من بعض ما ورد عن آراء الجنرال غوردون عن الإسلام .. عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 



من بعض ما ورد عن آراء الجنرال غوردون عن الإسلام

N.A. Daniel ن. أ. دانيال

عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

هذا تلخيص موجز لبعض ما أورده البريطاني ن. أ. دانيال عن بعض آراء الجنرال غوردون (والذي حكم السودان في عهد التركية السابقة بين فبراير من عام  1884إلى يناير من عام 1885م) عن الإسلام  والمسلمين، وأيضا عن آراء بعض المسيحيين في السودان وبريطانيا، وذلك في مقال نشر في مجلة "السودان في مذكرات ومدونات" العدد 48  لعام 1967م. قارن الكاتب بين آراء الجنرال غوردون وآراء الأسقف  لويلن قوين أول رئيس للكنيسة الإنجليكانية في مصر والسودان بين عامي 1920 – 1946م،  وعلق على الاختلافات الفكرية بين الرجلين في النظرة للإسلام والمسلمين. ولد الأسقف  لويلن قوين في ويلز ببريطانيا عام 1863م وتوفي بها في 1957م. وبحسب ما هو مبذول في الشبكة العنكبوتية فهنالك الآن كلية جامعية مسيحية في مدينة جوبا بجنوب السودان اسمها "كلية الأسقف قوين".
أعتمد الكاتب في مقاله هذا على البحث الصغير (والرائع كما وصفه) للبروفيسور ر. ل. هيل والذي نشر في مجلة جامعة درم في عام 1955م بعنوان "أدبيات غوردون The Gordon Literature".  
ذكر الكاتب أن أهم ما يجب ذكره عن الجنرال غوردون هو أنه كان يشجع المسلمين في السودان على ممارسة شعائر دينهم، بل وكان يقبل –  من ناحية عقدية مسيحية بحتة – الإسلام كدين مخلص (يمكن أن ينقذ روح المرء). في ذلك كتب الجنرال غوردون في 12/10/ 1874م  الآتي عن المسلمين : "لقد شجعتهم على تشييد مسجد لهم، وعلي الصيام في رمضانهم، وهو أمر لم يكن يلقون إليه بالا قبل مجيئ للحكم". وكتب أيضا في 17/7/ 1877م: "عندما أستولى المصريون على هذه البلاد قاموا بمصادرة مبنى المسجد وتحويله إلى مخزن للذخيرة. قمت أنا بتنظيف المبنى وإعادته لسابق عهده كمكان للعبادة وأمرت برواتب للقساوسة (هكذا وردت في النص الأصلي) والمؤذنين (سمى في الأصل المؤذنين بـ"الصائحون"). كتب أيضا في يوم 22/2/1884م :" اليوم هو يوم أحد المسلمين (لعله يقصد يوم الجمعة)... سآمر الجنود (السودانيين) بالصلاة بانتظام صباحا ومساءا كما يفعل الجنود الأتراك. عندما يتعلق الأمر بالتضحية بالجسد فإن المسلمين يفوقون حتى الرومان الكاثوليك (وبالطبع البروتستانت)". وكتب في مرة أخرى في يوم 12/12/1884م يقول: "إنه لأمر مزعج جدا أن تنادي خادمك لأمر ما فيخبرونك دوما بأنه مشغول بتأدية الصلاة، فهذا ليس بعذر ولا يمكن قبوله طوال الوقت (إلا إذا كنت طبعا من المؤمنين بتلك الصلوات!)".
كان غوردون وهو محاصر في قصره يشاهد من بعيد جموع أعدائه الأنصار وهم يؤدون الصلاة فيهمهم ساخرا :"استعراض الكنيسة".
