من أجل بقاء الامة: (شُرفة الانتقال من الفوضوية إلي الديغولوية)

 


 

 

 

لا يتحرك الشاقول من أقصي اليسار (1970م) إلي أقصي اليمين (1990م)، أي في فترة عقدين فقط، دون أن يكون لهذه الحركة تداعيات سلبية علي الصعيدين السياسي والاجتماعي. خاصة، إذا أدركنا بأنها حركة مفتعلة من النخب التي لم تجد بداً من تأجيج الصراعات العسكرية لتحقيق رؤاها الأيدولوجية مستفيدة من قدرة الدولة الكونيالية (الإستعمارية) الهائلة علي إحداث الدمار في أماكن لم ترتسم علي وجدانها قدر إلتصاقها بذاكرتها الإنتخابية، ومعتمدة علي عجز الريف (بمعناه الجغرافي والاجتماعي) علي بلورة رؤي سياسية فكرية خاصة في ظل الحصار الذي تمارسه سلطات المركز العسكرية والأمنية.

 

إن فشل المشروع الإيدلوجي من شأنه أن يدفع النخب نحو التوسط (ويوقظ أخري ظلت خاملة حتي حين)، ويجعلها توقن بأهمية الإنبثاق للمشروع التنموي من القاعدة. سيما أن الجماهير قد أصبحت سيدة الموقف وراعية الطلب في التنمية، الحرية والرخاء.

 

السؤال: هل حدث هذا الإنقلاب المفاهيمي بالرغم عن الثورات الدموية التي إجتاحت الأرض السودانية (والغبن الذي غبَّر فضائها)، أم بسببها؟

أي الديمقراطيات أفضل لمغالبة الهوة الرأسية بين النخب والعامة، وتلكم الأفقية بين الريف والمركز(الديمقراطية الفدرالية، الديمقراطية الدينية)؟

ما هي السبل المؤسسية، التربوية/التعليمية، والإعلامية والمدنية اللازم إتخاذها للمحافظة علي هذا المزاج التوسطي؟

 

لقد امضيت عقدين في العمل الاستشاري والميداني محاولا إستكناه العلاقة بين السلطات المحلية، الإقليمية، والمركزية. لم تكن هذه المهمة هي الايسر، كما لم تكن الفترة (2012 – 2005) هي الارشد لان انفصال الجنوب وحرب الابادة العرقية في دارفور وما عقبهما من تداعيات، جعل كآفة الكيانات في حالة تشتت أفقي واختراق رأسي، ولعلها مازالت.

 

لكنها، أي هذه الفترة، كانت الامتع إذ حفزتني على التعامل الحيوي والمباشر مع جموع المتضررين وآحادهم، السماسرة والمستفيدين الحقيقيين من واقع التشظي السياسي والاداري، لا سيما المصممين علي إطالة أمد المحنة . بمعنى ان هذه المقالة اعتمدت على تقصي الحقائق واستقصائها من مصادرها الأولية (Primary Sources) في لحظة الحدث، وهذا ما يكسبها السبق، قبل التفرد.

 

بالرغم مما قد تحدثه مثل هذه الاحداث الجسام من إرباك مفاهيمي، فإن هناك صوت منخفض أو بصيرة تنبئنا بأن هذه التداخلات تخضع لدينامية يمكن تفسيرها رغم سيولة الواقع وتأبّيه على التشكل.

 

قد كان دأب الانقاذ تثوير مكونات الهوية لتصبح تناقضات وتفعيلها حسب ما تقتضي الحاجة. ربما نظرت يوما إلى مجتمع السودان (دارفور خاصة) فوجدته متجانساً، فلم تجد بداً من الاستقواء بالأقلية ضد الاكثرية، بالرحل ضد المزارعين، بالزرقة ضد العرب، إلى أخره من التضاد (منها ما هو وهمي ومنها ما هو واقعي)، فأحالته الي ذرات وقد كان هيئات، مستغلة هشاشة التكوين الاقتصادي والاجتماعي ومستخدمة تهافت النخبة (فلا تكاد توجد مجموعة مسلحة ولا هيئة سياسية قومية ألا وقد نجح النظام في استخدامها ضد الاخرين في فترة من الفترات)، التي لم تصعد جماهيريا ولم تنتخب مؤسسيا، إنما انبثقت عشوائيا وامتثلت ميدانيا نتيجة "اللا توازان الأخلاقي والفكري في الحياة الاجتماعية."



