مُدْخَلاتُ التَّهَيُّؤِ، فَاسْتِجَابَاتُ الرَّحِيْلِ (20)

 


 

 

 

dokahassan@yahoo.com

"... ثُمَّ لمَّا اِمتلأَ البحرُ بأسماكِ السَّماءِ، واستفاقَ الجَرسُ النَّائمُ في إشراقةِ الماءِ، سألْتُ ما سَألْت: هلْ تُرى أرْجعُ يوماً، لابساً صَحْوِيَ حُلْماً، حاملاً حُلْمِيَ هَمَّاً، في دُجى الذَاكرةِ الأولى وأحلامِ القبيلة، بين مَوتايَ وأشكالِ أساطيرِ الطُّفُولة ؟..."

(العَوْدةُ إلى سِنَّار"النَّشيدُ الثَّاني: المدينة" : د. محمد عبد الحي).
قطعاً، وبلا شك يشاغب المسلَّمات، في دروب حياة كل ابن آدم محطَّاتٌ أساسية ذات صبغة دامغة يتوقَّف فيها المسيرُ "هُنيهةً" ليتواصلَ سالكاً منعرجاً آخر من الدروب أو مواصلاً الرحلة بإضاءات حديثة تعاصر "ملبيةً" حاجات ما يستجدُّ من نبضٍ حيوي يتجدَّد مغيراً المعالم، فسنة الحياة هي التغيير والثبات فيها سكونٌ لا يكون إلاَّ لميكانيزماتها التي لا يصيبها التبديل.

والجامعةُ (العاصمة) هي إحدى محطاتك الأساس، حيث النَّقلة الكبرى في شكل الأحداث والأشياء والناس والفعاليات. وتبقى بعضها تأبى إلا أن تكون مساكنها الذاكرة في نُويَّاتها البكر لدائنية المخبر والمظهر لا تعى انزلاق العمر ويائية الحياة. وللمعارف المكتسبة جامعياً الصدارةُ في التَّداعي كامل الصَّفاء والحضور، وذلك لطبيعتها المتحكرة في خطواتك اللاهثة اللاهجة بالسؤال المتجدِّد فيك وأنتَ ترحل "لاحقاً" تختبر القرى والأرياف والبلدات والمدن القصية والدنية، فتمتحنك بدورها لتسعدك أو تُبكيكَ فرحاً أو حزمة حنينٍ مشوب بنوستلجيا الزمان والمكان، فتهتف فيك منك إليك " هلْ تُرى أرْجعُ يوماً، لابساً صَحْوِيَ حُلْماً، حاملاً حُلْمِيَ هَمَّاً ؟!". وأنت ترحل "لاحقاً" بين صحوكَ وحُلمكَ وهمِّكَ، حيث ارتوت بذرة المعرفة فيك بتعهدٍ مخلص أمين من أساتذتك الجامعيين وعلى رأسهم أستاذنا الجليل، صاحب الأدب والذوق الرفيعين كامل الحسِّ الإنساني البديع المتجلِّي في لطافة تعامله وفيضان معارفه الثقافية والأدبية وتجاربه الثرّة المهولة في بلاد الضباب، النائمة على دقات بيك بين وهنا لندن، المغفور له أستاذنا الإذاعي القدير دكتور حسن عباس صبحي، الرجل السودانوي المتحضر ريفي الروح نواحي حلة عباس على أطراف شندي. كانت محاضراته فيضاً من معارف إنسانية حيث يؤمها طلاب المعرفة من كليات أخرى وبعض المتعطشين للعلوم والآداب وهي تتسودن. فبنية محاضراته "تقافزية" استطرادية تأخذك في سياحة فكرية ومعرفية وأدبية وفنية وعامية وفصحى، مشكلةً لوحاتٍ طريةً أنتَ راسمها بأذنيك، متذوقها بلسانك، عاقلها بالفؤاد وسوح المشاعر. فقد كان يحتفى بالصور الشعرية عند الحاردلو ( الشّم خوخت، بردن ليالي الحره، ةالبرَّاق برق من مِنّه جاب القِرَّه، شوف عيني الصِّقير بجناحو كَفَت الفرِّه، تلقاها ام خدود الليلة مرقت برَّه)، " شُوف كَفَت دِي كيف؟ . ما داير ياخي!". أو يُطَوِّفُ بنا في الأندلس، حيث الشاعر الوصَّاف صفي الدين الحِلِّي، (خلعَ الرَّبيع على غصون البانِ، حُللاً فواضلها على الكُثبان. من أبيضٍ يَقِقٍ، وأصْفرَ فاقعٍ، أو أزرق صافٍ، وأحمر قانِ) بتعرفوا الأحمر القاني دا شنو؟ دا لون الدَّم، اللون الأحمر شديد الحُمرةِ، القُرمزي Crimson ، ما داير ياخي!، ( وذلك في تقمُّصٍ يغيبُ فيه ونغيب معه، وهو ينفض يده بلفتة عنقٍ تتقمصان حالة تشتُّت الانتباه، وتشظِّي الثَّبات، وتطاير الزذاذ تحت سطوة وقوع نيزك الجمال على بركة الوجدان. كما وصف الحالة صديقنا د. مازن الدومي، وهو ينتشي قائلاً: ما داير ياخي! أو يحلِّق بك د. صبحي في صور الشاعر السوداني الناصر قريب الله، ( وفَتاةٍ، ثمَّ تجني ثمرَ السُّنط في انفرادِ الغزالِ، تَمنحُ الغصنَ أسفلي قدميها، ويداها في صدرِ آخرَ عالِ ...)، أوينداح بصوته الإذاعي الفخيم العذب الفصيح المقعِّد للكلمات يرويها ويسعدها منشداً لأبي القاسم الشابي ( ... كلُّ شيء مُوقَّعٌ فيكِ حتى لفتة الجيدِ و...) مترجماً في صفاء طفوليِّ وانتشاء مُعْدٍبشجن يُصيب ولا يرحل، Every thing is rhythmical on you, till the turn of the neck and shake of the bosom
والإنجليز يستعملون كلمة bosom في سياق الحميمية والحنية، فيقولون my bosom friend أي صديقي الحميم. رحمة الله تحفك أستاذنا الجليل، منير دربنا وحادينا نحو أفق أرحب يتسودن متأنسناً.

ونواصل

 

آراء