نداء السودان (أم) خذلانه وضياع أمره: الجزء الأول (1/2)
د. الوليد آدم مادبو
3 August, 2018
3 August, 2018
إن تضارب الاقوال داخل "نداء السودان" وتضخم الآراء حول الجنائية، هي مجرد ظواهر لصراع عميق يدور علي مستويات الواقع بين القوى التقدمية والقوى الرجعية، صراع يدور بين مجموعات تسعى لخلق مجتمع مغاير تسوده المساواة، الحرية والكرامة الإنسانية، ومجموعات ترى في هذا التضامن البشري الهائل مهدداً لمستقبل السودان. ولذا فهي لا تدخر جهداً في الابقاء على منظومة القيم القديمة تحت ذريعة "التسوية السياسية" اللازمة للحفاظ علي ما بقى من السودان.
ما هو عرضة للخطر اليوم هو بقاء السودان مستنداً علي هذه المرافعات الكاذبة التي لا يحضر فيها الانسان السوداني، الدارفوري خاصة، إلا و "حضوره مرتهن بالنفي"، ثقافته مترعة بالوهم، تراثه متخم بالدجل، وذاكرته التاريخية مفعمة بالانكسار. هلا اصطحب "نداء السودان" معطيات الواقع اليوم وما يحدث في البطانة ونيالا وكسلا والقضارف والميرم وحتي أحياء الخرطوم مثل مايو والسلمة، أم إنه سيستمر في المغالطة وتصور أن أفضل وسيلة لحل المعضلة، معضلة العنصرية المؤسسية، هو تفاديها؟
كاد السودان ان ينقسم على أسس عرقية بعد أن انقسم على أسس جغرافية ومناطقية، لولا أنه لا يمكن إجراء فصل عرقي إلا بإقامة مستوطنات داخل كل حلة أو حليلة يشمل ذلك ود بانقا. يروي أن بعض المتطرفين من أبناء النوبة قالوا يوما للشهيد قرنق في أوج الفتنة التي أشعلتها الطائفية والإمبريالية الإسلامية، "ما دايرين عربي واحد في الجبال." فرد عليهم بدهائه المعهود وابتسامته الساخرة، "كويس بس طلعوا لي النوبة الساكنين والمشتتين في بقاع السودان الأخرى." فأسقط في أيديهم ولم ينطقوا بكلمة. لم تكن العنصرية (والعنصرية المضادة) أفة دارفورية وحدها حتى تنتقل الى الشرق أو الوسط، بل كانت وستظل مشكلة سودانية يؤجج لها وجود قيادات تؤمن بالقداسة الدينية والهرمية العرقية تتبعها قيادات تنتهج نهجاً تكتيكيا يعيق إمكانية تحقيق الهدف الاستراتيجي الأعلى متمثلا في العدالة والكرامة الإنسانية دون أدنى مساومة.
عوض عن التعويل علي هذا التحالف الهش والذي لم يعد يغض مضاجع "الجداد"، يجب الاسراع بتكوين منصة تشمل جميع القوي الرافضة "للمنظومة" بأسرها، وليس فقط المعادية للنظام، تجميعاً لا يعفيهم عن القيام بمراجعات فكرية لازمة وبلورة رؤي أخلاقية نافذة لا تعني بتصورات "المجتمع الدولي" المتوهم لدور "الشرعية التاريخية"، قدر اعتمادها على الجيل الجديد في إنزال هذه المفاهيم الى الأرض. يجب أن لا ننطلق من واقع الأزمة السياسية التي نعانيها -- والتي أصبحت بمثابة أزمة النفسية، بل أن ننطلق من واقع المستقبل الذي نتصوره للأجيال القادمة.
كان ذلك دأب المفكرين بعد الثورة الفرنسية والتي عاش الشعب بعدها في متاهة دامت 80 عاماً. ولو أنهم توانوا وتهاونوا أو تحالفوا مع الطاغوت لم يكن شأنهم اليوم شأن الشعوب المتحضرة والأبية، بل المعتزة بإرثها وحاضرها والرامية إلي تحصين مستقبلها. انظر حساسية الفرنسيين اليوم تجاه قضية تتعلق بتهمة ضرب الحرس الشخصي لماكرون لاحد المتظاهرين، وتبلد حس النخب المركزية عندنا تجاه "مشروع الإبادة الجماعية" (وإقالة السكان الأصليين عن موطنهم وإهانتهم)، الذي لم تستنكف منه الدولة ولن تسعى لإيقافه حتي يستحيل السودان الي دمار، وما تجربة رواندا أو زنجبار منا ببعيد.