بعيداً عن الفرضية الممسكة بأن الهوية -- ومن ثم العنصرية -- هي جبهة الصراع السياسي، الايديولوجي، فإنني أقول بأن الهوية التي من المفترض ان تكون مشروعا ثقافياً تفاوضياً أصبحت مادة تستغلها مجموعة ضد أخرى، حتى ان بعض القيادات فقدت حيويتها، بل لم تنتبه إلى مجرد تمركزها العرقي والعنصري (وليام. د. هارت، ادوارد سعيد والمؤشرات الدينية للثقافة).

 

في غياب موجه اخلاقي، فكري وفلسفي جلي، أري أن نهيئ أنفسنا لحالة من التوهان وألا نُمني انفسنا بالانتقال السلس من الفوضوية الي الديمقراطية. الأدهى، اننا قد نستبدل "مستبدين" بأخرين، لا سيما أنه قد لاحت بارقة الخلاف بين ابناء الهامش مستندة على وقائع شخصية وليس فكرية او تنظيمية تسترعى همة الحداثة أو التطور الذي بتنا نتطلع إليه.

 

من غير المنظور للشعب السوداني ان يحدث اختراقاً إذا لم تستطع قيادته الفكرية والميدانية فعل الآتي :

كشف الزاوية المعتمة في تفكير النخب المركزية (الأيديولوجية منها خاصة) والتي لا تعترف بوجود منظومة -- غرس لها المستعمر غرساً -- فيها من التقاطعات الثقافية، الطائفية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية ما هيئ لها تسود المشهد السياسي دونما وجود ادني مقومات مادية، بشرية أو حتي فكرية، إنما فرية الاستحقاق التاريخي. وذلك منذ قيام دولة سنار المُحتفى بها، رغم إنّها الفترة التي تكرست فيها كل الخصائص السالبة في الشخصية السودانية (العنصرية، الإنتهازية، التواكلية، الي أخره)، والتي ما زالت تعيق إمكانية النهضة القومية.

 

فضح ممارسة اليمين السوداني الذي أدعى احتكارية مطلقة طيلة نصف القرن الماضي فيما يتعلق بتنظيم المجتمع مسقطاً نجاعة الحلول التجريبية الاستنباطية التي تؤسس لشرعية الاختلاف ومشروعية الحوار، تقنن لمبدأ الاعتراف بالحقوق الجماعية والحرية الفردية، وتتجاوز الحلول النخبوية أو تلكم التلفيقية إلى حلول قد لا يكون الباعث عليها "دينياً"، إنما عمليا يحفظ للمجتمع توازنه، سلمه وعدله.

 

مقاومة الاندفاع وراء ادعاءات النخب المركزية التي باتت تتحرك اليوم بدافع الخوف الذي قد يستحث اليمين الخروج من خندقه الإيديولوجي للتوافق مع يسار لا يجرؤ على انتهاك فضاءه الاجتماعي، الأرستقراطي والبرجوازي، وقد اعلن أحد زعماء التجمع الوطني الديمقراطي أيام العصيان المدني، بأنه "استعاض عن الحوار مع الحكومة بالحوار مع الشعب". هل يشمل مفهوم الشعب الاحزمة المحيطة بالخرطوم وام درمان ام إن مخيلته لا تتجاوز الملازمين وبيت المال حيث كانت تقام ندوات الحزب الشيوعي؟

 

كي تكتسب الثورة قوة دفع ذاتية (مدنية وشعبية)، لا بد من وجود قدرة لدى النخب (نخب الريف) لتجرع المرارات، تجاوز الثنائيات ومن ثم نزع فتيل العداوات. فإن النظر إلى مسرح الاحداث اليومي ينبئنا بعبثية التطور التاريخي وبقدرة إنسان الريف على تدمير ذاته ونفي إنسانيته، خاصة إذا فقد الأمل في مستقبل ارحب.

 

درء "الغرابة" تهمة العنصرية عن أنفسهم وذلك بتفنيدهم مثل هذه الحجج عمليا وعلمياً. من هو العنصري: الاقلية التي سعت لضرب التماسك الوجداني للشعب السوداني أم الأكثرية التي تطالب بحقوقها الشرعية ومستحقاتها الدستورية؟

 

ذلك كله ممّا سهل إمكانية عقد تحالفات استراتيجية مع كآفة قوي الهامش الجغرافي (الذي ومن عجب تمدد ليشمل كل أنحاء السودان، ابتداءً من غرب أم درمان) والهامش الاقتصادي (اولئك الفقراء الذين أحصروا داخل المدن والذين لا تعبه بهم النخب إلا حال التعبئة السياسية)، تمهد الطريق لديمقراطية فدرالية تقطع الطريق علي الديمقراطية الدينية أو تلكم الليبرالية المتسيبة.

