أقرب إلى القلب: (1) جئت إلى عالم الدبلوماسية السودانية ، نازحاً من مصلحة الثقافة ، و التي كانت وقتذاك ، طفلا رضيعا تترعاه وزارة الإعلام ، رعاية أم رؤوم ، و لكن ببسطة في الأماني تعجب ، و قصور في التمويل يحبط . كان فيها من الرجال الضخام من يأسرك الإعجاب بهم ، و بإنجازهم و بمسلكهم ، أسرا لا فكاك منه . كان أبو المصلحة - مديرها العام بلغة الدواوين - إبراهيم الصلحي ، كبير التشكيليين في السودان ، الذي علم السحر لطلبته ، بل هو الغمامة التي استظلت تحتها دوحة كلية الفنون الجميلة . . و كان الراحل حسين شريف ( 1934 -2005 ) يقود حركة إنشاء قسم السينما في المصلحة ، و لكنه ممسك أيضا بريشته ، تشكيليا مبدعا مؤثرا خلاقا . . يعاونه عدوي البريع بكاميراته السينمائية . . و سامي الصاوي ببريق لندني مميز . .
(2) في ردهات مصلحة الثقافة، بيننا أستاذ يمضي جلّ وقته في البوادي البعيدة ، أو إلى ما استدرجنا الغرباء على تسميته بـ"الطرف المهمّش" . . ذاك كان الطيب محمد الطيب ، يأتيك بصوره الشعبية من تلك الأصقاع ، بهية شيقة . له الرحمة والمغفرة. كان هنالك أيضاً الأستاذ والإداري حمدنالله عبد القادر ، يمسك بملفات العلاقات الثقافية الخارجية ، تعينه عليها الأستاذة النابهة : نعيمة شديد ، والصديق الأديب عمر محمد الأمين . ومن كان يجهل حمدناالله ، ومسلسلاته الإذاعية ومسرحياته – "خطوبة سهير" و أضرابها - تجلجل في إذاعــــــــة أم د رمان ، قبيل نشرة الخامسة مساء . . ؟ كان حمدناالله جزءا مكملاً لوجبة الغداء و التحلية و "شاي العصرية" ، ثم مسلسله الآسر . رحل الرجل في عام 2016 وبقي إرثه بيننا. . في قسم آخر ، كنا نجالس ذلك الشاب ، كاتب القصة القصيرة، النشط القادم من موسكو ، بدكتوراة في الفنون الشعبية- الفولكلور - مصطفى مبارك . يدنا في يده ، عملنا على إنشاء اللبنات الأولى لعمل توثيقي في الفولكلور والأدب الشعبي ، تتجلّى هذه الأيام الحاسمة في تاريخ السودان ، أهميته ( ذلك كان قبل اندلاع النزاعات في الوطن الكبير) . كنا نُعمل أقلامنا وأجهزتنا التسجيلية ودفاترنا وألآت تصويرنا ، نخرج بها كلها ، جماعات نشطة ، وكنا شبن وشابات. معنا فتيات ، تخرجن حديثاً من الجامعات: في العلوم الأجتماعية وفي التاريخ وفي اللسانيات وفي الفنون الجميلة . تجولنا غربا . . و شرقا . . و جنوبا . . في أنحاء السودان، وقت كان الوطن بسطة آمنة . . بُعيد إتفاقية عام 1972 . .
(3) كان حولي من الزملاء و الأصدقاء ، رجال نابهون وفتيات نابهات : لا تسعفني الذاكرة لأعدّد لك الأسماء كلها . أميز الأصدقاء ، كان الراحل الذي أبصرنا معه - في عماه - سماحة هذا المحيط الذي جمعنا . هو صنوٌّ للمعرّي ، أبي العلاء، و لكن في زمان غير زمانه ، إسمه محمود عكير ، غشتهما سحابات الرحمة، إذ هما في كنف الرحمن الواحد الأحد . كانت هنالك روضة محمد كوكو و كانت سعاد الحاج ، وفاطمة أحمدون وإقبال السنوسي وزهرة محمد خليل ، بلسانها البربري الفصيح ، وأحاديثها التي لا نملّها عن "الرشيدية" و " الزبايدة" - هكذا كانت تطلق عليهم بلسانها الخاص - و لا يفتأ يناكفها الانثروبولجست الواثق كمير ، بسخرية محبّبة . معنا الأنثروبولوجست الآخر موسى آدم عبدالجليل ، يجاهد مع الشاعر إبراهيم العبادي ، يوثق له رحلته الشعرية والإجتماعية بكاملها ، ينوء بها جسمه النحيل تحت الجلباب الفضفاض والعمامة المميزة ، و بعدها بقليل رحل شاعر الحقيبة الفذ . .