منذ نهاية القرن السابع عشر لم تكن هنالك أي قلة في أعداد الأوربيين الذين كانوا يكيلون الثناء على الإسلام، ولكن هؤلاء الناس كانوا في الغالب من المعاديين للمسيحية أو على الأقل من المتشككين فيها. من ضمن هؤلاء يمكن أن نعد كارلايل و استوبيوون وود ريد. وفي القرن الثالث عشر أعتبر وليام طرابلس وشارلس فوستر في القرن التاسع عشر أن اعتناق الإسلام هو "نصف الطريق إلى المسيحية". بيد أن غوردون (وهو المسيحي الشديد الإيمان) كان يؤمن أيضا بأن المسلم يمكنه أن يجد "الخلاص" في دينه. لا بد أن رأيه ذلك كان أكبر تنازل يمكن أن يقدمه أي مؤمن يدين بدين منزل. كتب غوردون في 17/7/ 1887م يقول: "يبدو لي أن الرجل المسلم يعبد الله مثلي تماما، وبطريقة مقبولة  مثل طريقتي بالتأكيد، إن كان مخلصا مثل أي مسيحي". وفي  11 سبتمبر من عام 1877م  كتب يقول: " تتحدث عن الرجل المحمدي وكأنه علي خطر عظيم. لا أعتقد ذلك. أؤمن بأن الرجل المسلم مسيحي جيد مثله مثل الكثير من المسيحيين وليس على أي خطر. كلنا نحن وثنيون بدرجات مختلفة ... أنا أحب الرجل المسلم. إنه لا يخجل من ربه.، وحياته بريئة نقية. بالتأكيد يسمح الرجل المسلم لنفسه بهامش واسع في مجال تعدد الزوجات، بيد أنه لا يحاول أبدا اصطياد نساء غيرهن. هل بمقدور رجالنا المسيحيين ادعاء ذلك؟: يصر غوردون على أن " رب المسلمين هو ربنا أيضا. إنهم يعبدون إلها واحدا (هو جاهوفا )" . هنا يعلق الكاتب ن. أ. دانيال على مقولة غوردون بأن هذا التحديد بالذات هو عادة ما يحذره المسيحيون. يضيف الكاتب أيضا أن غوردون كان يحكم على المسلمين بالمقاييس والمعايير الإسلامية، وليس بغيرها. لعل سبب كره غوردون للمهدي (والذي تنامى في الخرطوم) هو شعوره بالتعاطف مع علماء الخرطوم (المعادين للمهدي وللمهدية). كان كثيرا ما يردد أنه لا يمكن أن يعتمد في الخرطوم إلا على العلماء. يزعم كاتب المقال أن غوردون كان يقصد بمقولته تلك أنه سيعتمد على مساندة "الإسلام التقليدي" ضد المهدية. كان الجنرال غوردون يؤمن بأن قبول المهدي هو بمثابة "إلحاد" بالتأكيد بالنسبة للمسلمين كما هو الحال بالنسبة للمسيحيين، وكانت قناعته تلك نابعة من "عقيدة" مشتركة، وكان يأسى كثيرا على "التدهور" الذي حاق بالديانتين الإسلامية والمسيحية عند معتنقيهما، ويأسف لأن المهدية لم تكن "متعصبة" في الواقع.
أما بالنسبة إلى تجارة الرقيق، وعلى الرغم من معارضة غوردون لها وشكوكه القوية بشأن نوايا المصريين حيالها، فإنه  لم يكن يلوم الدين الإسلامي (Islam qua religion) بشأنها.
رغم ذلك فقد كان غوردون يحكم في أمور الرقيق بالشرع الإسلامي. كتب في 28/7/1877م الآتي: "إن كانوا مسلمين فيجب إطلاق سراحهم، وإن كانوا رقيقا استعبدتهم القبائل المهزومة، فلا يلزم إعادتهم." كان غوردون يرفض –  كغيره من كثير من الرجال "العصريين"-  القيام بغزوات للحصول على رقيق أكثر من رفضه لمؤسسة الرق والتي سببته في الأساس. يقول غوردون في ذلك: " أفهمني الآن. سأشتري عبيدا إن كان ذلك يلائمني. سأسمح للعبيد المقبوض عليهم بالعبور إلى مصر ولن أزعجهم، بل سأفعل ما يحلو لي وما يقدر الله  برحمته لي أن أفعله  بخصوص خدم منزلي. بيد أني سأكسر عنق كل من يقوم بغارة لجلب العبيد ولو كلفني ذلك حياتي. سأشتري عبيدا لأجندهم في جيشي. ومن أجل هذه الغاية سأقوم بتجنيد هؤلاء رغما عنهم من أجل منع غزوات تجار الرقيق". 