 

في كل الاحوال سيظل "الليغ السياسي القديم" رغم فشله وجرمه متمسكا بحقه القدسي في تصريف الامور ما لم تتخذ إجراءات مؤسسية صارمة لا تمعن في إبعاده انما تحرص علي عدم إعطائه اكبر من وزنه -- الامر الذي لا يمكن ان يحدث توافقيا مثلما حدث في جنوب افريقيا لأسباب كثيرة منها غياب الوعي، بؤس التنظيم، الانشطار القاعدي والرأسي، فقدان القيادة، ضمور الاهتمام العالمي وتبعثر الهم الاقليمي، الي اخره؛ واذا حدث قسرياً كأن تجتاح الخرطوم عسكرياً من قبل قوي الهامش فإن تداعيات الانقلاب الاجتماعي ستكون خطرة ايما خطورة خاصة أن الدولة العنصرية قد نجحت في تعبئة السكان المضطربين اليائسين والذين لا يوجد خطاب حتي الان كالذي قاده قرنق بفكاهته وعبقرتيه لتطمينهم وتسكين قلقهم الوجودي.

 

أو كما يقول أحد الأدعياء الذين انتدبتهم الإمبريالية الإسلامية للتصدي الإعلامي عشية انتصار عملية الذراع الطويل ووصول خليل إلى الخرطوم. وإذ فقد مزية السمسرة التي احترفها هو واسلافه في التلويح بالمعسكر العقدي --المكون من ذات المجموعات القبلية-- متما اعترضتهم عقبة سياسية، فقد خرج هذا الدعي مندداً بخطورة التعدي على حرمة ام درمان و شاجبا استخدام القوة في حسم الخلافات السياسية (كأنما الطيران الذي يحلق في سماء دارفور -- شمالاً وغرباً -- يقوم بطلعات استعراضية وليس استطلاعية حربية)، علما بأنَه أول من قَوَّض المؤسسة الحزبية واعدم التدافع كوسيلة قادرة على جبر الضرر السياسي واداة ناجعة في تلافي التمزق العرقي والمجتمعي.

 

لقد جاءت الإنقاذ مبطلة حيل الابتزاز الطائفي ومفندة هذا النوع من أنواع المقايضة (السياسي بالعسكري والعكس) إذ لم تر بداً من استخدم القوة عارية ودون الحاجة لإيجاد أي مبرر أخلاقي، فجعلت "الصبيان" أوصياء على أنفسهم مختصرة المسافة المعنوية والمادية، ومُعلية من مبدأ "أمسك لي، اقطع ليك!" لكنها وللأسف، وصاية دون وجهة وولاية دون قبلة.

 

أمّا من أرتضي لنفسه الهوان من الطائفيين فقد عزمت الإنقاذ الّا توفر له اي غطاء أخلاقي أو حجة يحفظ بها ماء وجهه. ولننظر الي مسرحية "إطلاق المعتقلين" وفيديو "المؤتمر الصحفي" الذي عقده السيد مساعد رئيس الجمهورية مؤخرا ليبرهن لأتباعه، أو للشعب السوداني، أنه جزء أصيل من السلطة (وليس حامل بريد مهمته إيصال الشيكات إلي والده) علي أحسن الفروض، أو إّنه يعتني باتباعه الخُلص --هؤلاء الذين آثروا مؤازرة جيوش البغي في ظواهرهم، بل قمعوا وازع الوعي في بواطنهم-- علي أسوأها.

 

الجدير بالذكر ان الكهنوت لم يلجأ إلى الموادعة واستخدام لغة "الجهاد المدني" إلا عندما سلّ الغرابة (جنده المخلصين وخدامة الوادعين) ايديهم منه، لكنه ظل مستريباً لا يجرؤ على شجب الجرائم التي ارتكبت في حق إنسان الريف، على الأقل ليس بهذا الوضوح والمستوى العالي من الإبانة التي سمعناها وقرأناها مؤخراً حتى أيس من امكانية توظيفهم لاستعادة ملكه -- ملك يحسن المطالبة به ولا يحسن الحفاظ عليه (كالبواكي يذكرن مآثر الفقيد ولا يحسن المطالبة بقسمة في ميراثه). أو إنه آثر بقاء الملك في أيدي العصابة واستحواذه علي الفتات من المغنم.

