The Death of Bassiouni: A case of Complex Identity in the Sudan روبرت كرامر Robert Kramer ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذا هو الجزء الأول من ترجمة لغالب ما جاء في مقال البروفيسور روبرت كرامر عن أحد الشخصيات اليهودية في السودان، نشر في العدد التاسع والأربعين من "المجلة الكندية للدراسات الأفريقية Canadian Journal of African Studies" الصادرة عام 2015م. وذكر الكاتب أن كل المعلومات الواردة في مقاله هي حصاد مقابلات مع عائلة بسيوني، أجراها في الخرطوم ولندن في عامي 1986 و1987م، وفي اتصالات أجراها معهم لاحقا. ويعمل البروفيسور روبرت كرامر أستاذا لتاريخ الشرق الأوسط وأفريقيا بكلية سانت نوربينت بولاية وسيكنسون الأمريكية، ونشر - منفردا وبالاشتراك - عددا من الكتب والمقالات عن تاريخ السودان، خاصة في عهد المهدية، وعن الطريقة التيجانية في غانا. ومن أمثلة أعماله كتاب بعنوان "أم درمان مدينة مقدسة" ومقال (سبق لنا ترجمته) عن "استسلام وجهاء أم درمان". المترجم ***** ***** **** توفي في الخامس عشر من مارس عام 1987م رجل الأعمال المتقاعد داؤود موسى بسيوني (المعروف أيضا باسم ديفيد موشيه بسيوني) في داره بالخرطوم عن عمر يناهز الواحد وثمانين سنة، وعن سبعة من العِيَال، بعد علة مُزْمِنٌة. وظل الرجل اليهودي الممارس لطقوس ديانته، والذي ترأس في أعوام سابقات الجالية اليهودية في السودان، مسجًّيا في سريره، يستمع لتلاوة من الصلوات اليهودية، ومن آيات القرآن أيضا. وكان آخر ما سمعه قبل أن تصعد روحه إلى بارئها آيات من القرآن تلاها عليه زوج سوري لإحدى بناته. وعم سريعا خبر وفاته في المدينة، وتداعى لداره في صبيحة اليوم التالي جمع غفير من أفراد عائلته وأصدقائه لتحضير الجنازة للدفن (أخبرني أحد الأصدقاء بأن الرجل كان قد كفن فى ثوب (سرتى)، وهو عادة من ثياب الزفاف قديما. المترجم). وفي ختام نشرة العاشرة صباحا في إذاعة أم درمان أعلن المذيع عن وفاة "أحمد داؤود بسيوني"، الاسم الاسلامي للرجل. وتلقى البعض ذلك الخبر بكثير من الحيرة والارتباك. غير أن ابن بسيوني الأكبر رسم ابتسامة عريضة على وجهه وهو يتساءل بصوت مسموع إن كان والده يهوديا أم مسلما؟ غير أن ما سأل عنه الابن لم يكن أمرا طريفا كما قد يبدو. وإن طرحنا جانبا أمر حياة بسيوني الروحية ولغة الصلوات والأدعية التي تليت أمامه وهو على فراش الموت، جاز لنا أن نسأل عن سبب تخيل (أو ربما حاجة) إذاعة أم درمان لإذاعة نبأ وفاته بحسبانه رجلا مسلما. لا ريب أن الإسلاموية (Islamism) كانت في تصاعد مضطرد في عام وفاة الرجل (1987م)، وكان رئيس الوزراء الصادق المهدي يقف موقف المدافع، وقد تناقصت أعداد اليهود بالبلاد حتى قاربت الصفر، وبيع المعبد اليهودي بالبلاد، ثم هدم بعد ذلك بسنوات قليلة. وفي غضون تلك الأيام بدأ الأقباط المسيحيون في الشعور بأن ثمة أخطارا قادمة تهدد وجودهم. ورغم كل ذلك، لم يكن من المعتاد أن تغير أسماء الموتى عند إذاعة نعيهم في إذاعة أم درمان، خاصة وأن