The South as Viewed by Political and Religious Leaders Gabriel R. Warburg جبرائيل واربوج
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لشذرات مختصرة لما جاء في فصل من كتاب البروفيسور جبرائيل واربوج المعنون "النزاع التاريخي في وادي النيل Historical Discord in the Nile Valley" الذي صدر عن دار نشر جامعة نورث ويسترن، بإفانستون بولاية الينوي الأمريكية. عام 1992م. ولد المؤلف – بحسب سيرته الذاتية المبذولة في الشبكة العنكبوتية - في برلين بألمانيا عام 1927م وهاجر مع عائلته وعمره سبع سنوات إلى فلسطين وبقي بها حتى عام 1946م حين أكمل دراسته بكلية للزراعة، ثم درس تاريخ الدول الإسلامية في الجامعة العبرية بالقدس (بين عامي 1961 و1964م) واللغة العربية وآدابها في جامعة لندن، التي تحصل منها أيضا في عام 1968م على درجة الدكتوراه بأطروحة عن "إدارة الحكم الثنائي بين عامي 1899 – 1916م". وعمل بعد ذلك أستاذاً في جامعة حيفا حتى تقاعده في عام 1996م. ونشر واربوج الكثير من المقالات المحكمة والكتب عن السودان ومصر ودول عربية وإسلامية أخرى، منها كتاب بعنوان " الإسلام والقومية والشيوعية في مجتمع تقليدي: حالة السودان" Islam, Nationalism and Communism in a Traditional Society: The Case of Sudan وكتاب "إعادة الشريعة الإسلامية في السودان في عهد النميري" The Reinstatement of Islamic Law in Sudan under Numayry وكتاب آخر عن الطوائف الدينية في السودان والسياسة منذ عهد المهدية، إضافة لعدة مقالات عن الإخوان المسلمين، وأنصار المهدي، والحزب الشيوعي السوداني. وسبق لنا أن قمنا بترجمة شذرات من بعض كتب ومقالات الكاتب. المترجم ***** آراء السيد الصادق المهدي نشر السيد الصادق المهدي (حفيد المهدي الأكبر وزعيم حزب الأمة) في نوفمبر 1985م دراسة حول ما عده أكبر المشاكل في العلاقة بين الإسلام والجنوب. وكان عنوان تلك الدراسة هو: "الإسلام ومسألة الجنوب". أم درمان – مطبعة التمدن، 1985م. وبعد عامين من ذلك ذكر المهدي في مقال له بعنوان "مستقبل الإسلام في السودان" صدر في كتاب حرره مدثر عبد الرحيم والطيب زين العابدين عنوانه "الإسلام في السودان" أنه يتفق مع آراء السياسي الجنوبي الراحل وليام دينق حول تطبيق الشريعة. وبما أن الإسلام هو دين غالبية السودانيين، فمن المقبول – في نظره – أن تطبق أحكامه في الشؤون العامة والخاصة لكافة المسلمين، ولكن ذلك لا يسري على غير المسلمين، الذين ينبغي ضمان حقوقهم الدينية والمدنية. وبما أن الرجل قد صار رئيسا للوزراء بعد أقل من عام على صدور تلك الدراسة، فيحق لنا العودة لدراسة آرائه وحلوله المقترحة بحسبانها تمثل "خطة عمل" حزب الأمة بشأن تلك المسألة. وكان الصادق، مثله مثل الكثيرين، يلقون باللوم على سياسة البريطانيين في كل الشرور التي حاقت بجنوب السودان بسبب أن الدعوة للإسلام والتعريب فيه كانتا قد منعتا بطريقة استبدادية في غضون سنوات الحكم البريطاني الاستعماري. وكان