(4) ثلة من الأخيار فيهم ، سهام صغيرون وسعاد سليمان ، التشكيلية البارعة ، ونوال الكارب وأسماء حمّاد ، وروضة محمد كوكو ، ثم يحي الباشا وعبد الواحد الطريفي ، يفترشان بساط التشكيل ، بينهما عبد الواحد كمبال و عثمان عبد الرحمن صاحب المصنفات في بدايات تأسيسها . ثم عبد الوهاب البشير ، مشتت باله الآن بين "عرب نيوز " في السعودية ، و أهله عرب "بورتبيل" في الجزيرة ، ومحمد عبد العال ، أديب يقتله التواضع ، و محمد عمر بشارة في هدؤ صوفي فنان ، و عبد الله "الباشكاتب" ، حبيب الجميع . . ثم الراحل أمين حمزة و أبوّته الحانية ، و الرّاحل محمد صالح . . و الراحل صالح التجاني . . راحلا بكل حبوره و انشراحه . .
(5) أما لمّا جاء إلى إدارة مصلحة الثقافة الشاعر الضخم السمندل ، الراحل محمد عبد الحي ، فقد تزامن قدومه – و يا لتعس حظي – مع خروجي أنا ، إلى وزارة الخارجية ، لألتحق بها سكرتيرا ثالثا . . ما لاقيت عبد الحي ، إلا بعد سنين ، حين جاء إلى تونس مستشفيا بعد الوعكة ، يهرب الكلام من بين شفتيه و أسنانه ، و قد كان سيد الكلام و القصيد بلا منازع . أستحضر بشاشته والشلل يقعده ، تلكم السنوات البعيدة في ثمانينات القرن الماضي ، يحدثنا أنا والسفير الراحل سيدأحمد الحردلو، و قد جمعتنا زمالة العمل في سفارة السودان في تونس - متمتما بآخر كتاباته عن التجاني يوسف بشير ، و نغالب ثم نداري سويا ، حردلو و أنا ، دمعات حبيسة ، إذ العجز يكاد يطبق على الطائر الغرد . . ثم نذهب جميعنا ، بوصية من الشيخ الجليل عبدالحي محمود ، إلى صديقه التونسي ، " الشيخ جلول " : شيخ مبروك في سوق الشواشية ، عند "باب سعدون " في قلب تونس العاصمة ، نلتمس فاتحة و بركة للسمندل العليل .
(6) ترى هل كان من الممكن أن أخرج ، من هذا المحيط الذي وصفت لك ، خالي الوفاض ، أغسل قلبي من "أوشاب الثقافة " ، ثم أدلف إلى وزارة الخارجية ، فيتنزل عليَّ الوحي الدبلوماسي ، أتدرّج في المهنة تدرّجا أصير بعده، سفيراً مجرّدا من كلّ شيء ، إلا من كسوة من الإتيكيت و الحذلقة ؟ كلا ! ما كانت كسوتي حربائية ، فيسقط ذلك الخليط القزحي الذي اكتسبته في مصلحة الثقافة ، أبدّله بكسوة دبلوماسية موشاة ، لا تشابه إلا أردية الممثلين وبهلوانات الأكروبات . وأصدقك القول أيها القاريء العزيز ، فقد كان فهمنا الفطير في يفاعتنا تلك ، أن الدبلوماسية ألبسة ومحض تمثيل وحذلقة ، وقليل إتيكيت . . !