عائلة بسيوني كانت عائلة قديمة ومعروفة وتجد الاحترام من الجميع، وتشارك بفعالية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية في البلاد. ولعل أحد الأسباب الممكنة لإذاعة نبأ وفاة بسيوني على أنه رجل مسلم – والمصالح السياسة المترتبة على ذلك – نبعت من الرغبة في عد بسيوني واحدا منهم ... كرجل سوداني. بالطبع كان بسيوني سودانيا بالتراث والميلاد والإقامة والجنسية: هذا أمر شديد الوضوح. غير أن ما كان واضحا أيضا هو أن معنى أن تكون "سودانيا" قد غدا أمرا مختلفا عليه منذ أن أمر الرئيس جعفر النميري بتطبيق قوانين الشريعة في عام 1983م، وعودة الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، تلك الحرب التي أفضت في 2011م (بعد نحو 27 عاما من القتال) إلى فصل البلاد إلى قطرين. ومن المثير للاهتمام أن عائلة بسيوني كانت، لوقت طويل، تعني أشياء مختلفة لأناس كثيرين. لذا فإن تاريخ عائلة بسيوني وموت كبيرهم يوفران فرصة ممتازة لدراسة الطبيعة الزئبقية لحالة كون المرء "سودانيا". ولعل مثل هذا التمرين مناسب تماما لهذا الوقت الذي ينبغي فيه على السودان وجنوب السودان الاعتراف بمسألة تباين الهويات، إن كانا يأملان في تعايش سلمي، أو حتى في مجرد البقاء كدولتين منفصلتين. ولد رب عائلة بسيوني موشي بن صهيون كوشتي في حوالي عام 1842م في مدينة الخليل بإقليم السنجق الواقع تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية، لأب يعمل حاخاما سفارديا Sephardic (ينحدر السفارد من اليهود الذين أخرجوا من إسبانيا والبرتغال في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ثم استقر بهم المقام في منطقة حوض البحر المتوسط والبلقان وبعض المناطق الأخرى. المترجم). ويقول بعض أفراد عائلته بأن جيلين من هذه العائلة كانا قد عاشا من قبل في الأناضول، ثم هاجرا منها لروسيا، حتى استقر بهما المقام في فلسطين. وعمل بسيوني لمدة قصيرة موظفا في الإدارة العثمانية، وتزوج في ذات الفترة بابنة عمه / خاله (cousin) اليهودية، من أهالي أزمير، واسمها باخورة. ثم ارتحل إلى مصر مع زوجه للعمل في التجارة. وهنالك وفق في أن يكون وكيلا لشركة تجارة مصرية كانت لها أعمال تجارية في السودان إبان الاحتلال التركي – المصري. ثم قدم موشي إلى السودان حيث عمل في التجارة بمنطقتي الخرطوم والجزيرة، وتبعه في الهجرة للسودان من بعد ذلك عدد من تجار اليهود بالإسكندرية. وأقام موشي في داره معبدا (يهوديا) صغيرا لرفاقه يغشونه للصلاة. ولم يطلع كاتب هذه السطور على أي وثائق عن بن صهيون أو الجالية اليهودية في السودان في تلك الفترة الباكرة، خلا إشارة ذم واستخفاف بالتجار اليهود في السودان في خطاب بعث به المراسل الحربي البريطاني فرانك باور في عام 1885م، ورد في صفحتى 25 - 26 في كتاب صدر في لندن بعنوان "رسائل من الخرطوم كتبت أيام الحصار Letters from Khartoum written during the siege". ومن غير الممكن الآن معرفة عدد اليهود بالسودان في ذلك الوقت على وجه الدقة. غير أن تعدادا