حزب الأمة قد وافق على إعطاء الجنوب (وبعض مناطق السودان الأخرى) وضعا خاصا، وعلى منحه قدرا محدودا من الحكم الذاتي، وذلك لإيمانه بأن اللغة المشتركة والدين الواحد من أهم عناصر تكوين أي دولة قومية، ولكنهما كانتا غائبتين في الجنوب. وكان ذلك هو رأي الصادق في عامي 1966 – 1967م عندما ترأس الوزارة، وهو ذات الرأي الذي خرج به مؤتمر "المائدة المستديرة" عام 1965م. غير أن أي من تلك المقترحات أو الآراء لم تنفذ قط بسبب قيام "ثورة" مايو عام 1969م. وكانت مقررات مؤتمر "المائدة المستديرة" مختلفة عن نصوص اتفاقية أديس أبابا في كثير من التفاصيل، كان منها: 1. اقترحت لجنة 1967م تقسيم الجنوب إلى ثلاثة مناطق، وتركت القرار حول إمكانية إعادة توحيدها مستقبلا في أيادي سكان تلك المناطق. 2. أدخلت اتفاقية أديس أبابا عام 1972م في صلب الدستور، فغدت بذلك أقل مرونة من المقترحات التي كانت قد قدمت عام 1967م، ولم تكن تعتمد على الحكومة المركزية. 3. أقر دستور السودان لعام 1973م مبدأ احترام ووضع متساوٍ للإسلام والمسيحية والديانات القبلية، وذكر أن "الشريعة الإسلامية والعرف هما "مصدران رئيسيان للتشريع، والأحوال الشخصية لغير المسلمين يحكمها القانون الخاص بهم". غير أن لجنة الأحزاب لم تكن قد قبلت بمثل ذلك النص في عام 1967م. 4. جاء في اتفاقية أديس أبابا أن الحكومة ستولي اهتماما خاصا بأمور الاقتصاد في جنوب البلاد، وستضمن تمثيلا (عادلا) للجنوبين في القوات المسلحة. وكان الصادق يرى أن عودة العدائيات في الجنوب مردها في الأساس هو معارضة الجنوبيين لاستيعابهم ضمن أفراد الجيش السوداني، ورفضهم القاطع والموحد لقوانين الشريعة الإسلامية. وذكر الصادق أيضا في مقاله المشار إليه بعض مآخذ الجنوبيين الأخرى (مثل عدم دستورية إعادة تقسيم الجنوب، وإهمال الحكومة لتطوير اقتصاد الجنوب، وبناء مصفاة شركة شيفرون في ربك، وليس في مدينة جنوبية مثل بانتيو)، إلا أنه آثر أن يركز على الأسباب الأربعة السالفة الذكر. وكَرَّسَ الصادق الجزء الأكبر من بحثه لمستقبل الإسلام عند الحديث عن العلاقات الشمالية – الجنوبية. ورفض رفضا باتا فصل الدين عن الدولة (أو مقولة "الدين لله والوطن للجميع")، معللا رفضه بأن ذلك لا يمكن تطبيقه في المجتمع الإسلامي. ورفض في ذات الوقت أن يؤكد أنه سيحافظ على قوانين 1983م الإسلامية، إذ أن تلك القوانين في نظره "غير إسلامية"، ولم يجزها أي برلمان منتخب، مما يجعل تطبيقها أمرا غير دستوري. وبدا الصادق متعاطفا مع كثير مما يطالب به الجنوبيون لرد مظالمهم، وما أوقعته بهم تلك القوانين التي جعلت منهم مواطنين من الدرجة الثانية في بلادهم. وقد أخذ الفكر الإسلامي الحديث تلك الأمور بجدية، وأظهر مرونة في تطبيق تلك القوانين بحيث لا يضار منها غير المسلمين، وأن ينالوا حقوقهم الإنسانية كاملة. فعلى سبيل المثال لا ينبغي أن تطبق على غير المسلمين القوانين التي تحرم شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، ولا