كان غوردون يؤيد المقارنة المألوفة بين مالكي الرقيق المسلمين ومالكي الرقيق من أصحاب المزارع في غرب الهند، وكان يقر بأن معاملة المسلمين للرقيق كانت أرق من الآخرين. لم يكن غوردون يلوم بوجه خاص العرب على قيامهم بغزوات لجلب الرقيق. كتب للمبشرين في الخرطوم بتاريخ 11/ 8/ 1878م: "هل تعلمون أن كل تجار الرقيق هؤلاء قد تعلموا على يد الرحالة والمغامرين الإنجليز والفرنسيين وغيرهم؟ العرب هنا فقط استغلوا هؤلاء القادة الأوربيين." يقول دانيال في مقاله هذا أن لغوردون عدة رسائل عميقة المعاني يبرئ فيها الإسلام من تلك التجارة، ويصف موقفه هذا بـ "المتسامح".
وفي مجال المقارنة بين آراء غوردون وآراء الأسقف قوين أول رئيس للكنيسة الإنجليكانية  في  السودان يقول الكاتب أن الأخير أتى للسودان دون أي معرفة أو خبرة سابقة بالبلاد ودينها أو بالعالم الإسلامي عموما. أتى ذلك الأسقف للسودان حاملا أفكارا وآراءا وافتراضات أي رجل مسيحي بريطاني عادي في تلك الأعوام، وكان كل ما يتوقعه من العمل في البلاد هو تدريس الإنجيل للسودانيين. إن المفارقة والتناقض بين آراء الرجلين حيال الممارسات الإسلامية واضحة تماما. قال الأسقف قوين في إحدى خطبه ذات يوم أحد من عام 1905م: " إن الحديث عن أن حرمان المرء لنفسه يرفع قدره عند خالقه هو حديث خرافة. هذه هي روح رمضان ... شهر الصيام الإسلامي. رأينا نحن الذين عشنا ونعيش في البلاد المحمدية كيف يقاسي الأطفال المسلمون من وطأة الجوع والعطش في الأيام البالغة الحرارة أملا في إرضاء الله... ونحن نعلم أن تلك ليست هي روح الصيام الحقيقي". ظلت تلك الفكرة تعشعش في عقله، وبعد ست سنوات من ذلك قال الأسقف في يوم 26/2/  1911م: "إذا حدث رجل نفسه وقال لها: " أنا بخير. لقد صمت كثيرا وعذبت نفسي من أجل الجنة" فإنه سيكون في مرتبة من التطور تماثل حالة مسلم يحرص على الصيام في رمضان، أو رجل يرتدي قميصا من الشعر. ولكن إن قال الرجل لنفسه: "إن أكلي وشربي أمر ممتع (ولكنه) يسرع بمرور الدم في جسدي حتى يتراكم في دماغي ويجعله أكثر بطأ، وتضعف صلاتي وتفتقد الخشوع والحرارة اللازمة، وتنتابني الأفكار الشيطانية... ولذا فسأقلل من المطعم والمشرب". حينئذ أقول لك إن مثل ذلك الرجل يعمل من أجل إرضاء ربه فعلا".
قال الأسقف في إحدى خطبه في كاتدرائية الخرطوم في ذات العام: "ماذا يمكن للإسلام قوله في فكرته عن الرب كعقل لا يمكن تغييره وعن كونه "عقال من حديد" وعن أن الإنسان غير حر ... وعن ملذات الجنة الحسية التي تهوي  بتطلعات المرء  الروحية  إلى درك سحيق؟"  قال الأسقف في القصر ذات مرة مؤكدا التفوق المسيحي على غيره من الديانات الإبراهيمية : "لا يتوقع من المحمدي ( أو اليهودي ) أن يرتقي روحيا  لمستوى المسيحي".
كان الأسقف قوين، وخلافا للجنرال غوردون، شديد الإحساس والحساسية تجاه عداوة المسلمين. فقد قال في إحدى خطبه: "إن التعصب والكراهية  غير المسببة التي يكنها (المسلمون) ضد المسيحيين كبيرة جدا – مثل عائق ضخم لا يمكن تجاوزه. إنني مندهش جدا من أنه حتى عند رجل الشارع العادي تحس وترى المرارة والكراهية والاحتقار للمسيحيين". ومن ناحية أخرى كان الأسقف قوين يعارض وبشدة منع التبشير المسيحي في أوساط المسلمين السودانيين. فقد كتب في مذكراته ذات مرة في عام 1902م أنه كان عليه أن يحسم أمر خلاف نشب بين ثلاثة من صبيته  الذين يخدمون في منزله كان أحدهم (واسمه جوزيف) من الأحباش المسيحيين، وكان الآخران سودانيان مسلمان. قال: "أفهمت الصبيين المسلمين إنني أحبهما مثلما أحب جوزيف المسيحي تماما، بيد أنه إن لم يتوقفا عن اللجاج والشجار  ويتعايشا سلميا معه فإنني سأضطر لطردهما من خدمتي إذ أن الحكومة لا تسمح لي بتدريسهما تعاليم المسيحية  كما تسمح لي بتدريس ذلك الصبي الحبشي". وكتب في اليوم الثاني لذلك: "لقد ضربت اليوم الصبي عزيز لمضايقته للحبشي جوزيف. لماذا يصعب على هؤلاء الأولاد فهمنا؟ إن طريقة عيشنا وتربيتنا ومفهومنا  للصحيح والخطأ مختلفة  جدا مما يستلزم التحلي بالصبر. لكم كنت أتمنى أن أعلم هذين الولدين مبادئ التعاليم المسيحية وأن أبذر في روحيهما بعض الحب والخير. كانت تلك ستكون هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ روحي أولئك السودانيين التعساء.  فليساعدهم الرب. إن الحكومة قصيرة النظر فعلا".
أما فيما يتعلق بتجارة الرقيق، فقد كان الأسقف قوين (خلافا للجنرال غوردون)  يلقي باللوم كاملا على الإسلام. كتب الأسقف يقول: " ليس من المستغرب أن هذه القبائل الزنجية في غرب- شرق أفريقيا (وفي أعالي النيل)  لم تدخل في الإسلام على الرغم من عيش المسلمين بجوارها لأكثر من 600 عاما. إن السبب في ذلك هو أن هذه القبائل ظلت تتعرض لغزوات متكررة من العرب. إن الكثيرين (مثل بيكر وغوردون واشفاينفورث وغيرهم) يشهدون بفظائع تجارة الرقيق. لقد كانت الخرطوم أكبر سوق للرقيق. إن النظرة الإسلامية القديمة من أن الله قد خلق الأسود ليصير عبده، وأن العربي أفضل من الزنجي قد بدأت في الاضمحلال ببطء". في الواقع كانت الآراء أقل حدة من آراء بعض القساوسة المعاصرين للأسقف قوين. قال ذلك الأسقف ذات مرة: "إن قلاع الإسلام قوية وعميقة الجذور في نفوس معتنقيه...." وقال أيضا: "لقد قال لي صديق من أصدقائي من الشيوخ المسلمين خلال دردشة ودية : " ولكنكم تريدون سلبنا ديننا". نفيت ذلك قطعيا فسارع بسؤالي: "إذن ماذا تريد؟" رددت عليه: "أريد فقط  أن أمنحكم  حياة روحية أكثر"... هذا ما تحتاجه كل الأديان". ليس من المعروف ما هو المقصود عمليا من مقولة الأسقف قوين تلك، بيد أنه من الواضح الآن  أنه كان يقصد التسامح الثقافي. لقد كانت أفكار ذلك القسيس محدودة  بحالة كونه من "المنتصرين" ومحدودة  أيضا بثقافته وتربيته وعمله وكذلك بما  ورثه من تعصب  وعدم  تسامح  مسيحي بقي من ضمن ما بقي من مخلفات الماضي.
خلص الكاتب إلى أن التناقض بين آراء الجنرال غوردون والأسقف قوين بين جلي. كانت آراء الأسقف قوين متسقة مع آراء معاصريه  وزملائه  وتتفق بالتأكيد مع التقاليد والأفكار المسيحية الراسخة (حينها) عن الإسلام، والمتأثرة بالعزلة الثقافية والتبرير الذاتي لغازي أجنبي قوي ومنتصر. بيد أن أفكار الجنرال غوردون المتفهمة والمتسامحة عن الإسلام لم تكن مؤسسة على تقاليد سابقة وليس  فيها أثر لشعور بتفوق ثقافي أو تعصب  ديني، وكانت مصادمة ومتناقضة مع آراء القساوسة (والذين "قدسوه" فيما بعد!). ربما كان لذاتية غوردون المفرطة وشخصيته المتفردة أو لأسفاره المتعددة  في  كثير من البلدان، أو لتمثيله لدولة مسلمة أثر في بعض أفكاره وآرائه عن الإسلام، بيد أنه لا يصح أن نقول إن ذلك كان هو سبب تبنيه لتلك الأفكار، فقد كان معارضا دوما لكثير من سياسات الحكومة (المسلمة) التي كان يمثلها. 

badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]
//////////

 

آراء