حديثا لهم يعتمد على الذاكرة وليس على التاريخ يزعم بأنه كان هنالك في تلك السنوات ثمان "عائلات يهودية أصلية" في الخرطوم، غير أنه ما دليل أكيد على صحة ذلك الرقم. وذهب تقرير للمخابرات البريطانية كتب بُعَيدَ "استعادة" السودان على يد القوات الإنجليزية المصرية في 1898م إلى أن هنالك تسع رجال من اليهود في كل من الخرطوم وكردفان وبربر وكسلا، مع أفراد عائلاتهم الذين نجوا من فترة المهدية. غير أنه ما من مصدر موثوق يؤكد صحة تلك الأرقام (أشار الكاتب هنا لكتاب إيلي ملكا عن يهود السودان، الصادر عام 1997م، والذي ذكر أنه كانت هنالك ثمان عائلات يهودية في أم درمان قبل ظهور المهدية، وهو أمر لا يصدق، إذ لم تكن أم درمان حينها غير قرية صغيرة جدا، وكذلك لاختلافات كثيرة بين ما ورد في ذلك الكتاب وبين ما ورد في تقرير المخابرات البريطانية ومذكرات بابكر بدري باللغة الإنجليزية، التي ذكر فيها المترجم والمحرر عن أعداد اليهود بالسودان واسمائهم ما لم يرد في تلك المذكرات بلغتها الأصلية. المترجم). وظهر محمد أحمد بدعوته للمهدية في 1881م، وأفلح في غضون السنوات القليلة التالية في الانتصار على الحكم التركي – المصري في كثير من أنحاء السودان، وعلى حصار العاصمة. وأخذت تلك التطورات بن صهيون على حين غرة، بيد أنه لم يقم – مبلغ علمنا – بأي محاولة للهرب من السودان والعودة لمصر. وفي أثناء حصار الخرطوم عام 1884م، كان بن صهيون من ضمن التجار الذين قدموا قروضا لحاكم عام السودان، شارلس غردون، لشراء مواد غذائية لسكان العاصمة المحاصرة (أشار الكاتب في الهامش إلى أن عائلة بسيوني لا تزال تحتفظ بالسند المالي / الكمبيالة التي وقعها غردون متعهدا فيها بسَدّ ذلك القرض، وكان من المفروض أن تقوم الحكومة المصرية بتسديدها. غير أن عائلة بسيوني لم تتقدم – كما يبدو – بمثل تلك المطالبة قط. المترجم). ولم يكن بن صهيون وزوجه باخورة من ضمن المجموعة الصغيرة من المدنيين (وغالبهم من الأغاريق) الذين فروا من البلاد على ظهر باخرة حكومية في 1884م، والذين اصطادتهم قوات المهدي وقتلتهم. وبحسبانهما من اليهود السفارد فقد كان بن صهيون وزوجه يعدان من مواطني الإمبراطورية العثمانية، وليسا من الأوروبيين ولا من قوات الحكومة الذين كان غردون حريصا على إجلائهم لمصر. ونجا بن صهيون من العنف الذي صاحب سقوط (فتح) الخرطوم في 26/1/1885م، غير أنه ظل – كغيره من الأجانب - مسجونا عند قوات النظام الجديد. وقيل إن المهدي شخصيا هو من أمر بتغيير اسمه إلى الاسم العربي الأقرب لاسمه اليهودي، وكان اسمه الجديد هو "موسى عبد القادر بسيوني" (علما بأنه كان هنالك من حملة الجنسية المصرية من يحملون نفس اسم بسيوني). وظل اسم " موسى عبد القادر بسيوني" هو الاسم الرسمي للرجل حتى ساعة وفاته. كذلك تحول بسيوني، بأمر من المهدي، إلى الإسلام، مثل غيره من كل اليهود والمسيحيين الذين قبض عليهم بعد سقوط (فتح) الخرطوم، وصاروا من "الأنصار" (علق الكاتب في الهامش على إكراه المهدي لغير المسلمين على الدخول في الإسلام مستشهدا بالآية "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ..."