دفع الزكاة (التي يدفعها المسلمون فقط، ويستعاض عنها بالضرائب المناسبة لغير المسلمين، وليس الجزية). ولكن كان السيد الصادق المهدي يرى أنه، بما أن غالب سكان السودان مسلمين، فقد كان من الطبيعي أن يتم إعلان الإسلام بحسبانه الدين الرسمي للدولة، وأن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع. وكان الرجل على استعداد للقبول بقوانين الشريعة والقوانين الوضعية معا، ولكنه كان يصر على أن قوانين الشريعة (في صورتها الإنسانية والتقدمية) هي الأسمى، والجديرة بالتطبيق، والأنسب للظروف والحقائق الثقافية والاجتماعية في السودان. ويرى الصادق كذلك أن مستقبل جنوب السودان، في نهاية المطاف، سينتهي إلى أسلمة وتعريب كاملين. وكان يفترض أن ذلك سيحدث نتيجة للعمليات التالية: 1/ استيعاب القبائل الجنوبية نتيجة للمشاريع الزراعية والمراعي المشتركة. 2/ تأثير المسلمين من أصحاب الطرق الصوفية والفقهاء والتجار الذين استوطنوا بالجنوب. 3/ المشاريع الاقتصادية التي يقيمها الشمال في الجنوب لفائدة الجنوبين. 4/ توطين أعداد كبيرة من الجنوبيين في شمال السودان 5/ إقرار الجنوبيين بأن العدو المشترك للسودان هو "الحضارة البيضاء" والإمبريالية، وأن الأمريكيين السود (من أصل أفريقي) قد أدركوا ذلك، فدخلوا في الإسلام. آراء السيد محمد عثمان الميرغني تولى السيد محمد عثمان الميرغني زعامة طائفة الختمية في عام 1968م، عقب وفاة والده السيد علي الميرغني. وكان الختمية تقليديا يتحاشون دوما الدخول النشط المباشر في السياسة. وحافظوا على ذلك النهج في عهد نميري. غير أنهم كانوا في الفترة التي سبقت الاستقلال قد صارعوا طائفة الأنصار، وذراعهم السياسي "حزب الأمة"، وساندوا الحزب الوطني الاتحادي (المعارض لحزب الأمة). وقام الختمية بعد ذلك بتأسيس حزبهم الخاص (حزب الشعب الديمقراطي) بقيادة أحد الختمية المقربين من علي الميرغني. وتحالف ذلك الحزب مع حزب الأمة بين عامي 1956 – 1958م وكونا معا الوزارة. وعاد حزب الشعب الديمقراطي بعد قيام ثورة 21 أكتوبر 1964م للاتحاد مع الحزب الوطني الاتحادي برئاسة إسماعيل الأزهري، وكونا حزبا جديدا أسمياه "الحزب الاتحادي الديمقراطي". وقاد الشريف حسين الهندي، أحد زعماء ذلك الحزب وأحد أبناء زعيم طائفة صوفية، معارضة قوية لنظام مايو. ولكن، خلافا لمعظم قادة الأنصار وجماعة الإخوان المسلمين أو الحزب الاتحادي الديمقراطي، امتنعت قيادة وأفراد طائفة الختمية من الدخول المباشر والنشط في أي نوع من المعارضة لنظام نميري، وبقيت بالسودان، بينما كان غيرهم ممن ذكرنا قد فروا من البلاد وأقاموا في المنافي. بل أيد محمد عثمان الميرغني (بصفته رئيسا لـ "لجنة الإحياء الإسلامي" التي كونت في عام 1978م) نميري في سياسته الهادفة لأسلمة البلاد وقوانينها، بل وأدان خصومه في طائفة الأنصار والإخوان المسلمين ووصفهم بأنهم "من متغربي المسلمين Westernized Muslims". وظل الحزب الاتحادي الديمقراطي (بقيادة