانت دوافع أولئك فأنهم يشاركونهم وحدة الهدف، إن لم يكن الصف، و أنهم يدفعون المركب في الاتجاه الذي يريدون ألا وهو فصل الجنوب عن الشمال.

علاوة على ما تقدم،  هناك علاقة طردية بين دعوة بعض الشماليين للوحدة و سعيهم إليها و دعوة بعض الجنوبيين للانفصال و سعيهم لتحقيقه. كلما دعا الوحدويون الشماليون اخوتهم في الجنوب إلى الوحدة ليلاً و نهارا و كلما دعوهم جهارا أو أسروا لهم إسرارا  و وعدوهم بان يرسلوا عليهم أموال التنمية مدرارا و يمدوهم بأموال و يجعلون لهم جنات و يجعلون لهم أنهارا، لم يزدهم دعاؤهم إلا فرارا و جعلوا أصابعهم في آذانهم و استغشوا ثيابهم و أصروا و استكبروا استكبارا.  

لقد قالها الجنوبيون على كافة المستويات و بكافة الصيغ و الأشكال، بالرمز و بالواضح، بالإنجليزية و العربية و عربي جوبا، في المنتديات المحلية و الأجنبية، في الداخل و الخارج، للعدو و الصديق، للوسيط و السليط، همساً و صراخاً، قالوها و هم يضحكون و هم يبكون، باسمين و مكشرين، مستخدمين وسائل الإقناع و قوة المنطق و مهددين بمنطقة القوة، مسترحمين متوسلين و منذرين متوعدين، قالوها بكل ما أوتوا من قوة و أحصوا من سبل و وسائل و اتبعوا قولهم بالعمل بأن مضوا قدماً و قطعوا خطوات بعيدة و متقدمة استبقوا بها الزمن و الأحداث في إرساء دعائم دولتهم الجديدة: حدوداً و علماً و عملة، شعوراً قومياً عارماً و شعاراً، جيشاً عرمرماً ذا عدة و عتاد و نشيداً و ممثلياتٍ  بالخارج، قالوها لا نريد وحدة مع الشمال..... و لا تزال في أبصار بعض الشماليين غشاوة و في آذانهم وقر و "عليهم لواقة ما حصلت".

لقد ظلَّ الجنوبيون يناضلون لأكثر من  خمسين عاماً للوصول إلى ما أضحى في متناول يدهم، و واهم من يعتقد بأن نضالهم كان من أجل غير ذلك. حاربوا بالسنان ببسالة في الجنوب و بذلوا في الخارج بالبنان و اللسان جهوداً جبَّارة جعلت العالم يرى السودان شماله و جنوبه، ماضيه و حاضره و مستقبله بعيونٍ جنوبية. وقَّع الشمال معهم اتفاقاً خصَّهم دون غيرهم بحق تقرير المصير، و هراء و سذاجة إلى حد البله و غرض لدرجة المرض من يدَّعي أن ذلك كان مقروناً بترجيح خيار الوحدة. لعلنا كنا أغبياء و غافلين حينما قبلنا بذلك أو لعلنا قبلناه على سبيل المغامرة و المقامرة بل ربما وافقنا عليه صاغرين و مكرهين غير أنه لا شيء من ذلك يبرر الحنث بوعدنا و عدم الوفاء بعهدنا أو النكوص عن التزامنا. لقد كانت تلك الممارسات من بعض مآخذ الجنوبيين علينا و عوامل فقدانهم الثقة فينا، و مثلما جنوب اليوم لم يعد ذلك الجنوب الذي يتحمًّل مثل تلك الأساليب ليت شمال اليوم يكون شمالاً يترفع عنها، و لنكن من أولي الألباب الذين يتذكرون و يوفون بالعهد ولا ينقضون الميثاق، عسى أن ينفعنا ذلك في يومٍ غير بعيد و عسانا لا ننسى في الشمال  و الجنوب الفضل بيننا و أن يتبع ذلك تراض و لو بعد حين على الوحدة بالمعروف.