(7) يا لفداحة ظنوننا وخطلها ، حين جئنا إلى " وزارة الخارجية " ، وتوغلنا في ردهاتها و ملفاتها وشخوصها ، الماثلة أمامنا في إدارات الرئاسة ، أو تلك التي ظللنا نسمع بها وعنها ، مقيمة في سفارات في أصقاع بعيدة . بعض هؤلاء كنا نحسبهم في عداد أبطال قصص ألف ليلة و ليلة ، على أقل التقديرات تواضعاً: عبد الكريم ميرغني ، في بلاد الهند و السند ( و قرأت لاحقا كيف أن السيدة التي كانت تدرس أبناءه في دلهي ، البريطانية ستيلا رمينجتون - قبل أن يتم تجنيدها فيما بعد - قد تدرّجت في جهاز المخابرات البريطانية ، " إم فايف" الشهير ، حتى جليت على قيادة ذلك الجهاز الخطير ، و تقاعدت أوائل عهد طوني بلير في 2001 . أنظر كتابها بالإنجليزية: "السر المفتوح" ، الذي صدر في لندن ،2001) ثم جمال م . أحمد في أرض الحبشة ، سفيراً في بلاط "أسد يهوذا" ، يحدث جلجلة بترجمة غير مسبوقة لسفر باذل دافيدسن : " أفريقيا تحت أضواء جديدة " ، طبعة دار الثقافة – بيروت 1961 . يبهرنا بتاريخنا في القارة نعيد اكتشافه ، أو قل نعيد قراءته ، ثم يذهب بعدها ، مَرة تلتها مَرة ، سفيراً معتمدا للسودان في بلاط "سانت جيمس" . قالت عنه صحافة لندن وقتها : يا لذلك السفير السعيد "جمال" ، إعتمدته اليزابيث الثانية مرّتين ! كان ذلك قبل و بعد حرب الأيام الستة "الغبراء" .
(8) من شباب السفراء الأذكياء ، فخر الدين محمد ، في باكستان ثم في بلاد الروس و في معيته العباس أباسعيد . أما صلاح هاشم في فارس ، فقد تبوأ كرسيا ، يقدم خلاله استشارته للشاه رضا بهلوي ، في زمانه ، و يترجم من تاريخ فارس ، أمهات كتبها إلى العربية . هذا عالم ضخم لا يعرف جيلنا عن عبقريته كثير شيء . أنظر معي وتملّى ، كيف شغل سفراؤنا ، جمال و صلاح و فخرالدين ، أنفسهم ، بصقل الوشائج بيننا و الآخرين ، الذين نحن منهم وهم منا ، لكن أكثرهم لا يعرفون . قف معي و أنظر صلاح أحمد إبراهيم ، الشاعر الهببائي ، في الجزائر سفيراً للسودان فيها ، و العواصف التي أثارها هناك ، مثله مثل أي سوداني "ود بلد" ، يعشق "مريا" ، و لكنه يغير على بلاده و أسرته الكبيرة ، الغيرة التي يدفع فيها ، بسبب من جهل حاكم ، أغلى سنوات العمر وأنضرها ، حتى ذوى في باريس التي أحب وأحبته . و في أمريكا كان هناك حسن الأمين البشير . . ثم فرانسيس دينق ، دبلوماسي بعمق قانوني وأنثروبولوجست ، ذي دلالات ، فيما ستثبت لك أيام قادمات .
(9) أما منصور خالد ، فقد تكون قصته هي قصة وزارة تخرج من عشوائية التجريب والتماس السلامة ، إلى براح الفعل المؤسّسي ، وافتراع مسارات النمو والإزدهار ، لبلد كان قد حظي باستقلال باكر، دون كل بلدان القارة الأفريقية التي قد كبرت آمآلها في الرفعة، وسعتْ السعي الدؤوب للسمو على نسق السودان . ولقد كان لمنصور بصراً عميقا بذلك ، وبصيرة تافذة. أعانته في ذلك تجاريب ثرّة في مناشط المنظمات الدولية ، وإن خذله بعض من توهّمهم نصراءه. أضفى الرجل على الدبلوماسية الفعالية التي كانت تحتاجها. . ودونك الذين مثلوا أمامنا ، في رئاسة الوزارة وقتذاك ، فكانوا عمالقة بحق، وهم شبان في مثل عمرنا . الراحل الأديب الدبلوماسي عبد الهادي الصديق، يأتينا من بيروت في عطلة قصيرة ، فيبهرنا بحكايات لا تنتهي ، عن لقاءاته مع أدونيس ، وعن مجالسه مع نزارقباني ، قبالة الروشة في لبنان ، قبل دمار أواسط السبعينات، الذي شهد عليه بعد ذاك ، صديق أبو عاقلة ونجيب الخير والجنرال صغيرون والإداري الحصيف محمد عبد الحميد وضابط الإنصالات الشمباتي : الهادي . رحم الله صديقنا عبد الهادي الصديق دار صليح، رحمة تضاعف أجر بذله من أجل دبلوماسية المثاقفة التي عشق . .
