من ذكريات بعض زوجات موظفي القسم السياسي بحكومة السودان (1926 – 1956م). عرض: بدر الدين الهاشمي
حكايات السودان: من ذكريات بعض زوجات موظفي القسم السياسي بحكومة السودان (1926 – 1956م) -2
Sudan Tales: Recollections of some Sudan Political Service wives (1925 -1956)- 2
Rosemary Kenrick روزماري كينريك
عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
هذا هو الجزء الثاني والأخير من عرض وتلخيص لبعض ما ورد في كتاب للسيدة روزماري كينريك نشر في عام 1987م عن دار نشر اولينادر في كيمبردج ببريطانيا، وقامت فيه المؤلفة بجمع بعضا من ذكريات زوجات موظفي القسم السياسي الذين عملوا في خدمة حكومة السودان بين عامي 1926 و1956م. والسيدة كينريك هي زوجة مساعد مستشار الحاكم العام للشئون الدستورية والخارجية، وقد عاشت معه لفترات عديدة في تلودي (1945 – 1946م) ورشاد (1946 – 1949م) وأمدرمان (1949 – 1953م) والخرطوم (1953 – 1955م).
في أحد الفصول حكت المؤلفة عن تجارب الزوجات البريطانيات مع نظيراتهن السودانيات (أو الستات المحليات localsitts كما سمتهن) فأشارت إلى أن التواصل معهن لم يكن ممكنا إلا إذا كانت "الخواجية" تتحدث اللغة العربية. بل وحاولت إحداهن التواصل مع نساء النوبة (واللواتي لا يتحدثن بالعربية) عن طريق لغة الإشارة، وكان ذلكيثير عاصفة من الضحك عند من يشاهدونهن يستخدمنها. وحاولت أخرى تعلم اللغة العربية عن طريق مبتكر ألا وهو إحضار عدد من الدمى واللعب لحيوانات وأشياء خرى من بريطانيا وأخذها للستات المحليات للفُرْجَة عليها وتعليمها اسمائها باللغة المحلية.
وبلغ من اهتمام الحكومة بتعليم زوجات الموظفين البريطانيين العربية أن وضعت في عام 1929م امتحانا موحدا في اللغة العربية خاصا بهؤلاء النسوة. وتوقف إجراء ذلك الإمتحان في غضون سنوات الحرب العالمية الثانية لسبب لا يخلو من غرابة، وهو نجاح زوجة موظف بريطاني في الإمتحان (الأصعب) والذي كان يعقد للموظفين البريطانيين ويسمونه "امتحان المتمرنين التأهيلي في اللغة العربية". واختارت بعض البريطانيات دراسة اللغة العربية دراسة منهجية قبل الحضور للسودان، مثل تلك السيدة التي قضت عاما في جامعة مانشستر لدراسة اللغة العربية قبل أن تلحق بزوجها في الأبيض عام 1926م، والأخرى التي تلقت دروسا خصوصية في الأبيض من مدرسة لغة عربية بالمدينة. وكان كتاب هيليلسون الشهير "عربية السودان" خير معين للراغبات في تعليم لغة البلاد (لمزيد من المعلومات عن هيليلسون يمكن الرجوع إلى مقالنا المترجم المعنون "عالم يهودي في مجتمع مسلم: حياة وكتابات سيقمار هيليلسون").
وكانت النساء البريطانيات يلتقين بـ"الستات المحليات"في أثناء طوافهن مع أزواجهن وهم يقومون بجولاتهم الدورية المضنية (Treks). وقالت إحدى هؤلاء بأنها كانت في رحلة عمل كان يقوم بها زوجها المفتش في مناطق مديرية كسلا، وأصيبت بحيرة وحرج عظيمين عندما طلب منها زوجها التعرف على النساء المحليات، فثقتها في نفسها كانت قليلة، وذخيرتها من الكلمات العربية كانت أقل! غير أنها قاومت كل تلك المشاعر السالبة وبدأت في التعرف على النساء المحليات (وكن من قبيلة رعوية من الرحل)، ومع الأيام صارت من أشد المعجبات بهن وبنمط حياتهن المختلف، ووجدتهن أشد كرما وأكثر انفتاحا من نساء مدن السودان وأكثر قدرة على التعرف على الغرباء. وعجبت أشد العجب من صراحتهن عندما كن يعبرن لها عن أسفهن على حالها وهي يتيمة ولم تحبل بعد، وزوجها يأخذها معه حيث يريد كقطعة من الأثاث ولا يتركها في دارها "عزيزة مكرمة"! وعجبت أكثر عندما تبسطن معها في الحديث، بل وطلبن منها أن تحل شعرها المربوط على هيئة كعكة bun حتى يتأكدن من أن شعرها طويل فعلا! بل وعبرن لها عن عدم رضائهن من "سوء خلق" البريطانيين الذين يكتفون بقول "صباح الخير" لمن يلقونه صباحا ثم يسارعون بالمضي في أعمالهم دون التمهل والسؤال عن الحال والأحوال والحديث عن الطقس والمحاصيل والعائلة وغير ذلك! وتعرفت إحدى النساء البريطانيات على المك حسن في سنجة والذي عبر لها بصراحة عن أسفه لزوجها الذي اكتفى بزوجة واحدة، وعن أسفه أيضا لحالها كونها وحيدة في هذا الصقع من العالم وبلا أطفال وتعيش بعيدة عن والدتها وسائر أهلها.