 

لم يقدم الكهنوت فيما اقدم عليه من باب المفاضلة الاخلاقية عندما شجب قوات الدعم السريع قبل أعوام مضت دخل علي إثرها السجن وهرعت حينها النخب المتواطئة للدفاع عنه، إنما حرصا على النادي القديم وسلامة اعضائه من متطفلين (غير منسجمين عرقيا مع مجموعته التقليدية)، قد يسهموا في تغيير قواد اللعبة. ولذا فهو يغلب العنصرية والمفاصلة العرقية علي التداول السياسي الحيوي كما لا يجد جدوى في محاولة التعرف على بعض الميزات التفضيلية لجند الريف الزاحفة.

 

ما أود أن أقوله هنا ان الكهنوت لا يفرق بين "الغرابة" كآفة إلاّ هم بالنسبة له رعايا شبوا عن الطوق فيلزم ارجاعهم بكافة الوسائل إلى الحظيرة. وإذ ظل مستقوياً بالسلطة والمال حتي كاد ان ينجح في اقصاء كافة خصومه السياسية ومستبدا بلغ به الاستبداد درجة ان يقول لطلاب حزب الامة "الما عاجبو الباب بفوت جمل"، فقد ابتلاه الله بقوم يدرئون السيئة بأسوأ منها وقديما قيل: من لم يرعوى بقول الكريم، ابتلاه الله بسيف اللئيم.

 

كل على طريقته، الكهنوت (الطائفية البغيضة) والطاغوت (الإنقاذ المقيتة)، قد استثمرا محنة الشعب السوداني بإطالتهما امد النظام دون ان يصيب ايهما وخز او تدركهما ساعة افاقة تكون مدعاة للتفكر في عاقبة الامور. فلن تغني الانقاذ عن المليشيات كآفة، الا كما اغنى حزب البعث عن التكريت، والجاهل لا يعذر بجهله. اما الكهنوت فقد اضله الله علي علم وختم علي سمعه وقلبه وجعل علي بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله، افلا تذكرون؟

 

بلي، ان الشعب قد تذكر وادرك هذه المسرحيات التي يعدها جهاز الامن (والاجهزة الغير المرئية الأخرى) وتخرجها النخب المركزية، هذه المرة بدافع الخوف إذ احست بأنها باتت محاصرة في مثلث ذي ثلاث شعب (ضمير وعقل وقلب): الوعي الجمعي الذي تمثل في تجاوز الثنائيات المخلة، الاستنارة التي استلزمت استخدام العقل وليس العاطفة وسيلة الي الحلول، واليقين الراسخ يقرب النصر المؤزر بامتثال كل المجرمين والسرقة والمارقين للقصاص (حبذا في ميدان أبو الجنزير).

 

وإذا ما اشتعل الفتيل فإن فتنة ستحدث من شأنها ان تقضي على الاخضر واليابس؛ لعله المطلوب كي يستطيع الشعب اقتلاع شجرة الافك من بذورها ويعمل لبناء دولته علي اسس ليبرالية وعقلانية -- هي ذات الاسس التي نادي بها الوطن الاتحادي ومن قبله مؤتمر الخريجين قبل ان تمارس عليه قيادة حزب الامة ضغوطا ارهابية مستخدمة "الغرابة" وبعض "الاوباش" الذين استغنت عنهم اليوم بحجج براغماتية ونرجسية ذاتية.

 

وها هو السودان اليوم يجني حماقات اليسار واحقاد اليمين، وبلاهة الطائفية وطمعها، بل ومجونها وجنونها الماثل في تواطؤها مع الامبريالية الإسلامية في كل لحظة وحين. فما انفراط العقد الاجتماعي الا نتيجة لحل الادارة الاهلية وما انتشار السلاح الا احدي الوسائل التي ابتدعتها الامبريالية الاسلامية لخلق "فوضي خلاقة" في الريف. في الوقت الذي يقتتل فيه اهلنا في الشهر المعظم والمحرم، شهر رمضان المكرم، يحتفل الاسلاميون بإنجازاتهم في إحقاق سلام لم يتجاوز حدود (سلام روتانا) وانجاز ثورة كانت وبالا علي القارة بأكملها. وليهنئوا الي حين فقد باتوا تحت رحمة من لا يرحم، وإذ ضاقوا يوماً بأشرافنا فإني لأحمد الله أن قد ابتلاهم بشرارنا. فمن الأمور ما يردع بحكمة العقلاء ومنها ما يقرع بجهل الجهلاء.