(10)
ثم أجد أمامي هناك محمد المكي إبراهيم ، السفير الشاعر الضخم ، لا يكاد يخرج صوته إلى أبعد من أسنانه . أحببناه أكتوبريا ب "أمتي" ، سامقا بشعره وروائيا حاذقا ، "يتحكّر" الوطن في دواخله ، و يرجّ قلمه رواكد أفكارنا رجّا . ثم السفير الروائي علي حمد إبراهيم ، و رواياته الفذّة ، التي تؤرّخ لحقب ذات أثر في تاريخ منطقة التماس الحسّاس بين الجنوب و الشمال ، عند الرّنك . . والسفير مبارك آدم الهادي ،(له الرحمة فقد رحل قبل اسابيع) شاعر هو أيضا ، مقلّ بسبب من أثقال المهنة الدبلوماسية ، فلا يكاد يُجاري شقيقه الشاعر الضخم الهادي آدم ، الذي غنت قصيد له ، أم كلثوم . . ثم ذلك الذي شغل وزارة الخارجية ، و ملاء الصحف شعرا رصينا ، وغنائية تهز الدواخل : السفير سيد أحمد الحردلو . . وصنوه الشاعر الدكتور ، صاحب تمبكتو و ما بعدها ، السفير عمر عبد الماجد . . . لم يكن وفاضي خاليا ، و أنا أخرج من مصلحة الثقافة ، حزينا مفارقا محيطا أفدته وأفادني ، وشكل شيئا من شخصيتي التي تكتب لك هذا الآن . . ثم أني ولجت إلى وزارة الخارجية لأجدها ثرية بالأدب ، و كما قال لي قبل أيام قلائل ، صديق أعزه كثيرا ، و ما أصدق قوله : "إنكم في وزارة الخارجية ، قد كدتم أن تحتكروا الأدب كله بين جدران وزارتكم وسفاراتكم . . و ذلك منذ محمد عثمان يسن و أحمد خير و المحجوب و منصور خالد . . و حتى هذا الجيل الذي نجايله الآن ، في بدايات القرن الواحد و العشرين . . " و إنها لملاحظة جديرة بالتأمل . . !
(11) لا أريد أن أعيد لك ما قد صار واقعا معاشا ، وممارسة رسخت حول مناشط الدبلوماسية ، كونها فارقت أطرها السرية ، وأسقطت الأقنعة و السرابيل التي سيّجتها بها مواثيق دولية ، أحسبها الآن بالية مهترئة ، و لن تصمد حين يتفرّغ القوم ، هنا وهناك ، و بعد أن تضع حروب الإرهاب الدولي أوزارها ، إذ قد يعمد الخيّرون من أهل الدبلوماسية و القانون الدولي ، إلى مراجعتها ملياً ، و لربما ابتدعوا مواثيق و اتفاقات أكثر ملاءمة ، لعالم تغيرت ملامحه كلية ، إتساعا في إشاعة المعلومة ، وعلوّاً في دقتها الرقمية ، واختصارا في وقت نشرها على أفق الإنترنت الرحيب . .
(12) أما وقد طال حديثي هنا ، فقد آن لي أن أقول بجهيرالصوت ، أني مدين لكلّ هؤلاء الذين ذكرت ، و سواهم ممّن لم تسعفني ذاكرتي وأخجلتني ، إذ أنستني بعض أسمائهم . . ولكل من ذكرت، لمعٌ يبرق و روحٌ يشعّ ، في الذي كتبت و أكتب لكم . . و أنا ممتن الإمتنان كله ، و أهديهم بعض شطحات قلمي هنا ، مقصرا منتقصا ، فليغفر الله و ليسامح الضعفاء من خلقه ، فأنا بينهم أتحمّل أوزار كتابتي ، و بؤس بضاعتي . . إنه غفور رحيم . و لا بدّ من كلمة شكر للصحافة المحلية و الأجنبية التي احتفت بقلمي في صفحاتها ، وللصحافة الإلكترونية تقديري الخاص وللقائمين عليها ، فهم حملوا بشائر التغيير القادم ورسل التقنية فيه . .