من كتاب الصحافة السودانية والانظمة الشمولية

 


 

صديق محيسي
2 October, 2016

 

وجه في الزحام : مصطفي امين باني صرح وكالة سونا

في سعيِّه للسيطرة على وسائل الإعلام ضمن شموليّة النظام الجديد، أنشأ الرئيس الراحل جعفر محمّد النميري وكالة السودان للأنباء في 1/1/1970 وذلك في خطاب شهير له بمدينة الأبيّض بمناسبة أعياد الاستقلال." وتم افتتاح (سونا) رسمياً في العيد الثاني (لثورة) مايو في العام 1971م، وفي 21 سبتمبر 1970م أصدرت الوكالة أول نشرة إخبارية باللغتين العربية والإنجليزية".
وصدر "أول قانون لوكالة السودان للأنباء في 19/11/1973م، وعندما صدر قانون الهيئات العامة لسنه 2003م كان لا بد للوكالة من توفيق أوضاعها بإلغاء قانون عام 1998م، وإصدار أمر تأسيس يتّسق وأحكام قانون الهيئات الجديد، فأجاز مجلس الوزراء في 11/2/2007م أمر تأسيس الهيئة العامة وكالة السودان للأنباء".
هذا ما ذكره موقع سونا الإلكتروني الَّذي تجاهل عن عمد تفاصيل هامة ارتبطت بهذه المؤسسة الإعلامية، أبرزها الدور الكبير الَّذي لعبه الصحفي الأشهر مصطفى أمين عثمان في بناء هذا الصرح. وذلك أمر سنجيء إليه - لاحقاً - عندما نسلط الضو على الوظيفة السياسيّة والإعلامية التي رسمها النظام لسونا، لكن قبل أنْ نخوض في هذا الموضوع، علينا الرجوع قليلاً للوراء لنكشف عن بدايات وكالة السودان للأنباء، ففي بداية ستينيات القرن الماضي قرر وزير الإعلام الراحل عبد الماجد أبو حسبو إلغاء قسم الإعلام الخارجي بالوزارة وتحويله إلى وكالة رسمية للحكومة، وقد جري ذلك عبر اتفاقية ثقافية أبرمها السودان مع دولة تشيكوسولوفاكيا الاشتراكية، كان في مقدمتها قيام هذا المشروع الَّذي أوكلت مهمة تنفيذه لوكالة " تشيكا" التشيكية وهي أقدم وكالة أنباء في منظومة دول المعسكر الاشتراكي في ذلك العصر، وبالفعل ابتعث أبو حسبو عدداً من صحفيي قسم الإعلام الخارجي ليتدربوا في تلك الوكالة في براغ، غير أنّ الانقلاب الَّذي قاده العسكريون اليساريون في عام 1969 جمّد المشروع ولم يلغه، ولكنه بنى عليه فبرزت مرة أخرى فكرة وكالة رسمية للنظام، وهي الفكرة التي بادر بها الصحفي الراحل عبد الكريم المهدي الَّذي أُممت وكالته الإخبارية الخاصة (وكالة الأنباء السودانيّة) ضمن موجة التأميمات التي شملت الصحف ووكالات الأنباء الخاصة .
تسلم عبد الكريم المهدي مهمة إنشاء وكالة السودان الرسمية الجديدة بقرار من وزير الإعلام اليساري محجوب عثمان في بداية عهد السلطة المايوية، واستعان المهدي ذي الميول القوميّة الناصرية بخبراء من وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية لتأسيس المشروع الجديد، وبذلك يصبح عبد الكريم المهدي هو أول مؤسس لوكالة السودان للأنباء التي كانت تتبع وزارة الإعلام، وهذا ما يفسر أنّ بداية كادرها الصحفي كان قوامه صحفيون من قسم الإعلام الخارجي للوزارة الَّذي تم حله ودمجه في الوكالة.
بدأت وكالة السودان للأنباء عملها في مكتب صغير كان تابعاً لمصلحة المكاييل والموازين في شارع الجامعة، وكان من أشهر صحفييها المؤسسين يوسف الشنْبَلي، وحسني حوَّاش، ومحمّد عبد السيد،وعباس القاضي وعاصم وديدي، وعبد الله وداعة، ومحمود محمّد مدني، وفاروق محمّد ابراهيم وكاتب هذه السطور.
سارت الوكالة على نفس خُطى وكالة عبد الكريم المهدي المؤمّمة، وصارت تصدر بالرونيو نشرتين يوميتين باللغة العربية والإنجليزية، توزع على الصحف والدوائر الحكومية باعتبارها المرجعية الوحيدة للأخبار الرسمية للنظام الجديد، وهو ما جعل الصحف لاتنشر أخباراً رسمية إلا من سونا ضمن مشروع الإعلام الشمولي الموجّه الَّذي اختطه نظام مايو"الثوري".