، وزعم أن ذلك كان بسبب تطبيق المهدي للسنة، ورفعها لمقام أعلى من القرآن. المترجم). وعقب وفاة المهدي المفاجئة في يونيو من عام 1885م، أمر خليفته عبد الله إخلاء العاصمة القديمة والانتقال لأم درمان. وبالفعل انتقل بن صهيون (الآن بسيوني) إلى عاصمة المهدية أم درمان مع بقية سكان الخرطوم في الفترة التي أعقبت يوم 27 يونيو من نفس العام. ألفت الكثير من الكتب والمقالات عما كابده أسرى المهدية بين عامي 1885 – 1898م، بناءً على ما ذكره حفنة من المساجين والأسرى الأوربيين، والذين تعرضت كتاباتهم لكثير أو قليل من "التحرير والحذف والاضافة"، أو شارك وينجت باشا مدير المخابرات المصرية في كتابتها ونشرها. غير أن عرض أولئك الكتاب للحياة في أم درمان لم يصمد أمام النظر الفاحص المحايد. ولا ريب أن كل فرد في أم درمان قد تعرض لمصاعب ومتاعب عديدة في غضون أعوام المهدية الثلاثة عشر بسبب الحروب المتوالية، والتحولات الديموغرافية، والحكومة غير المستقرة، والتجارة غير المنتظمة، وبسبب الجفاف والمجاعة. ولا شك أن سكان أم درمان من غير السودانيين ممن لم تكن لهم عائلات أو روابط قبلية تسندهم كانوا أكثر تعرضا للمعاناة من غيرهم. غير أنه من الثابت أيضا أن أولئك الأجانب الذين تحولوا للإسلام حديثا (وعرفوا جماعيا بالمسالمة أو المسلمانية) أفلحوا في ترتيب أوضاعهم بأنفسهم والتخفيف من معاناتهم المعيشية. فقد دخل هؤلاء اليهود مع السوريين والأرمن والأقباط والأغاريق والمصريين في الاقتصاد المحلي، وأقام بعضهم روابط اجتماعية قوية مع بعض العائلات السودانية المعروفة، وعينت الإدارة المهدية بعضهم في وظائف كان من أهمها دار الخزانة المعروفة بـ "بيت المال". وعمل بسيوني في عهد المهدية ضمن مجموعة الأجانب الذين عملوا في "بيت المال". وعلى سبيل الاعتراف بتأثيره وسمعته في أوساط المسالمة، عينه الخليفة عبد الله في مجلس للشورى كان يسمى مجلس "العشرة الكرام"، وكان هو الأجنبي الوحيد الذي حظي بذلك الشرف. وكان ذلك المجلس يجتمع بصورة دورية لمناقشة أحوال السوق ومشاكله. وبالإضافة لذلك عهد الخليفة لبسيوني بمهن سرية منها استيراد العطور والأقمشة من مصر عبر ميناء سواكن لزوجاته وأقربائه. ويقال بأن ذلك أتاح لبسيوني الدخول لبيت الخليفة لتلقي طلبات العطور والأقمشة بصورة مباشرة، ومنحه حرية حركة واستقلالية أكبر مما كان مسموحا به لغيره من المسالمة. غير أن كل ذلك لم يعفه من الامتثال والالتزام بقوانين دولة المهدية، التي كانت شديدة الصرامة فيما يتعلق بالقوانين المالية المحددة لاستخدام السلع الترفيهية / الكمالية. فقد سبق أن صادرت شرطة السوق في ثلاث مرات بضاعة بسيوني، التي كانت تتضمن الخمور والسجائر. غير أن عائلة بسيوني تزعم أن بضاعة بسيوني كانت قد صودرت في مرتين، بسبب اكتشاف الأنصار له ذات مرة وهو يؤدي الصلاة اليهودية (كاديش)، وفي مرة أخرى وهو يتاجر بصورة غير قانونية (دون ذكر التفاصيل). ويدل