 

إن ما حدث في دارفور وفي الريف كآفة عبارة عن تثاقف سلبي نتج عن غياب آليات ومؤسسات التثاقف الإيجابي. إن مايو الشيوعية قد حلت الإدارة الأهلية، أما الإنقاذ الإسلاموية فقد أدلجتها حتى بلغ من سخفها أن استصدرت ألقاباً لزعماء العشائر يتمشى مع إرث الدولة العباسية الذي تبلور في كنفها الفقه الإسلامي السائد اليوم فكان أن استحدثت لقب أمير لشيوخ القبائل العربية التي كانت بالأمس قانعة بفعلها قبل رسمها وشكلها. إن محاولة الاستلاب الثقافي وما قبلها حرمت إنسان دارفور (نحن نقرأ عن أبطالنا في بلاد الفرنجة) فرصة التعرف على ذاته ومن ثم صعب عليه التواصل مع الآخر.

 

إن بعض زعماء الحركات أو حتي الجانجويد (وذلك قبل أن يدخل كلا الفصيلين في السلطة ويتماهوا مع بريقها)، كان يتكلم حتي حين عن "الجلابة" وكأن الأخيرين لم يساهموا مساهمة فاعلة في تشييد سلطنة الفور، ويتكلم عن العرب وكأنهم لم يهرقوا على أرض دارفور دماً ولم يمزجوا بثراها عظماً ولم يشيدوا عليها بروجاً وروباً. هذا التوظيف السلبي لمقومات الشخصية الدارفورية سببه جهل القائمين على الأمر لعلاقة الهوية بالأرض. إن الأرض باتت هي الهوية، لدرجة أن بعضهم زعم تقمص الأرض لخصائص النفس البشرية فدرج على مقولة (شم التراب)؛ كلمة تقال للتوبيخ والإنذار. (هذا الأمر يختلف عن الفلسفة البوذية التي تزعم أن البشر قد صهروا من أراضيهم حتى يشتاقون إليها اشتياقهم إلى ذواتهم).

 

من المعلوم، أن دارفور خاصة والريف عامة تولى أمرهما في عهد الإنقاذ أناس تنقصهم الخبرة الإدارية والحكمة السياسية، والأخطر أنهم قدموا من أقاليم فيها نوع من الانسجام العرقي فلم يفطنوا أن التلاعب بالديار (أي الحواكير) يترتب عليه تشنج في أمر الهوية، خاصة أن الإقليم تزدحم فيه مجموعات أفريقية مستعربة وأخرى عربية (متأفركة)، ولعل هذا الاحتكاك هو الذي ولد ناراً كادت أن تحرق الجيران. والأن تركت "لأبنائها" كي يعيثون فيها جهلاً وفساداً واحتراباً.

 

يل إن مواطنيها بعد ان نزع سلاحهم فاصبحوا تحت رحمة عصابات النهب التي أقتادت مؤخرا ما لا يقل عن 600 جمل وقتلت 8 من أصحابها قبل أن تهرب الي تشاد. وإذ تنعم هذه المجموعات بحماية دبي وقبيلته فإن دولة الإنقاذ الفتية و"جيشها القوي" لا يقوى علي ردعها أو حتي تتبعها.

 

إن حرب الجنوب لم تضع السودان على محك الهوية مثلما تفعل دارفور، لأن المعركة في الجنوب سُوِّق لها تارة على أنها حرب بين سيد وعبد، وتارة بين مسلم ووثني، أمّا دارفور فقد كشفت عورة المثقف إذ تكفلت بحمل المرآة التي يجب أن يرى فيها الأخير انفصام شخصيته واضمحلال هويته إذا ما هو استمر في تلكم المماحكة وذلكم التكلف. وإذ نحن بصدد التكلم عن الهوية فلا بد أن ننتبه إلى أن الثقافة (بمعنى التكوين، التربية الوطنية، والممارسة السياسية السليمة) هي المعول الذي يمكن أن تستعيد به الهوية مرونتها وحيويتها، حينها ستتسع الأرض لحمل وليس فقط احتمال قاطنيها.

