(نفحات الدرت: بين وطن يتردي وغربة تتبدي)
مقدمة الاستاذ/أمير صديق
"بأسلوبها السهل المباشر وبجرأتها في إطلاق الأحكام في تقريرية كاملة - على غرار نبوءات العرافين وحكم المتصوفة - صفعتني النفحات بشدة أوان اطلاعي على أولی حلقاتها منشورة في أحد المواقع الإسفيرية، ممهورة بتوقيع الدكتور الوليد مادبو، الذي تتلبسني حالة من الاستعداد والتحفز الذهني، كلما وقعت عيني على شيء مما يخطه قلمه شديد الرشاقة والعمق. وما إن توغلت قليلا في النص، حتى بدأت أشعر بأن الأسلوب بل والمضمون نفسه، ليسا في الواقع كلما هنالك. ذلك أنني سرعان ما فطنت إلى أن سطور النفحات تحمل في ثناياها خط استفزاز آخر للقارئ، مصدره غرابة هويتها - إن صح التعبير - كنص كتابي ينتصب في جرأة خارج قائمة التصنيفات المتعارف عليها للكتابة. فكما هو الحال مع اسمها "نفحات الدرت" الذي خاوی في رشاقة بين الروحي والمادي، تموضعت النفحات في منزلة بين المنزلتين، المقالة المباشرة والتعبير الإبداعي المحض المستند للخيال. وكما يلاحقك هاجس بعيد تحسه لدقته أول الأمر وكأنه في رأس جارك، لاحقني بموازاة انشغالي بمضامين النفحات على امتداد حلقاتها، هاجس تحديد هويتها كنص مكتوب، ووضع حد للمراوغة الشفيفة التي ظلت تمارسها أمام محاولاتي اليائسة لإخضاعها لسلطة التصنيف. وقد جربت في سياق تلك المحاولات الاستهداء بشق من الاسم "نفحات" لرد هذا الضرب من الكتابة إلى التراث الصوفي، حيث مواقف النفري وحكم ابن عطاء الله، لكن طبيعة الموضوعات التي تتناولها النفحات سرعان ما نسفت لدي هذا الاتجاه، قبل أن أنتبه ثانية إلى أن العنوان نفسه يحيل في الواقع إلى نقيض ما أردت. فالدرت هنا مربوط بالنفحات لكي لا يتحول إلى خصب مادي لا روح فيه، والنفحات مشدودة بدورها إلى الدرت حتى لا تستحيل دلالتها "دينا بلا عجين". ومع الانتقال من محاولة تصنيف فاشلة إلى أخرى، وبمرور الوقت وتتالي حلقات النفحات، زهدت في محاولة إنزال هذه النصوص في أحد قوالب التعبير الجاهزة، وأدركت أن المدخل الصحيح للتعرف على طبيعتها، لا يكون إلا بتأملها خارج سياق المصكوكات الناجزة. والحال هذه، فإن النفحات الآن عندي ليست سوی تداعي الذات المبدعة الملتزمة في صميمها بقضايا ومواقف، يحول حضورها الملح في نفس الكاتب، دون أن يجيء ذلك التداعي تهويما صرفا، متحررا من شروط الواقع وموضوعاته الماثلة.إنها ببساطة التجلي المجسد للتسوية المنجزة في سياق الحوار بين عذابات الذات المبدعة من ناحية، وقيود التزامها الاجتماعي شديد الغور والحضور في نفس كاتبها من الناحية الأخرى.
بيد أن المتأمل في النفحات لا يمكن أن يخطيء كذلك الشبه الواضح بينها وكاتبها، من حيث أنها محاولة لتجسير الهوة بين عالمين، ليسا بالضرورة متناقضين، لكن بينهما بالتأكيد قدر كبير من التباين.. فكاتب النفحات القادم من أسرة هي في صميم الزعامة الأهلية - هرم وسنام البناء القبلي التقليدي في غرب السودان - هو ذاته المثقف والأكاديمي الذي تأهل في أرقى مؤسسات التعليم الغربية الحديثة. وكما احتفظ الكاتب بوفائه دائما لهذين البعدين المتباينين في تكوينه النفسي والفكري، جسرت النفحات بنجاح المسافة بين الكتابة الإبداعية التي تغرف من الخيال المحض، والكتابة المباشرة التي تعالج قضايا الواقع في أبعادها الموضوعية المحددة. وبهذا المعنى فإن النفحات - في تقديري - لا تمثل بالنسبة للكاتب معالجة واعية قصدية لموضوعاتها وقضاياها، بقدر ما أنها تعبير عفوي عن رؤاه النفسية التلقائية المحضة، وبالتالي عالية الصدقية والأصالة، لتلك القضايا والموضوعات.
وبعد، فقد قدم الكاتب من خلال نصوص النفحات، درسا عمليا بليغا في تمجيد قيمة الازدواج والثنائية، بوصفها سمة الموضوعية التي تحتفي بالنسبي وترفض الانحياز الغبي العاجز المريح، لأحد المكونات على حساب الأخرى. وإن النفحات لتمثل في هذا المستوی، إشارة بذاتها لرفض الأحادية وتغليب اللون الواحد، المنبع الأول لعلات واقعنا التي ما جاءت النفحات إلا للتعامل معها.