ذلك على أن بسيوني لم يكن فوق قوانين المهدية بأي حال من الأحوال. من المثير للاهتمام بأن اسم بسيوني قد ورد في ثلاث مذكرات لكتاب مختلفين. ولم يسبق لأي أجنبي من غير الأوروبيين في المسالمة أن ذكر بمثل تلك الكثرة. جاء أول ذكر للرجل في مذكرات جوزيف أورفالدر، القس النمساوي الذي كان يعمل مبشرا / منصِّرا في جبال النوبة، وتم أسره من قبل أنصار المهدي في عام 1882م، وقضى في الأسر عقدا كاملا قبل أن يفر إلى مصر. سجل ذلك القس مذكراته باللغة الألمانية، وأعاد وينجت باشا كتابتها وينجت باشا باللغة الإنجليزية، ونشرها باسمه عام 1892م تحت عنوان "عشر سنوات في أسر معسكر المهدي" (للمزيد عن كتابات وينجت التاريخية يمكن الاطلاع على مقال بروفيسور دالي المترجم بعنوان: "الجندي بحسبانه مؤرخا: فرانسيس ريجلاند وينجت ومهدية السودان". وورد في تلك المذكرات ما نصه: "وصل إلى كسلا في عام 1891م تاجر يهودي قادما من مصوع. وكان أمير كسلا أبو قرجة يرغب في البدء في إقامة علاقات تجارية مع مصوع عبر التجار اليهود وغيرهم من غير المسلمين ليأتوا لكسلا ويعرضوا بضاعتهم فيها، وأن يدخلوا لمناطق أبعد في داخل البلاد. ولما فرغ اليهودي من بيع كل ما كان معه من بضائع، نصحه أبو قرجة بالذهاب لأم درمان. وعند وصول الرجل لأم درمان مثل أمام الخليفة، الذي أستدعى يهوديا آخر يدعي بسيوني كان مسئولا عن القادمين الجدد ...". أما القس الإيطالي باولو روسيقونولي (أحد قساوسة كمبوني الذي قدم للسودان في 1880م وعمل في مجال التبشير/ التنصير في جبال النوبة) فقد أسره أنصار المهدي في الأبيض في عام 1883م، وظل في الأسر لإحدى عشر عاما قبل أن يفر إلى مصر. نشر القس الإيطالي يومياته باللغة الإيطالية في 1898م (للمزيد عن هذه اليوميات يمكن النظر في المقال المترجم بعنوان: "أمدرمان أيام المهدية: ملخص لبعض ما جاء في كتاب للأسير الإيطالي س. روسيقونولي". المترجم) جاء في يوميات الأب روسيقونولي أنه كان يرغب في فتح مطعم بسوق أم درمان يعينه على أمور العيش غير أنه كان معدما ليس معه ما يبني به غرفة خشبية يقيم فيها مطعمه. وأضاف: " أقترح علي الأب اورفالدر أن أطلب العون من يهودي يقال له بسيوني عرف عنه حب عمل الخير. لم أكن أعرف الرجل، وشق على نفسي أن أشحذ من يهودي. وقضيت وقتا طويلا وأنا أتفكر في مسألة سؤال ذلك الرجل وأقلب الأمر في عقلي. وتغلبت أخيرا على نفوري من السؤال، فذهبت إليه وطلبت منه قرضا قدرة عشر طالرات (الطالر هو نقد جرماني فضي). رد عَلَيَّ بسيوني بأنه من أصل إيطالي ومن منطقة لافورنو. واكتشفت أنه يجيد التحدث بلغتي بدرجة متوسطة، وأخبرني بأنه تزوج بامرأة من سيمرانا. وقبل الرجل عرضي ومنحني بكل أريحية ولطف ما طلبته من مال، بل قال لي إن المبلغ هو هدية منه لي. والحق يقال فقد كان الرجل كريما، إذ كان يصر على رفض استلام المبلغ الذي اقترضته منه في كل مرة أحاول فيها رد دينه". وأخيرا، أورد بابكر بدري، أحد أنصار المهدي المخلصين، في مذكراته التي كتبها باللغة العربية بين