لم يمكث عبد الكريم المهدي طويلاً في موقعه كمدير للوكالة في إطار الصراع الَّذي بدأ يظهر بين الشيوعيّين والتيار العروبي الناصري في النظام، فأطيح به وجيء بمصطفى أمين ليحل محله بعد أنْ كان نائباً له، وبدا واضحاً أنّ وزير الإعلام الجديد عُمَر الحاج موسي الَّذي خلف الوزير اليساري محجوب عثمَّان أراد أنْ يتخلص من العروبيين واليساريّين في وزارته في توجُّه جديد للنظام معاد للشيوعيين، وهكذا آلت أمور الوكالة لمصطفى أمين الصحفي المهني المحترف اليميني والمعادي بدوره للشيوعيين والناصريين معاً.
مهنياً انهمك مصطفى أمين من أول يوم تسلّم فيه إدارة الوكالة في رسم استراتيجية جديدة لها، فنقلها من مشروع تابع تبعية كاملة لوزارة الإعلام إلى مؤسسة ذات صفة اعتبارية ضمن قانون المؤسسات الَّذي أصدره الرئيس نميري، واستطاع أمين بذلك أنْ ينقل مبناها الصغير من شارع الجامعة إلى مبنى جديد من ثلاثة طوابق في تقاطع شارع الجمهورية، ومن هناك بدأ حركة تطوير واسعة أهمها تزويد الوكالة بشبكة كبيرة من نظام التليكس فأصبحت تبث ولأول مرة أخبار السودان للخارج، كما تم ربط الوكالة عبراتفاقيات عالمية مع وكالات شهيرة مثل رويتر، والفرنسية، والاسوشويتد برس واليونايتد برس، وإقليمياً مع وكالات عربية مثل، وكالة أنباء الشرق الأوسط، والعراقية، والسورية، ومحلياً ربط مصطفي مركز الوكالة بمكاتب فرعية لها في عدد من العواصم الإقليميّة مثل، وادمدني، وعطبرة، وبوتسودان، والأبيّض، والفاشر ونيالا، وجوبا، وصارت هذه المكاتب المزوّدة بأجهزة اتصال حديثة تضخ يومياً أخبار الأقاليم في تغطية نادرة لم تشهدها وسائل الإعلام السودانيّة من قبلْ.
وفي الخرطوم استطاع مصطفى أنْ يزوِّد الوكالة بأسطول من السيارات بلغ أكثر من اثني عشر سيارة وجهّزها بأجهزة اتصال حديثة مرتبطة بغرفة عمليات في المركز.
وملاحقة للتطور التكنولوجي وفي اول إنجاز سبق به وكالات ابناء عربية وافريقية مشهورة زوّد كلَّ صحفي بجهاز اتصال صغير "بلْيب" ليتسنى الاتصال به في أي مكان، فعل مصطفى ذلك قبل أنْ تعرف دول الخليج الثريّة هذا الجهاز، ولأول مرة في العالم العربي ايضا ادخل نظام الصورة عبر الأقمار الصناعية، وطبِّق هذا النظام في زيارة النميري إلى الصين بداية ثمَّانينيات القرن الماضي، عندما تم استقبال أول صورة للرئيس وهو يصافح نظيره الصيني.
ومن جرّاء ميزانية مفتوحة خاصة، وبدعم من الرئيس النميري شخصيا استطاع مصطفى أمين أنْ يجعل من الوكالة جهازاً جبّاراً ومؤثراً في صنع سياسات النظام، فقد تحوّلت الوكالة من كيان إعلامي إلى كيان سياسي يهابه المسؤولون ويتودّدون إليه، وكم كانت الوكالة سبباً في الإطاحة بوزراء ومسؤولين لم يحسنوا التعامل مع إدارتها، وبهذه المكانة أسبغ النميري على مديرها درجة وزير دولة فازدات بذلك قوةً وتأثيراً. وعند اكتشاف البترول وضع مديرها(الوكالة) زجاجات في داخلها عينة من البترول المنتج في صندوق زجاجي أمام مدخل الوكالة كدعاية للنظام وموحياً للمارة بأنّ السودان قد دخل عصر البترول.

لم يقتصر دور وكالة السودان للأنباء على وصفها ناقلاً للأخبار فقط، بلْ أدخلت رأسها في عالم الاستخبارات، فانعقدت بينها وبين جهاز الأمن علاقة جديدة صارت بها أداة مهمة تمد الجهاز بالمعلومات عن أي شيء له علاقة بالنظام، وخصصت نشرة خاصة للرئيس وكبار المسؤولين تنشر الأخبار المناوئة للنظام وأمعنت الوكالة الخوض في هذا البحر، فصار جهاز الأمن يرسل من خلالها شفرات تقاريره الخارجية عندما تكون أجهزته متعطلة، ومن الحقائق المهمة التي لايعرفها الكثيرون، أنّ وكالة السودان للأنباء كانت تنقل للرئيس نميري وهو في رحلته إلى الولايات المتحدة أخبار الانتفاضة الشعبية التي أطاحت به لحظة بلحظة، وكانت ترسل له صور المسيرات الشعبية مُصوِّرة له أنّها مسيرات مؤيّدة له، وهو ماجعل النميري يقرر العودة إلى البلاد قبل أن يمنعه نظام حسني مبارك من ذلك.