ومن قصص البريطانيات في السودان تلك المرأة التي كان زوجها يعمل مديرا لمصلحة السجون في عام 1944م، وأتاح لها ذلك زيارة المسجونات بصورة دورية. وذكرت تلك البريطانية أنها أبدت اهتماما خاصا بالمحكوم عليهن بالسجن المؤبد لارتكابهن جرائم قتل (وكن ثماني نساء) فبدأت في تعليمهن فنون الخياطة مثل الحياكة (والتي أحببنها كثيرا)، وأوعزت لزوجها للسماح لهن بتناول الشاي معها أحيانا في دارها، فتعلقن بتلك "الخواجية" جدا. ولما حان أوان رحيل زوجها كانت ساعة فراقهن ساعة مؤثرة جدا، فعند الوداع ذرفت الدموع وتعالت أصوات السجينات (وأصوات حارستهن و"الخواجية أيضا") بالعويل. وعلقت البريطانية لاحقا بأنها يجب أن تسجل في موسوعة قينيس للأرقام القياسية أنها هي المرأة الوحيدة التي قبلت ثماني قاتلات في ظهيرة واحدة!
وكانت رعاية الأطفال تمثل معضلة عويصة للأزواج البريطانيين في السودان، خاصة في "مناطق الشدة" فقد كان من غير المسموح به للموظفين إحضار أطفالهم معهم لمثل تلك المناطق التي لا توجد بها هواتف ولا ثلاجات ولا طبيب (مثل منطقتي كاجو كاجو، ومنطقة راجا في بداية ثلاثينات القرن الماضي، والتي عرفت فيما بعد بالإستوائية). وإن صادفت أن حملت الزوجة وهي في مثل تلك المناطق فكان على زوجها التعجيل بتسفيرها للخرطوم ومنها لبريطانيا، رغم كل احتمالات الإجهاض والنزف وغير ذلك من المشاكل الصحية. وقبل عام 1939م كانت الزوجات البريطانيات اللواتي يقطن العاصمة والمدن الكبيرة يؤمرن بالأوبة لبريطانيا إن حبلن ليضعن حملهن في بلادهن. إلا أن واحدة منهن في شتاء عام 1934م أصرت على البقاء في الخرطوم حيث أنجبت طفلها بسلام، وأرست بذلك سابقة لعدد من النساء الأخريات لفعل ذات الشيئ. والطريف أن تلك المرأة كانت قد زارت الشيخ الطيب في الخرطوم بحري حيث كان زوجها يعمل مفتشا، فبارك الشيخ لبنا قدم لها عنده، وأعلن لها أنها ستحبل وتضع مولودا في العام القادم وقد كان... (يبدو أن الشعوذة معدية!)
وأما في غضون سنوات الحرب العالمية الثانية فقد كانت ولادة البريطانيات في مستشفى الخرطوم أمرا عاديا، فكانت النساء الحمل يتقاطرن من كل أنحاء السودان على مستشفى الخرطوم عند قرب موعد ولادتهن ويتركن أزواجهن وأطفالهن – إن وجدوا- ويبقين فيها لنحو أسبوعين بعدها. ولم يكن ترك الأطفال مع عائلة أخرى يمثل مشكلة في السودان، بعكس بريطانيا، والتي كان ترك الأطفال بمفردهم مع والدة الزوج أو الزوجة يمثل معضلة أخرى من نواح كثيرة ليس أقلها التكلفة المالية العالية لإدخالهم حضانات أو مدارس خاصة.