عامي 1944 و1953م أنه قام باستئجار دكان صغير في سوق أمدرمان من بسيوني. وبحسب قوانين ونظم المهدية لم يكن هذا ممكنا إلا إذا كان لبسيوني القدرة المالية لشراء حق تملك محل تجاري بالسوق من "بيت المال". وهذا دليل على أن بسيوني كان عنده ما يكفي من النفوذ والمال لخلق حياة مريحة (رغم عدم تمام ضمان استمراريتها) في وسط كل أجواء عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي كان سائدا في تلك السنوات. وكان من ضمن ممتلكات بسيوني وعائلته في فترة المهدية أحد المسترقين، واسمه آدم سليمان عبد الله، من أهالي كتم بدارفور. وكان بسيوني قد ابتاعه في عهد الحكم التركي – المصري، إبان حكم رؤوف باشا (1880 – 1882م). وقد شهد آدم فيما بعد بأن "العرب" قد اختطفوه وهو صبي في عمر التاسعة أو العاشرة، وجلبوه بضاعة للخرطوم لعرضه للبيع. وعقب سقوط (فتح) الخرطوم، صودرت أملاك بسيوني (ومن ضمنها آدم) وأودعت في "بيت المال". غير أن بسيوني أفلح لاحقا في استعادة ما (ومن) صودر من أملاكه، وعاد بآدم لداره في أم درمان. وعمل آدم في تجارة "سيده" بسيوني، إذ كان الأخير يبعث به لسواكن (وللحدود السودانية المصرية في بعض الروايات) لجلب العصور والأقمشة. (ذكر الكاتب في الهامش أنه تحصل على هذه المعلومات من هلالة بنت آدم سليمان في مقابلة شخصية له معها في الأول من يناير عام 1987 في الخرطوم. وذكر أن خاطفي آدم وهو صغير قد يكونون من "أولاد العرب" من رجال القبائل الرحل، أو تجار (جلابة) من الشمال. فأي من هؤلاء هم "عرب" في نظر صبي من تلك المنطقة. المترجم). قالت هلالة بنت آدم سليمان أيضا إن والداها كان يسافر لأي مكان يسمع بوجود "بضاعة ممتازة" فيه). وبقي آدم سليمان في خدمة بسيوني إلى أن توفي الأخير في عام 1921م. بعد ذلك انتقل آدم لمنزله الخاص في أم درمان. وليس لنا الآن سوي أن نخمن وضع آدم بالنسبة لبسيوني. ففي شهادة مثيرة ذكر آدم، بعد أن أقسم على قول الصدق وختم ببصمة إبهام يده أمام مسؤول حكومي في يوم 4 /6/1959م، بأنه "آدم سليمان عبد الله الكنجاري، المعروف بآدم بسيوني". وتحتفظ عائلة آدم بتلك الشهادة الرسمية الموثقة. وأكد آدم أيضا في شهادته بأنه نشأ على أنه "موسى بسيوني". وذكرت بنت آدم (المولودة من امرأة من جنوب السودان) التي كانت تعمل في بيت بسيوني أنها نشأت في بيت بسيوني وظلت تعتبره وتناديه "جدي"، وتعد أولاده إخوانا لها. غير أنه من الواضح أن علاقة آدم وبنته بعائلة بسيوني كانت علاقة "سيد بخادم" أو "رئيس ومرؤوس". ففي عهد المهدية (وربما العهد الذي تلاه) كان آدم سليمان يعد قانونا من "ممتلكات" بسيوني، ويقوم بأداء أعمال مالية مفيدة له. غير أن هذا لا ينفي بتاتا ما كان يشعر به آدم وبنته من أنهما فردين في عائلة بسيوني طوال السنوات التي عاشها معهم. وهذا يدخل في باب العلاقة بين "السيد" و"المسترق"، وهي علاقة معقدة ومعروفة في سودان القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وربما في كل أرجاء العالم أيضا. أما في ناحية الدين، فقد