 

وهذا ما قاله وما اتفق عليه رجال الإدارة الأهلية في كثير من الورش، وفي ورشة أقامتها إحدى منظمات الأمم المتحدة قبل أعوام بفندق غراند فيلا التي ابتدرها عمنا المرحوم الناظر أحمد السماني (ناظر الفلاتة): "الناس لو إطايبت الأرض بتشيل". لقد قلت سلفاً بأن حل الإدارة الأهلية قد خلق فراغاً، لكن لا يفهم من كلامي أن إرجاعها فقط كفيل بملء هذا الفراغ. هنالك تدابير مؤسسية ودستورية لزم أن تستحدث لمعالجة الإحتكاك بين القوة التقليدانية والقوة الحداثوية، بين نظام الحكم المحلي والإدارة والأهلية، وبين الثوار والأخيار (قادة الحركات والمجتمع المدني).

 

إن عملية (فك الاشتباك) هذه هي في حد ذاتها تعتبر دورة تثاقفية لأنها تحث الكل لمراجعة قيمه التي تحكم علاقته بالآخر. ولعمري هذا هو التثاقف الذي بغيره تستحيل الثقافة إلى بهلوانية لا تزحزح الثوابت ولا تغير المرتكزات. إن النداء لنا جميعاً - نحن معشر المثقفين - أن نتصل بالثقافة الشعبية (ثقافتنا الأم) تلكم الذات العبقرية، التي ستلهمنا حتماً محجة التقدم وبراهين الاعتدال. فلا يمكن مطلقاً، - بل لا يستقيم عقلاً - أن نسعى للتثاقف (الذي أدرجه اتحاد الكتاب السودانيين كشعار في إحديي دوراته) دون أن نتثقف، وأن نتثقف بثقافة الأرض المعطاءة والشعب الحنون.

 

إن الاستقطاب الأيديولوجي الحاد والذي تسبب فيه الشيوعيون والإخوان المسلمون (لا تهمني التسميات الجديدة فأهلنا قالوا: "أم الكلب بعشوم")، قد حرم المثقفين من التثاقف فيما بينهم ومن ثم أعجزهم من الوصول إلى الوسط (الأيكولوجي) الذي تنتمي اليه غالبية جماهير الشعب السوداني. كلنا يعي تماماً الأسباب البنيوية (تحالف القوة التقليدانية مع الاستعمار ضد العلمانية الوطنية الداعية إلى الاستقلال، تحالف القوى اليمينية مع الإمبريالية ضد قوة اليسار في أيام الحرب الباردة، والآن وفي حرور الحرب على الإرهاب تسعى قوى التآمر الدولي لتفعيل عداوة بين السلفيين والمتصوفة) التي تسببت في هذا التراشق، لكنني لا أجد بداً من التوافق مع بعضنا البعض، تجاوزاً لتلك الإحن، من أجل بقاء الأمة واستبشاراً بحلول المجتمع العلمي والديمقراطي الذي توفرت جميع أسبابه وغابت للأسف شخوصه في هذه اللحظة التاريخية الحرجة.

 

إن الدولة (الحديثة بشقيها اليساري واليميني)، لم تتعامل مع التعليم على أساس أنه فرصة للتكوين إنما أداة للأدلجة، والفرق بينهم أن التكوين يستثمر المقومات الثقافية ويفعلها بطريقة تهيئ للمجتمع إمكانية مراجعتها طوعيا، أما الأدلجة فهي نوع من أنواع الإهمال لذات المقومات الثقافية أو مراجعتها قسرياً. (المحاولة الأولى قام بها الشيوعيون عندما احتفلوا بعيد ميلاد لينين، أما الثانية فمازالت تقوم بها الحركة الإسلاموية في السودان التي تتمثل في محاولتها دوماً حشد السادة المتصوفة من دون الاحتفاء بقيمهم الوارفة التي ما زال هذا الشعب الأبي الكريم يستظل تحت ظلها الظليل).

