نضال الكتّاب وكتابة المناضلين: فى فض الالتباس

 


 

 

«إن أسوأ ما يمكن أن يحدث لإنسان لم يخلق من أجل الشهرة الأدبية، في قارة غير مهيأة لكتاب ناجحين، هو أن تكون كتبه رائجة يتخطفها الناس. انني أكره أن أتحول الى لعبة للناس».

                   ماركيز

▫▫▫▫▫▫▫

الأمر مختلف جداً هنا فغاية البعض (الكثير) من الكٌتّاب عندنا أن يتحولوا الى لعبة. غايتهم ان يتحولوا الى شيء يتلهى به الناس.في كل يوم أو في كل أسبوع -كيفما اتفق- يقدمون تابلوهاً جديداً ليبقوا في قلب الملهاة.  تحول الكاتب الى نجم فارتبط بالنجومية وهذا مدار مختلف له شروطه القاسية واعتباراته. قبل سنوات عديدة كانت النجومية مرتبطة برجال الدولة والفن والرياضة. لم يكن أحدٌ من غير المهتمين قادراً على التعرف على الفرق بين كاتب العمود وكاتب المقال وكاتب (الدبابيس)، والأخيرة طريقة رائجة في تفادي رهق البحث والقراءة والإعتماد على تقديم عبارات مختصرة كيفما تخطر على البال ودونما نسق معروف. تعتمد على التسلية وتستهدف ملء الفراغ بفراغ آخر. في عهد إعادة صياغة المجتمع وزمان (الدعوة الشاملة) التي كانت تستهدف بشكل كبير إعادة بناء الأمة وفق شروط سياسية، تراجعت كل من الرياضة والفنون بنجومهما وغاصت نجومية رجال الدولة العلنيين لصالح نجومية رجال الدولة السريين. صارت كلمة فلان هذا (محافظ أو وزير) مثلاً لا تأخذ بلباب أحد إلا إذا اضيف إليها أن الرجل عضو في (التنظيم) وهو هيكل غامض كان الناس يعرفونه ويلعنونه دون أن يمسكوا بأطرافه من أي جانب. في عهد الأغنية البديلة سرقت الألحان العذبة من الأغنيات الجميلة وألصقت عنوة بكلمات جديدة لتموت في مهدها دون أن تحيا طويلاً. إنكفأ الوجدان الشعبي ريثما تنتهي محاولة إعادة تشكيله الى فشلها المحتوم في ذلك العهد تراجع الخبر في الصحف ربما لأسباب كثيرة اعتقد أن منها إثنين هما: اولا، توافق رغبة رجال الدولة العلنيين والسريين في البعد عن الصحافة والإعلام. فلا رجال الدولة العلنيين راغبين في إغضاب نظرائهم في السر بالحضور في وسائل الإعلام،  ومن ثم الحصول على النجومية، ولا رجال الدولة السريين كانوا راغبين في منح فضل جهودهم الخفية لرجال في الواجهة لم يبذلوا جهدا، وثانيا

  ضعف شهية الصحافة (البديلة) أيضاً في الحصول على الخبر من الرجال العلنيين، لقناعتها بأنهم لا يعرفون كل شيء وعدم مقدرتها على اختراق حصون الرجال السريين، ممن كانوا في (التنظيم) أو المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي أو المنظمات (البديلة).

وهكذا نشأت صحافة الأعمدة!

صار كتاب الأعمدة هم من يسربون الأخبار في أعمدتهم وصاروا هم الوحيدون المسموح لهم بتحليل وإعادة قراءة الراهن السياسي بشروط قاسية ضمن عدد محدد من الكلمات. هكذا اختفت الأخبار واختفى المقال وصار الناشيء يبدأ عمله في مهنة الصحافة بكتابة العمود ثم (يترقى) بعدها للعمل في أقسام التحرير الأخرى! صارت كتابة العمود مهنة بذاتها وصار البعض يقدم نفسه كصحافي فيما البعض الآخر يقول عن نفسه أنه كاتب عمود. ضمن هذا المشهد خرج كتاب أعمدة كبار حققوا للعمود الصحفي مجده وتغول آخرون كادوا أن يخسفوا بالصحافة ذاتها الى أسفل سافلين. السلطة ايضاً انتبهت لأهمية كُتّاب الأعمدة فصارت تقدم دعوات مؤتمراتها الصحفية ل(الإخوة الصحفيين وكتاب الأعمدة) أو الإخوة (رؤساء التحرير وكُتّاب الأعمدة). هكذا تكرس الفصل بين الإثنين بحوائط غليظة بخاتم السلطة، والسلطة في غير مكان وزمان برهنت دائماً على قدرتها على استغلال الإعلام أكثر من قدرة الإعلام على استخدامها أو تطويعها. الصحافة بطيئة في قدرتها على التطور وستحتاج الى وقت طويل قبل أن تعود من خدمة السياسي الى بلاط خدمة المستهلك. الصحافة تخدم السياسي على حساب المستهلك والدليل على ذلك أنها تفرغ صفحات كاملة لحوارات مع رجال الصف الرابع في أحزابهم بينما المستهلك لا يرغب في سماع كلمة واحدة من هؤلاء ولكنه يشتري الصحيفة فتفرض عليه الوجوه الأكثر قدرة على زيارة الصحف والإلحاح على إجراء الحوارات معها. لا علينا الآن بهذا. دعونا ننظر في نضال الكاتبين.