وفي فصل عن الخرطوم ذكرت المؤلفة أن الزوجة البريطانية التي تقدم لأول مرة لتلك المدينة في عشرينيات القرن العشرين كانت تصاب بصدمة حضارية عنيفة.، إذ أنها كانت "مدينة" أقل تحضرا وعمرانا من أصغر مدينة أو قرية كبيرة في إنجلترا. فطرقها ترابية (عدا شارع أو شارعين)، وفي ما خلا بعض الأبنية الحديثة على شارع النيل (مثل القصر والمصالح الحكومية والفندق الكبير والذي قامت بتشيده شركة بريطانية نظير منحها حق التعدين في البلاد) فلم يكن هنالك أي عمران يسـتأهل الذكر. وكان في السوق الذي يتبضع فيه الأجانب بضع مبان من الطوب الأحمر ذات طابق واحد، بعكس سوق الأهالي والذي كان يتكون من غرف صغيرة جدا أشبه بالزنازين بلا أبوب ولا نوافذ، وكانت معظم البضاعة توضع وتباع في الطرقات الضيقة المغبرة. وتعزو الكاتبة فقر الخرطوم إلى أن الخليفة عبدالله كان قد جرد الخرطوم بعد توليه الحكم من غالب ما كان فيها من مبان ومواد ونقلها لعاصمته أمدرمان. وعندما دخل كتشنر الخرطوم لم يجد فيها غير أطلالا طينية، فبدأ تخطيطها على شكل العلم البريطاني (مكررا عديد المرات)، ووضع حامية عسكرية في وسط كل "علم" بغرض الدفاع عن المدينة. وسرعان ما أختفت الطرق المتقاطعة والقطرية من المدينة.
وأبدت زوجة بريطانية أتت للخرطوم في عام 1945م دهشتها من بؤس المدينة، وشبهتها بما شاهدته في أفلام الغرب المتوحش (أفلام الكاوبوي). ولكن بعد سنوات قليلة من ذلك التاريخ بدأت الحكومة في الاهتمام بإضاءة الشوارع والصرف الصحي وغير ذلك مما هو لازم في أي مدينة عصرية. غير أنه بقيت غالب المناطق السكنية بغير أرقام أو اسماء، وكان معظم الناس يعرفون البيوت بأسماء أصحابها فقط. وكانت أقدم منطقة سكنية في الخرطوم تمتد من غرب القصر الجمهوري على شاطيء النهر ، وتقع خلفها بيوت واسعة من طابق واحد وحدائق بهيجة. وبعد سنوات، ومع تزايد أعداد الأجانب وإنشاء المطار بدأت تظهر هنا وهنالك مبان ذات طابقين.
وتطرقت الكاتبة إلى ما كانت تعانيه زوجات كبار الموظفين اللواتي كان عليهن التحضير والإشراف على حفلات الاستقبال والعشاء الرسمية التي كان يقيمها أزواجهن بصورة راتبة لا تكاد تتوقف طوال أيام الشهر، علما بأن الحكومة لم تكن تمنح الموظف منهم في عام 1954م غير 10 جنيهات فقط شهريا بدل ضيافة! وكان الترتيب الوظيفي والتقاليد البروتوكولية حاضرة دوما في تلك الحفلات، فكان على زوجة المضيف صغيرة السن (حتى وإن كانت نَعْسَى أو تريد إطعام طفلها الصغيرة) أن تنظر حتى نهاية الحفل أو مغادرة زوجات الموظفات الأعلى رتبة من زوجها.
وكان كابريه / ملهي جيمي من أشهر أماكن الترفيه الشهيرة في سنوات الحكم الثنائي، وكان يملكه ويديره رجل سوري محبوب (بحسب قول الكاتبة)، وكان له دور مهم في رفع الروح المعنوية للأجانب خاصة في سنوات الحرب العالمية الثانية. وفي ليالي الشتاء الدافئة (بالمقاييس البريطانية) كانت تقام حفلات راقصة مفتوحة في الهواء الطلق للاسكتلنديين خلف مبنى الفندق الكبير، ويجلب لها من أسكتلندا مباشرة كميات هائلة من الطبق الأسكتلندي الشعبي الأشهر المسمى هاجيس (وهو خليط من أحشاء وقلوب وأكباد ورئات العجول معجونة مع البهارات والشحم والملح والبصل ودقيق الشوفان يحشي في كرش الحيوان، أو يعمل في شكل نقانق)، ولا يقدم في تلك الحفلات أي مشروب سوى الويسكي الإسكتلندي. وكانت تقدم أيضا وفي أماكن متفرقة (منها "دار الثقافة" و "نادي السودان" مبنى الكاتدرائية) عروضا مسرحية ناطقة وصامتة، خاصة في المناسبات الدينية مثل عيد الميلاد وغيره.