كان بسيوني بالطبع يقدم نفسه للناس على أنه رجل مسلم، وكان يداوم على الصلاة مع بقية الأنصار في مسجد الخليفة بوسط أم درمان. وكان ذلك أمرا مهما يتعلق بنجاته وسلامته الشخصية في ذلك الوسط المسلم. وما من شك في أنه ظل يكتم إيمانه بعقيدته اليهودية، محافظا على طقوسها وصلواتها وأعيادها في بيته بعيدا عن أنظار الأنصار. بل وكان يعقد مراسم الزواج سرا لأهل طائفته ضمن عشرة من الشهود (يسمون ذلك في اليهودية minyan) ما وسعته الحيلة. وقيل إن الخليفة عبد الله كان على علم بما كان يدور في أوساط المسالمة من ممارسات لا تتفق مع قوانين المهدية، غير أنه كان يتغاضى عن كثير من ذلك لرغبته في الاستفادة من خبرات هؤلاء الأجانب في تحريك عجلات اقتصاد الدولة. وكان ينصح المسالمة بأن "يبقوا ما يعتقدون فيه سرا في قلوبهم، وألا يشيعوه بين أنصاره". غير أن الأسرى الأوروبيين، بحسب ما ورد في مذكراتهم المنشورة، لم يكونوا يلقون مثل ذلك التساهل والتسامح. ولا عجب في ذلك، إذ إن دورهم في اقتصاد الدولة لم يكن دورا كبيرا أو مؤثرا. ويمكن أن تقارن "المرونة الدينية" عند بسيوني مع سيولة / ميوعة هويته العرقية. فالنسبة لزوجه واليهود الآخرين في عهد المهدية كان بسيوني رجل يهودي من "الخليل"، وذو أصل سفاردي (وربما تجري في عروقه دماء اشكنازية روسية أيضا). وفي ذات الوقت فالرجل من رعايا الإمبراطورية العثمانية، ووصفه اليهودي السوداني إيلي ملكا لاحقا في كتابه المعنون "اليهود في السودان" بأنه تركي الأصل (ترجم مكي أبو قرجة ذلك الكتاب للعربية ونشره عام 2004م. المترجم). وبحسب ما ورد في يوميات القس الإيطالي باولو روسيقونولي، فقد زعم بسيوني أنه له أصلا إيطاليا، وأنه من ليفيرنو. وربما لا تدرك الآن عائلة بسيوني صحة (أو كذب) انتسابه لإيطاليا وليفيرنو. غير أننا يجب ألا نستبعد ذلك جزافا، إذ إن من المعلوم أن ايفيرنو كانت مركزا مهما لليهود السفارد في الإمبراطورية العثمانية في سنواتها المتأخرة. وليهود ليفيرنو صلات قوية بشعوب البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط وغيرهما. ومن الصعوبة أن نتخيل أن بسيوني قد انتحل ذلك النسب والتراث للقس الإيطالي، إذ إن الانتحال – إن حدث - لم يكن ليوفر له أي فائدة أو ميزة على الإطلاق. أما بالنسبة للسودانيين في عهد المهدية فالرجل لم يكن سوى المسلم الأنصاري "موسى عبد القادر بسيوني"، أحد أفراد المسالمة المحترمين في أم درمان، وواحد من المستشارين الذين يوليهم الخليفة ثقته. وفي الحقيقة فإن كل ما ذكر عن الرجل هو صحيح تماما. وإذا أردنا النظر لأمر هويته من جهة أخرى، يمكن القول بأن بسيوني رجل يهودي سفاردي متعلم، كثير الترحال في مناطق مختلفة من العالم، وعابر للأوطان (transnational)، ويجيد التحدث بعدة لغات. وكغيره من اليهود السفاردم، كانت لدية القدرة على التعايش والتأقلم وتبني هويات متعددة ومعقدة، في السودان وفي خارجه كذلك. وبزواجه (الثاني) من امرأة سودانية في غضون سنوات المهدية، غدا عالمه (ووطنه) أكثر تعقيدا.