من ذكريات البريطانيين في السودان: الوصول إلى المكتب .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
بدر الدين حامد الهاشمي
16 September, 2011
16 September, 2011
من ذكريات البريطانيين في السودان: الوصول إلى المكتب
Getting to the office
تأليف: هارولد وليامز
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم:
هذه رحلة عمل يرويها خبير الغابات هارولد ويليامز، والذي عين كمفتش للغابات في السودان عقب تخرجه مباشرة من جامعة أدنبرا الاسكتلندية الشهيرة. كان السفر بالبحر في تلك الأيام (منتصف سنوات الحرب العالمية الثانية) من بريطانيا للسودان بالطريق المعتاد أمرا محاطا بالمخاطر، لذا سافر الرجل - مع آخرين- في طريق طويل إلى كندا ثم إلى أمريكا الجنوبية ثم إلى جنوب أفريقيا ومنها بالبر والنهر إلى جوبا في رحلة استغرقت 120 يوما بالتمام والكمال. رغم أن القصة تصب في ذات المنحى الذي درج عليه موظفو الخدمة المدنية من البريطانيين من تمجيد جهادهم وتفانيهم وصبرهم على مكاره العيش في السودان (وهي كثيرة لا تحصى)، إلا أنها مفيدة لأجيالنا الحالية حتى تدرك ما سبق بذله من "الأجنبي" في سبيل تطوير البلاد – غض النظر عن دوافعه ونوازعه- وضرورة بذل جهد مساو (على الأقل) لما بذله ذلك "المستعمر البغيض".
نشرت هذه القصة في مجلة دراسات السودان" العدد 43 في يناير من عام 2011م. المترجم
-----------------------------------------------
لا شك أن كثير منا يدرك المعانة التي يقاسيها المرء للوصول إلى مكتبه عند الصباح، ولكن ما ظنكم بمن استغرق وصوله لمكتبه أربعة شهور كاملة. لابد أن ذلك رقم قياسي يصعب تكراره.
لقد تخرجت في جامعة أدنبرا في يونيو من عام 1942م وحصلت على بكالوريوس في علم الغابات، ثم قدمت – مع زملائي القليلين الآخرين- إلى لجنة القوى العاملة في العاصمة لندن، والتي أجرت لنا معاينة دقيقة نصحنا بعدها بالرجوع إلى جامعتنا وانتظار التعليمات.
ظللنا في انتظار تلك التعليمات حتى نوفمبر، حين أخبرت بأن علي الالتحاق بمركز إمدادات الشرق الأوسط في القاهرة، والتي طلبت مني بدورها الالتحاق بمصلحة الغابات في السودان. تم تزويدي على عجل بما يسمي ب "طقم أدوات المناطق الحارة" والحقائب المضادة للنمل وتصاريح السفر وما إلى ذلك. وصلت إلى مدينة ليفربول حيث أخذت على الفور إلى نزل صغير يوفر المبيت والإفطار، وفي صبيحة اليوم التالي نقلت باكرا للميناء للسفر على ظهر سفينة شحن (تبين لي لاحقا أنها كانت سفينة هولندية) تحمل على ظهرها 10000 طن من المعدات والمستلزمات العسكرية وتتجه للشرق الأوسط.
كنا اثني عشر شخصا في سفينة الشحن تلك...عشرة رجال وامرأتين! خمسة من الرجال كانوا من "الفنيين"، وثلاثة كانوا من القساوسة، وزوجتين في طريقهما للالتحاق ببعليهما.
أبحرنا من ليفربول والظلمة تلف المكان، وسارت بنا السفينة عبر نهر كلايد (تاسع نهر في بريطانيا، وهو أشهر نهر في اسكتلندا. المترجم) شمالا للانضمام إلى قافلة متجهة إلى كندا، أيضا في الظلام. لم يتسن لي رؤية بقية القافلة البحرية، إذ كنا في مؤخرة ركب السفن الأخرى. كنا نعد في نظر تلك السفن، وبسبب طبيعة ما كنا نحمله "قنبلة طافية"، ولكن كانت هنالك سفينة حربية قديمة (حراقة) تطوف علينا بين حين وآخر للتأكد من أننا نتجه الوجهة الصحيحة غربا.