وتطوّرت العلاقة مع جهاز الأمن لتفتح الوكالة في بداية ثمَّانينيات القرن الماضي مكتباً لها في نيروبي يُموِّله الجهاز , وتناوب عليه صحفيون تتوافر فيهم شروطاً أهمها سرية العمل واستمرهذا المكتب الأمني حتي بعد سقوط النميري، وجري تعزيزه أكثر عندما تسلمت حكومة الجبهة القوميّة الإسلاميّة الحكم، ليتابع دوره في التجسس على الحركة الشعبية. بعد سقوط نظام النميري إثر الثورة الشعبية في عام 1984، اعتقل مديرها مصطفى أمين بتهمتي الفساد ومساندة النظام، غير أنّ التحقيق معه لم يتوصل إلى شيء، فأفرج عنه ليلزم منزله منذ ذلك الوقت.
لم تُول أول حكومة حزبية أي اهتمام بالوكالة ودارحولها صراع حزبي، فتعاقب على إدارتها أكثر من ثلاثة مدراء ,وبسبب ضعف ميزانيتها ومحاولة اسلمتها بدأت الشيخوخة تدب في أوصالها، فتدن أداؤها، وانهارت شبكة اتصالاتها، وتحطّم اسطول سياراتها، وهاجرمعظم كادرها المؤسس المُدرَّب إلى دول الخليج، وصارت وتيرة التدهورتتسارع حتي طردت من مبناها لتحتل مبنى صغيراً بالقرب من وزارة الخارجية. وقد حاول التوم محمّد التوم أول وزير إعلام في العهد الديمقراطي إعادة مديرها السابق مصطفى أمين لينقذ مايمكن انقاذه إلا أنّ مصطفي امين اشترط أنْ يُعاد بأمر جمهوري مثلما عيّنه النميري بأمر جمهوري، كما اشترط تعويضه عن فترة اعتقاله، فصُرف النظر عنه، واستمرت الوكالة في تدهورها ولم تعد مصدراً وحيداً للأخبار بعد عودة الديمقراطيّة وصدورعشرات الصحف التي كسرت احتكارالأخبار .
من المساويء التي ارتكبها المديرالسابق، فصله أكثر من عشرة صحفيّين نقابيّين مُعارضين للنظام بتوجيهات من وزير الإعلام – يومذاك- الدكتورإسماعيل حاج موسي، وكانت كل جريرتهم أنّهم فازوا في انتخابات نقابة الصحفيّين بهزيمتهم عناصر النظام الَّذين شكّكوا في أنْ يكون صحفيو الوكالة تنطبق عليهم شروط الصحفيّين.
تسارعت خطوات الوكالة في طريق الانهيار، وذلك عندما تسلّم الإسلاميون الحكم عن طريق الانقلاب العسكرى في عام 1989، فجرى فصل كل الكوادر من غيرالحزبيّين لتحشد بعناصر مسيسة لاتملك التأهيل أو الخبرة، وزِيد الطين بِلّه عندما تولى إدارتها قياديون لاعلاقة لهم بمهنة الصحافة، فسخّروا الوكالة لخدمة أجندتهم السياسيّة دون إيلاء المهنية أى اهتمام. وفي إطارالصراع عليها ضَعُف أداؤها، وجفّ موردها المالي لدرجة أن أحد مديريها باع أثاثها في الدلالة، ولكن الضربة القاضية جاءت لسونا عندما أطلق جهازالأمن التابع للنظام وكالة أنباء جديدة أطلق عليها اسم (المركز الإعلامي للخدمات الصحفية) والَّذي صارناطقاً رسمياً باسم جهاز مخابرات النظام، يزوده بالأخبارالموجهة التي يريد الجهاز بثها بين الناس، ومنذ تأسيس هذا المركز تراجع - إلى درجة كبيرة - دور الوكالة، وصارت تنشر الأخبار البروتوكولية مثل، الاجتماعات الرسمية واستقبالات الرئيس الدبلوماسية، ونضب معينها المالي في غمرة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمسك بتلابيب النظام، تلك كانت سياحة تاريخية أردنا بها تسجيل ما تيّسر من مسيرة وكالة السودان للأنباء(سونا).


S.meheasi@hotmail.com

 

آراء