يدَّعي بعضنا أن الجنوب لا يملك مقومات الدولة  دون أن يوضِّح ما هي تلك المقومات و كيف أن الجنوب لا يملكها و ما دخلنا نحن إن لم يكن كذلك أو يتساءل هل نملك نحن، مَنْ يصفنا الغير بالدولة الفاشلة أو الآيلة للسقوط، هل نملك تلك المقومات؟ يفيد البعض بأن الجنوبيين سوف  يتطاحنون و يدقون بينهم عطر منشم في دولتهم الجديدة. مرة أخرى، ما شأننا بذلك ثم ألسنا نفعل ذات الشيء في الشمال؟ يخشى البعض من تغلغل إسرائيل في الجنوب و كأنما إسرائيل لم تتغلغل إلى الشمال منا و الشرق و الغرب منذ أمدٍ بعيد أو كأنها ليست صديقة لأقرب أصدقائنا، ثم حتامَّ سنكون ملكيين أكثر من الملك و فلسطينيين أكثر من السلطة الفلسطينية و عرباً أكثر من العرب العاربة و المستعربة؟   

نعم يُعاب على الجنوبيين أنهم سعوا لإرهاب و إخراس دعاة الوحدة في الجنوب و جعلوا خطاب الانفصال هو الغالب و خياره هو السائد. ليس ذاك فحسب إذ إن مناصريهم في الشمال سعوا لفعل ذات الشيء في الشمال، و حيث الغاية تبرر الوسيلة لتذهب الديمقراطية و حرية التعبير إلى الجحيم.  ثم ألم نسلك ذات الدرب في التعامل و لو بدرجة مختلفة و لدوافع مغايرة مع "انفصالي" الشمال؟

نعم هناك في الجنوب و في الشمال وحدويون، صوفيون في وحدويتهم و الوضع الأمثل أن تتاح لهم كافة الفرص لأن يبشروا بما يؤمنون به حتى اللحظة الأخيرة عسى أن يكون عزاؤهم أن يجدوا في أيديهم إذا ما انجلى الغبار و غيض الماء قبضة من قناعة أنهم لم يألوا جهداً و لم يدخروا وسعاً للإبقاء على السودان موحداً، و لعلهم لا يبخعون أنفسهم إن لم يؤمن البعض بحديث الوحدة أسفا أو تذهب أنفسهم عليهم حسرات ثم عليهم أن يتمثلوا قوله تعالى "وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته، وكان الله واسعاً حكيماً". و العد التنازلي لإجراء الاستفتاء قد دخل مراحله الأخيرة، ربما يهيئ وحدوي الشمال و الجنوب لما هو آت أن يعوا أن الاستفتاء القادم ليس سوى "تحصيل حاصل" و لو أن بعض الإستفتاءآت تجرى لتقرير المصير، فإن استفتاء الجنوب ليس أكثر من إجراء شكلي حول مصير قد قُرر و لن يدير عقارب الساعة إلى الوراء.

ليبشر بالوحدة من شاءها  و رأى فيها خيراً و ليبشر بالانفصال مَنْ قناعته أن فيه خيراً للجنوب و
الشمال لكن على الفريقين أن يسعيا من أجل استفتاء "سلس" و أن يكونا مهيأين لقبول و دعم نتائجه مهما كانت.  لنكن في الشمال سلسين و ليس "سلسيونيين"* و لنتعامل مع الأمر إستفتاءا  وحدة أو انفصالاً بلياقة و ليس "لواقة". إن فشلنا في أن نمسك الجنوب بمعروفٍ فلنسرحه بإحسان، وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا.
*****
 

* السلسيون مادة لاصقة كان من أشهر استخداماتها "البريئة" في السودان رتق ثقوب إطارات الدراجات.   
 

IHAIMIR@aol.com

 

آراء