انقسم كتاب الأعمدة الرائجين الى ثلاث فئات: واحدة مع الحقيقة، وثانية مع السلطة، وثالثة مع المعارضة.

ظلت فئة الحقيقة في مكانها والمواقف من حولها تتغيّر. ظلت وفية للحقيقة تقف تحت ظلها أو هجيرها ثم تدفع ثمن ذلك بسخاء.

عانت الفئة المناهضة للسلطة،  في بعض الأوقات، وحوربت في عملها وفكرها ورأيها ثم مع تقلبات الأيام فتح الباب لها للعودة بشكل محسوب. البعض استغل الأبواب المشرعة للتسلل والدخول خطوة خطوة بينما انتظرت فئة واسعة خارج السور حتى ترى نتاج معارضة المعارضين فلما وجدت إن السلطة، وقد بلغت ما أرادت من التمكّن، لم تعد تنشغل بهؤلاء، دخل العشرات من هذه البوابة وصاروا كتاباً معارضين.

لم تعد السلطة قادرة على محاربة كُتّاب المعارضة الحقيقيين لأن نصف السلطة الآخر يحميهم وهكذا أنتج هذا الوضع الشاذ ما يسمى بالكاتب المناضل!

الكاتب المناضل لا يخدم الحقيقة وإنما يخدم حزبه السياسي وجماعته السياسية ويبيع للقاريء المستهلك بضاعة مغشوشة لا تحتوي على المكوّن الأساسي المفترض فيها وهو الحقيقة. عاش هؤلاء أجمل أيامهم في عهد الرقابة على الصحافة حين كانوا يسرفون في الهجاء حتى يحصلوا على قرار المنع فيعلقون مقالاتهم على استار المنابر وعليها العبارة إياها (منعته الرقابة...). الآن ليس هناك منع، وبما أن الأمر كذلك فليس أمام البعض إلا الإسراف في المعصية! صار هؤلاء يكتبون بانفعال حتى لكأنك تقرأ المقال كله في العنوان. العنوان الصارخ كشعار في حنجرة متظاهر صار يقول كل شيء فما هي الحاجة للمقال؟

بقيام عدد لا يستهان به من الكتاب بارتهان المساحات الممنوحة لهم في خدمة الساسة تخسر الصحافة الحرة النزيهة مكاناً كان ينبغي أن يشغله كاتب أو صحافي أوفى للمهنة وقيمها من وفائه لزعيمه، الذي لا يكف عن بذل التشجيع له والتوجيهات عبر البريد الإلكتروني والهاتف النقال، وفي نفس الوقت يخسر مجتمع الساسة سياسياً يتوافر فيه شرط معرفة القراءة والكتابة!

على الطرف الآخر واصلت الفئة المؤيدة للسلطة في تنافسها وما زالت عمليات الإحلال والإبدال تعتمل فيها لكنها فئة آمنة وهادئة لأن أطراف السلطة واسعة بحيث يمكنها استيعاب هذا التنافس المحموم.

تراجع دور كاتب السلطة في بعض الفضاءات، فبدأ البعض ممن كانوا هناك، بتلوين أعمدتهم لتحتوي على نفس معارض حتى يتواءموا مع متطلبات المرحلة. أنتج هذا التراجع مايسمى بكاتب السلطة- المعارض. هل قرأتم ما كتبه أستاذنا مصطفى عبد العزيز البطل في الزميلة (الأحداث) عن طرفة حيدر بورتسودان-كادوقلي؟ لمن فاتهم الإطلاع ننقل أن فناناً في مدينة كادوقلي كان يقلد حيدر بورتسودان في أدائه ويغني أغنياته، فأطلق عليه الجمهورلقب (حيدر بورتسودان-كادوقلي)!

كم حيدر بورتسودان-كادوقلي لدينا في الصحافة السودانية بعد عصر ما بعد الرقابة؟

بين كتاب السلطة وكتاب المعارضة تخسر مهنة الصحافة جوهرها الأعز وهو الحقيقة. اسهل شيء هذه الأيام أن تصير كاتباً للمعارضة ترهن قلمك للترويج لمشروعها وأجندتها لأن معارضة اليوم هي أيضاً سلطة تملك كل مقومات السلطة، فقط هي ترتدي قناع المعارضة.

 لا علينا أيضاً، فالحقيقة أن فئة الكتاب من أجل الحقيقة هي الأكبر والأكثر تأثيراً وانتشاراً والإحتمال الأرجح أن الزبد سيذهب جفاء ويبقى في الأرض ما ينفع الناس.

في مرة قادمة سننظر في كتابة المناضلين.

 

آراء