 

النتيجة هي أن الدولة السودانية ومنذ زمن بعيد أصبحت بدون حقيقة اجتماعية. هذا الكلام مزعج لبعض النفر الذين يظنون أن معاناتهم ستنتهي بنهاية نظام الإنقاذ، وهذا الأمر غير سليم لأنه ما لم نستمسك بعصمة الفكر فإنه لن يتسنى لنا الخروج من مأزقنا الوجودي وإلا فلماذا لم تنتهي معاناتنا بانقضاء الحقبة المايوية؟ لماذا لم يسعفنا جَدُّنا فلجأنا لشعارات قدست موميات الأمس ولم تستشرف جماليات المستقبل؟

 

ببساطة لقد فشلنا لأننا تناولنا السياسة بمنأى عن الثقافة، فكانت النتيجة أن حصدنا ثقافة الأزمة عوض أن نشتغل على معالجة أزمة الثقافات. لقد آن لنا أن نعترف بأننا نقع ضمن دوائر استقطاب ثقافية عديدة، وإن غياب التنسيق أو مجرد محاولة تغليب ثقافة على أخرى من شأنه أن يفضي إلى فوضى وإذا تأزم الأمر إلى إحتراب. مثلاً: لقد نتج عن الفراغ الثقافي في دارفور أزمة سياسية استفحلت بسبب محاولات الاستقطاب الحادة، فرز الألوان المغري والتضادية الملحة التي جعلت الأحمر في مقابل الأزرق.

 

إذا كنا دائماً ندعي أننا أناس مسالمون، وهذا صحيح، فمن أين أتى هذا العنف؟ هل ولج هذا العنف إلى القاع الوجداني أم هو عارض؟ وإذا كان عارضاً فكيف يمكن تلافيه؟ أنا أدعو إلى ثورة ثقافية صادقة تعي ما أحدثه الحراك البنيوي من تبدل في دينامية الحوار ومن تحلل في كيمياء التحالف. وإذ أن لغة الفرز والمقابلة لم تعد مقبولة مطلقاً، فلا بد أن نراعي أن هناك استمرارية على مدار التواصل الأيديولوجي (Ideological Spectrum). فيما أن المقابلة بين العلمانية والثيوقراطية قد أعقبتها مشاطرة (لم ترتق إلى موافقة) بين الفهم الأصولي للدين وذاك التاريخي الاجتماعي له، فقد لزم أن نرتقي بل نسعى ونهتدي بإذن المولى إلى أهمية التناغم بين الحقوق والواجبات ليس كمفردات إنما آليات تجعل الفرد مرتكز المشروع الثقافي الإنسانوي الجديد.

 

للخروج من مآزق الحرب المتفاقم لابد من التركيز على مبدأ التنمية الريفية المتكاملة. إذ أن التنمية تقلل من الغبن الذي هو وقود الحرب المعنوي، ومن ثم تساعد الدولة على تخفيض منصرفاتها الأمنية. بالعدم ستظل الدولة تصرف مواردها على حرب ضروس وهدف ميؤوس، لأن العبرة التاريخية تقول إن من الأسهل إنصاف الإنسان وليس قمعه.

 

ثانيا إن التقسيمات الإدارية غير المبررة اقتصادياً لم يقصد منها تذويب العصبية إنما تأجيجها ، بهذا تكون هذه الترتيبات قد أضعفت الوضع التفاوضي لهذه الجهات في الإطار الكلي مما جعلها في منأى عن مركز القرار. إن اللامركزية لا تعني التسيب الإداري ، وإذا تشابهت علينا المفاهيم فيمكن أن نسترجع مفهوم ال 7 أقاليم (22 مديرية) من منظور فدرالي.

 

إن المركزية الإدارية نظرياً لا تعني المركزية الثقافية ، كما إن التجارب قد أثبتت عملياً أن هذا البلد أفخم من أن يحتويه قالب أيديولوجي أو أن تستخفه أوهام نخبة تتعامل اصطفائياً مع الخصائص الثقافية للشعوب في محاولة لدرء الخصائص المتنافرة والإبقاء على تلكم المتجانسة. بهذا نكون قد خالفنا قوانين الطبيعة التي تجعل من التدافع (السوي وغيره) حيلة لاكتساب الحيوية ومن الأمراض وسيلة لاكتساب المناعة . إن ترجمة هذه القوانين ثقافياً واجتماعياً عله يومئ إلي أن معرفة الأخر هي وسيلة لإثراء الذات.