إن من يرتضي قيادة شخصية رجعية، فإنه إنما يسعى لتحسين شروط العبودية ويقنن لا شعورياً وتلقائياً لدونية عرقية، ومن يسعى لاستثمار محنة أهله متعللاً بضيق العيش ونفاد السبل، فإنما يتغوط علي أرثه النضالي ويتبول على ميثاقه الوطني، ذاك الذي أبرمه مع الرفاق -- الذين باتوا رفات. ليس المشكل مشكل برامج وبيانات ومغالطات في شأن الجنائية، بل المشكل مشكل مبادئ ومرافعات وإبقاء على رمزية نضالية تسمو فوق الدَنِية ولا تعلو علي الرعية. هذا إن أردنا تشييد السودان علي أسس ديمقراطية وعلمية. هاتان الخصلتان اللتان لا تتمشيا، بل تتعارضا مع مفهوم الحاكمية -- النسخة الصارخة للديمقراطية الدينية -- الذي يقر مبدأ الإسقاط للحلول ولا يعول على التجريبية التي تجعل الأنسان يفهم الدين وفق ما تملي عليه إنسانيته (تأملات في القراءة الإنسانية للدين، محمد مجتهد شبستري).
أقدر صعوبة اختيار قيادة حيوية من بينكم لأنكم جربتم وفشلتم وكنتم في الخرطوم تختالون والشعب يرقبكم. بيد أن أسلوبكم هذا يعبر عن حيرة وعدم ثقة في النفس أكثر مما يعبر عن بسالة ونضج فكري. كيف يمكن لجماعة انتدبت شخصا لقياداتها أن تقول أن تصريحه يمثل وجهة نظره ولا يمثل وجهة نظر المجموعة؟ هل كان يمكن لمارتن لوثر كنج أن يقبل إمرة زعيم من زعماء البيض المهوسين والمؤمنين بأفة النقاء العرقي أو أن ينتدبه متحدثا باسم الجماعة ثم لا يلبث أن يعقد مؤتمراً صحفياً في كل مرة مفنداً لأقواله ونافياً لهلوسته؟ أؤكد لك أن الأخير لو عرضت عليه الأمارة فلن يقبلها اتساقا مع ذاته المجرمة ومبادئه المنحرفة. هكذا هم مبدئيين حتي في إنحرافهم!
هذا الأمر يجوز في شأن السياسات وليس المبادئ، هذه ليس إشكالية فكرية هذه ضبابية أخلاقية. رفض مانديلا "عنصرية البيض" وهو داخل السجن ورفض "عنصرية السود" المضادة وهو خارج السجن وأيقن بأنه ما لم يتخلص من الغضب فإنه سيظل أسيرا وسجيناً. خرج مانديلا من السجن وهو يحس "أنه أكثر اخضرارا من البحر" و"أكثر فتوة من النهار" (اذا جاز لنا استعارة العبارة من أدونيس)، ولسان حاله يقول:
أخلق أرضاً تثور معي وتخون
أخلق أرضاً تجسستها بعروقي
ورسمت سماوتها برعدي
وزينتها ببروقي،
حدها صاعق وموج
ورايتها الجفون.
لا تقاس نجاحات الشعوب بمعاناة أبطالها، إنما بالأمل الذي تبعثه تلك التضحيات في نفوس أبنائها. كي يتحقق لدينا "الإقلاع الحضاري الشامل"، يجب علينا أن نحمي ماضينا من النقل، حاضرنا من الاستعارة، ومستقبلنا من وهم "العقد الاجتماعي" الذي تفرضه إرادة القوى الاجتماعية المسيطرة والمهيمنة، في هذه الحالة "الجلاد" الذي تسبب -- متنكراً تارة باسم الليبرالية ومستتراً تارة اخرى باسم الدين -- في كافة الهزائم التي لحقت بنا. علينا أن نأخذ قضيتنا بأيدينا وألا نسمح للأنبياء الكذبة بالمتاجرة فينا. ما الذي يمنعنا وقد بدأت ملامح السودان الجديد تتشكل في الأفق -- وليس العريض أو نحوه من الإفك اللغوي الذي يفتقر إلي أي مضامين فكرية؟ يطمئننا الفيلسوف المغاربي العظيم، المهدي المنجرة، الى أن "عبقرية الابداع الانساني أبانت طيلة المراحل التاريخية، بأنها قادرة علي قهر كل أشكال التسلط كيفما كان قدرها" (قيمة القيم، المهدي المنجرة، ص:116).