بذل الطاقم الهولندي في سفيتنا غاية جهده في الترحيب بنا رغم الظروف والازدحام الشديد في السطح الوحيد المتوفر في سفينة الشحن تلك، إذ أن بقية الأسطح كانت مخصصة لمخازن الأسلحة والسيارات العسكرية. مرت أيام عديدة قبل أن نرى أضواء "هاليفاكس" الكندية...يا للفرحة... اليابسة أخيرا! ولكن لا...ليس لنا! واصلنا السير، ودرنا بدورة ذكية نحو الجنوب وانطلقنا في المحيط الأطلسي.
اعتدل الجو قليلا، وظهرت الشمس بعد طول غياب، ومعها بعض الدفء. أقبل يوم عيد الميلاد، فاحتفلنا به بإقامة التراتيل، وللغرابة، مع غداء فاخر! لاحت اليابسة لنا في بداية يناير 1943م، حيث رست سفننا في بيرنام بيكو (مقاطعة في شمال شرق البرازيل. المترجم) مصحوبة بسفن حربية برازيلية، إذ أن ذلك الميناء كان مقر رئاسة البحرية البرازيلية. قضينا ثلاثة أيام سعيدة في تلك المدينة، بينما كان يعاد تزويدها بالوقود، حيث كان عمال الميناء يحملون سلال الفحم إلى السفينة على رؤوسهم.
عدنا إلى الماء مرة أخرى، وغذذنا السير جنوبا عبر المحيط الأطلسي حتى وصلنا ميناء الكيب في جنوب أفريقيا حيث قوبلنا بوابل من الأنوار الكاشفة. درنا بذكاء خارج الميناء نحو حول رأس الرجاء الصالح إلى المحيط الهندي، حيث رافقتنا سفينة حربية هندية.
وصلنا بورت الليزابث (مدينة أنشأها البريطانيون في عام 1820م شرق مدينة الكيب، وتعد من أكبر مدن جنوب أفريقيا. المترجم) ذات صباح مشرق جميل. فجأة صمت آذاننا صوت فرقعة ضخمة، أعقبه توقفنا بصورة فجائية. أطلقت السفينة الحربية المرافقة لنا طلقات هجومية. أصابت القذيفة الناسفة للسفن (التوربيدو) المكان الآمن الوحيد في السفينة...غرفة المحرك! ظللنا ساكنين نترقب ما تسفر عنه الأحداث. نقلنا بعد ساعات إلى ناقلة بترول كانت متجهة نحو الخليج، حيث عاملنا طاقمها معاملة حسنة، وأنزلنا منها في مدينة "ديربان" حيث استقبلنا بالأغاني والأناشيد.
عرفت من أحد رفقاء السفر أنه مهندس في طريقه للسودان للعمل في مصلحة السكة الحديد، فترافقنا وذهبنا معا إلى مكتب سفريات "توماس كوك" في"ديربان"” حيث سمعنا من مدير المكتب مفاجأة لم تكن لنا على بال. أخبرنا – أخيرا- بأنه كان قد تم الإبلاغ رسميا عن أن سفينتنا قد غرقت في المحيط الأطلسي (دون أن ينجو أحد) وأن موظفين آخرين قد بعثوا من لندن ليحلوا محلنا! بقينا في "ديربان" لنحو شهر من الزمان حتى تم تسوية الأمر، ومن ثم اتجهنا نحو ميناء ممبسا (الكيني) ومنها (بعد كثير من التأخير) ركبنا القطار والسيارة ومركب نهري حتى وصلنا إلى مدينة جوبا.
فور وصولي لجوبا قابلت مفتش الغابات، والذي أخبرني بأنه يجب على التوجه فورا إلى منطقة "ياي" لتنظيم مجموعة مناشير الخشب هنالك. قضيت ليلة واحدة في جوبا وأصبحت في فجر اليوم التالي على بعد 100 ميل (160 كيلومتر) على طريق ترابي في "لوكا غرب" حيث قضينا ليلتنا في "قطية" من القش. بعد تناول الإفطار في صباح اليوم التالي مشيت بعض مئات من الياردات لأدخل مكتبي ...أظن أنك تتفق معي في أن تلك كانت أعجب (وأطول) رحلة يقطعها المرء للوصول إلى المكتب!
كان هنالك خارج المكتب جبل ضخم من الصناديق والحاويات وعدد من محركات البخار ومناشير الخشب! تم تعريفي في المكتب ببعض الكتبة ورجل تركي اسمه عبد الله يعمل فنيا ميكانيكيا ولا يتحدث كلمة واحدة بالإنجليزية. رغم ذلك تعاونا معا في إنشاء مناشير الخشب في منطقة "ياي" ...ولكن تلك قصة أخرى!
-------------------------------------
نقلا عن "الأحداث"
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]