 

ثالثا، ن العوامل البنيوية والمؤسسية قد حيَّدت إمكانية المثقف للتأثير كما ثبطت همته وأقعدته عن خوض معركة الوعي. إن العوامل البنيوية تتبدي في الانقسام أفقياً بين فهم إيديولوجي للنص وآخر تأريخي اجتماعي (حتي نخرج من ازدواجية علماني إسلامي)، ورأسياً بين ثقافة النخبة والثقافة الشعبية . أمَّا العوامل المؤسسية فهي الإصرار على منهجية أحادية تصر على الاستحواذ بالكلية على الفضاء الأثيري والإمعان في نفي الأخر من خلال الإنكار (الواعي وغير الواعي) لحقوقه الدستورية. فما الذي نخشاه من الحرية؟ إن الحرية يجب أن تعقل، وكي تعقل يجب أن تطلق......" (مفهوم الحرية، عبدالله العروي).إننا بإطلاق الحرية نخشي على الفرد من التحرر الذي هو بمثابة الانسلاخ في مجتمعات الحداثة ولذا فإنا نلزمه الامتثال الذي قد يفقده توازنه الأخلاقي والنفسي في المجتمعات التقليدية .

 

ختاما، إن إفساح المجال للفرد لمناقشة الحدود الأخلاقية التي يراد له الامتثال بها ينشئ علاقة تعاقدية تحقق على المدي البعيد توازناً اجتماعياً. إن الحرية تجعل من الفرد شخصاً لأنها تحرر وجدانه وتحرر نطاق توجهاته الفكرية. ليس هذا فقط بل إنها أيضاً تجعل من الشخص كائناً منتجاً إذ تغريه للانعتاق من الخرافة وتستدفعه نحو الابتكار الذي من دونه يستحيل السيل إلي جلمود والأفق إلي شاهد مسدود.

 

في محاولته لفحص مفهوم الحرية وتبيئتها، يقول الدكتور عبدالله العروي إن هنالك حرية نفسانية ميتافزيقية (التحرر من الأغيار) وأخرى سياسية اجتماعية (التحرر من القيود). إذا كانت التقوى هي أداة تحرير الوجدان على عهد النبي "صلي" فإنها اليوم تمثل سلطة رضوخ لجهات خارجية (الدولة) أو جهات داخلية (الاستبداد الذي تسرب إلي النص).



إن مجال الاستبداد السياسي للدولة كان ضيقاً، أما اليوم فإن الدولة تؤسس مركزياً لهرمية عرقية/اجتماعية تحرم الفرد حريته ما تدنت طبقته. ومن هنا نفهم جدلية العلاقة بين ضعف مؤثرات التحرر في المجتمعات العربية وقوة المطالبة بها (دليل التنمية العربية 2005 م). نتيجة لسياسات القمع فإن الحرية تتضاءل في واقع الحياة وتتضخم في الذهن مما يحدث أرقاً هو أشبه بالانفصام منه بالعنت. إن التساؤل حول مفهوم الحرية هو تساؤل حيوي حول علاقة الفرد بالذات، الذات بالمجتمع، المجتمع بالدولة، الدولة بالمجتمع الدولي الكبير. إذن هو تساؤل حول ماهية الوجود وفرض الموجود ولذا يلزم التعامل مع هذا الأمر على أساس أنه قوت الحياة المتداخلة التي تنشد التوازن وليس ترف ينشده المثقفون .

 

ان القراءة الواعية تقول بأن التحولات الرئيسية في تاريخ الشعوب، يشمل ذلك تفكيك المنظومات الأخطبوطية والتخلص من المفسدين، لا تتم إلا بجرف عميق وجرح معمق يشنف الاذان ولا ينفي الوجدان كالذي جعل الفرنسيون يتيهون 80 عاماً بعد اعدامهم للملكة المستبدة أنطوانيت وذلك قبل ان ترسي سفينتهم على بر الأمان، أو كما أعدم اهل رومانيا شاوسكي وزوجته اللئيمة إيلينا . فعلي النخب المتريفة (أو الريفية) ان لا تكتفي بالتعليق علي هذه المسرحيات لأن ما نراه اليوم من ظواهر ما هو الا نتاج لفكر سياسي متبلد و نهج ديني متعفن، لكن ايضا ان تسعي كآفة لتطوير منصة (أسوة بمؤتمر الخريجين مع ضرورة الاستفادة من غلطاته التي كان لها صلة بمحددات الفترة الاستعمارية وطموحات جيل الرواد الانية) تقطع الطريق على الطائفية وتطوق النخب المركزية الطفيلية التي تتغذى أميبيا من حين لأخر من المواقف الغير الاخلاقية للسياسيين.

 

 

auwaab@gmail.com

 

آراء