الشريف حسين الهندي) طوال تلك الفترة معارضا لمايو، حتى بعد توقيع اتفاقية المصالحة التي تمت بين نميري والصادق المهدي في عام 1977م، وبقي بالمنفى حتى توفي في أثينا عام 1984م. لذا كان الحزب الاتحادي الديمقراطي في حالة من الارتباك عندما أطيح بنميري ونظامه عام 1985. ففي جانب كان الحزب قد كان يعاني من "أزمة قيادة" لم يفق منها إلا في انتخابات عام 1986م، وفي جانب آخر كان تحالف الختمية مع الحزب الاتحادي الديمقراطي قد بدأ يضعف بشدة مع تقادم السنين الطويلة، بسبب سجن بعض زعمائه أو وجودهم في المنافي خارج السودان. وفي تلك السنوات ظل زعيم الختمية، محمد عثمان الميرغني، يؤدي دورا متعاظما في السياسة الداخلية لبلاده، مخالفا بذلك تقليدا قديما لطائفته، ومتشبها بطريقة عمل modus operandi خصومه الأنصار. وكان السيد محمد عثمان الميرغني يعد الختمية والأنصار أكثر القوى شعبية بالسودان، وقلل من شأن "التكوينات" الصغيرة التي برزت بعد عام انتفاضة 1985م، ووصفها بأنها غير ذات أهمية، وكان شديد الثقة في أن الأجيال الشابة (ومعظمهم من الطلاب) سيؤيدون بقوة الحزب الاتحادي الديمقراطي (المدعوم من طائفة الختمية)، وليس الحزب الشيوعي ولا جماعة الإخوان. وكان الميرغني من المؤيدين (ضمنا، ودون إعلان) لقوانين الشريعة عند صدورها في سبتمبر عام 1983م. غير أنه صرح بعد سقوط النظام المايوي بأن تطبيق تلك القوانين بأنه كان " كاذبا ومضللا وغير عادل"، ووصف النظام الذي أقامها بأنه أقر "قانون الغاب". غير أنه عبر كذلك عن إيمانه بأن إصلاح تلك القوانين ممكن إن تولى عملية إصلاحها علماء وفقهاء ثِقات. وأضاف بأن السودان سيكون "دولة إسلامية" شرعتها الإسلام (الحقيقي) بروحه اللطيفة المتسامحة الرحيمة، إذ أن أهم مبدأ من مبادئ في الإسلام هو الحفاظ على الكرامة الإنسانية، حيث يأمن الفرد تماما على مصيره وشرفه وماله (جاء كل ذلك في مقابلتين صحفيتين نشرتا في "الوطن العربي" و"المصور" مع السيد محمد عثمان الميرغني في يوم 26/4/1985م). ومن بين القادة الإسلاميين الكبار الذين كانوا ينادون بتطبيق الشريعة، كان محمد عثمان الميرغني أكثرهم إظهارا للتسامح والتنازل في مسألة الصراع مع الحركة الشعبية لتحرير السودان. فعقب إخفاقات الصادق المهدي ومبعوثيه، أخذ الميرغني زمام المبادرة فقام بزيارة شهير إلى أديس ابابا في نوفمبر 1988م، وعرض على الحركة الشعبية ما ظلت حكومة الصادق المهدي ترفضه من تعطيل تطبيق قوانين سبتمبر 1983م في الجنوب. وأفضى ذلك التنازل، كما كان متوقعا، إلى أزمة أخرى في أوساط تلك الحكومة، بسبب رفض الجبهة الإسلامية القومية (بزعامة الترابي) لتعطيل قوانين الشريعة بالجنوب وعودتها لمقاعد المعارضين. وكاد جهد محمد عثمان الميرغني في أديس أبابا أن يحدث اختراقا بين حكومة الصادق المهدي وزعيم الحركة الشعبية جون قرانق. غير أن الأمر أخذ مَنْحىً جَدِيداً بقيام انقلاب 30 يونيو 1989م، الذي ميل الكفة (مرة أخرى) لصالح الحرب الأهلية.