أما أكثر وسائل الترفية شعبية عند البريطانيين والبريطانيات في تلك السنوات فقد كانت ركوب الأنهار (الإبحار) في زوارق صغيرة بحثا عن نسمة هواء رطب بارد، خاصة في أيام صيف الخرطوم اللاهب. وكان "نادي السودان" ينظم مسابقات راتبة للسباق النهري بالزوارق على النيل الأزرق أو حتى شجرة غردون على شاطئ النيل الأبيض (وهي في منطقة الغابة بعد مقرن النيلين).
وعينت الحكومة ومنذ بدايات الحكم الثنائي عددا من الجنائيين (البستانيين) كانت مهمتهم الوحيدة هى الاعتناء بحدائق منازل البريطانيين وريها مرة كل أسبوع للمحافظة على خضرة عشبها. وتقول الكاتبة إن ذلك كان مصدر راحة نفسية لأولئك الموظفين في هذه المنطقة الصحراوية القاحلة. ولعل مسئول المالية الذي صدق بتلك التعيينات كان من المحبين للبستنة!
وفي الفصل الأخير للكتاب لخصت المؤلفة (وبتبسيط مفرط لا يخلو من خَلَل) التطورات السياسية التي حدثت في أخريات الحكم الاستعماري والتي قادها الحزبان الكبيران برعاية من الزعيمين السيد السير على الميرغني باشا والسيد السير عبد الرحمن المهدي باشا (هكذا أوردت المؤلفة اسمى الرجلين وألقابهما) زعيما طائفتي الختمية والأنصار، على التوالي، والتي نتج عنها انقسام الشعب السوداني بين تأييد الإتحاد مع مصر أو الاستقلال التام عن مصر وبريطانيا. أما جنوب السودان (ويمثل نحو ثلث مساحة البلاد)، فقد كان – كما رأت المؤلفة- بمنأي ومعزل عن كل ما كان يجري في الساحة السياسية الشمالية (العربية) آنذاك. وأشارت المؤلفة في إيجاز إلى التأثير الكبير للأحداث السياسية في مصر على السودان، مثل إلغاء رئيس الوزراء المصري النحاس باشا في عام 1951م لاتفاقية الحكم الثنائي بين مصر وبريطانيا التي وقعت في 1899م، وإعلان الملك فاروق ملكا على مصر والسودان، وما تلى ذلك من أحداث معروفة.
وفيما يخص زوجات البريطانيين العاملين بالسودان، فقد انقضت مع بدء تلك المرحلة من الوعي السياسي سنوات الهدوء والراحة النفسية التي عايشهن أولئك النسوة. فقد آذي مشاعرهن– كما ذكرت المؤلفة- أن يقرأن في الصحف المعادية للاستعمار سيلا من الهجوم الضاري على أزواجهن من شباب الوطنيين السودانيين والذين كانوا يصفون البريطانيين بأوصاف لم تخطر لهن على بال من قبيل أنهم أحتلوا البلاد وظلموا أهلها ومصوا دمائهم. وظللن يتسألن: "أذهبت كل تلك السنوات من الرعاية المخلصة والاهتمام البالغ أدراج الرياح؟". وقلن لأنفسهن أنهن احتملن قسوة الطقس وشظف العيش في مدن وبوادي السودان من أجل أهداف نبيلة. أما وقد قوبل كل هذا بالجحود والنكران فلم يعد هنالك من سبب للبقاء في هذه البلاد التي كن قد أحببن أهلها بصدق عظيم. ولعل ذلك كان تصديقا لنبوءة الكاتبة والرحالة الأوربية الشهيرة أوديت كوين
Odette Keun
(1888 – 1978م ) والتي زارت السودان ونشرت عنه كتابا في عام 1930م بعنوان ترجمته الحرفية هي"أجنبية تنظر إلى السودان" (ويمكن ترجمته أيضا إلى "السودان بعيون أجنبية") جاء فيه:" لا أحد يعلم ما سيحدث للسودان (في مقبل السنوات). فقد يتقوض كل هذا الجهد البريطاني العظيم ويذهب أدراج الرياح. ففي العقدين القادمين قد يأخذ مشكل التنافر الناتج عن حكم عرق أجنبي لعرق آخر منعطفا خطيرا. وقد يكتشف حزب وطني فجأة كل مثالب الحكم الأجنبي ومخازيه، وينسى كل ما قدمه من خير لبلاده. ولن يجد البريطانيون أمامهم في تلك الحالة من حل سوى الانسحاب من البلاد. وإن حدث الإنسحاب البريطاني من السودان قبل الأوان فلن يلق السودان غير الكوارث والتراجع والانتكاس".
alibadreldin@hotmail.com
////////