كلنا مجرمون في حقوق الثورة وحق أنفسنا. انزلاقنا إلى الخطيئة بدأ يوم ارتضينا من لا يستحق الإنابة عنا. أولئك المفاوضون دون تفويض مسبق مجمع عليه كتبة الوثيقة الموقعون عليها زورا وبهتانا باسمائنا جميعا. طيبة القلب وحسن الظن المتمكنتان منا ما غشيهما وقتئذٍ شيء من لهب الثورة.
أفراحنا الآنية فجر الإنتصار باقتلاع قلاع الإستبداد والفساد أعمت أبصارنا وبصائرنا فلم نستبصر ضحى الغد. كما لم نستغرق تأملا في حصيلة التفاوض فانطلت علينا اكذوبة الشراكة ( المحرمة ) حيث جمعنا بين الضدين ؛عسكرية ومدنية. كما قبلنا على عجل دون تبصر في المتن الوثيقة" الملعونة" . باستثناء قلة محدودة لم نمنح ذلك الإنفجار الجماهيري العارم حقه من التقويم الرصين .لو فعلنا ذلك لما ارتضينا غلة التفاوض وحصاد الوثيقة.
* * *
النظرة السطحية غلبت على المشهد فلم ننفذ إلى منابت الثورة وأبعاد ظلالها فنركز على غاياتها القصية. آذاننا المنتفخة بهتافات النصر الحاسم
وأناشيد الشهداء لم تصغ إلى أصوات خافتة نادت باقتناص اللحظة الثورية بغية إحداث تغيير جذري في منظومة النظام السوداني برمته . طموحنا العام توقف عند إجراء تغيير فوقي داخل نطاق السلطة السياسية. العجلة لجهة بلوغ هذا الهدف لم تتح لنا فرصة إعادة هيكلة السلطة نفسها .خوفنا المتكلس من فجائية بروز تبايننا المتمكن منا دفعنا للقبول بالمتاح بين أيدينا .
* * -*
كل ذلك الزخم من التسطح تدافع في غياب مشروع وطني للتغيير أو ملامح قيادة معدة تتولى زمام المبادرة من أجل استكمال المشوار. لكل ذلك أخفقنا في منح جماهير الشعب الحد الأدنى من اليقين بامكانية تبديد حمولات المعاناة المكدسة عقودا طوال فوق الاعناق . بل أسوأ من ذلك راكمت إداراتنا الجديدة مزيدا من الأزمات على إرث المعاناة. هكذا اتسعت الفجوة بين الشعارات المرفوعة إبان الثورة والممارسات في ظل السلطة الجديدة. بل ربما اتسعت كذلك بين الشعارات وتصريحات المسؤولين وادائهم.
* * *
الإرتباك بات سيد المشهد تحت انحسار الرؤية الفكرية والمخيلة التنظيمية المبدعة. السلطة فقدت روح المبادرة ووجدت في الحاضنة السياسية الهزيلة ملاذا للاختباء وراءها فبانت سوءاتهما معاً. كلاهما مسؤولان عن إجهاض الفرصة التاريخية النادرة المشحونة بكل الشروط الموضوعية لإنجاز التغييرات الجذرية المنشودة. غالبية الشعب كانت مجندة لتتحمل أعباء حفر مجرى الثورة العميق إلى منتهاه. نظرا لضعف كابينة القيادة لم نسمع ولو قليلا عن شقاق بين " الراديكاليين" و" المحافظين" كما يحدثنا التاريخ عن قيادات ثورات مشابهة أو أدنى منها.
* * *
حتى عندما أجمعت الرؤى عل منح المسألة الإقتصادية الأولوية إرتبكت السلطة بين تحديث ما هو موجود أو إحداث تغيير جذري للبنى القائمة. بل تعرقل الإرتباك حول مدى التغيير فتعطلت جهود الإصلاح عند محطة تقاطع مسارين أحدهما خط التدرج والآخر درب الهدم والبناء. نحن لانزال عند هذا المفترق. لا نعلم ماإذا كان خيارنا التغيير بالتجزئة أم بالجملة.
المقاربة البيروقراطية لقضايا الثورة هي آفة هذا الجمود. فكل الأحاديث تدور عن خلافات داخل دواوين الدولة. هي نزاعات بيروقراطية الطابع على صلاحيات ، ليست صراعات بين رؤى أو أفكار كما يعبر أصحابها.
* * *
معالجة المعضلة الإقتصادية شكلت أكثر المحاور جدلاً. لكنه ظل اسير النزاعات الديوانية الفوقية. الجدل المثار لم يبلغ جذور الأزمة مثل طرح خيارات لزيادة الإنتاج او تجسير الهوة في الحقل التكنلوجي. هكذا اكتسب مفهوم الإصلاح المتداول دون تأطير صيتا سيئا لأنه ظل شعارا يتردد دون مضمون على الأرض ينفع الناس. كذلك الحال انطبق مع شعارات ثورية مغايرة من طراز " إعادة البناء". المشكل الأساسي ان العقبة لا تتجسد فقط في ترسانة النظام القابضة على مفاصل الخدمة المدنية أمام حركة التقدم. بل الأكثر إيلاما بروز الخلاف غير الخفي داخل معسكر قوى الثورة .
* * *
بما أنه ليس ممكنا أو مجديا العودة إلى منصة الإنطلاق فالأفضل تنظيم مؤتمر نخبوي واسع يخرج فيه كل الفرقاء الهواء الساخن. من المهم في الوقت نفسه إخراج المسؤولين التنفيذيين تبايناتهم واسباب تقاعسهم إلى الأضواء . أكثر الحاحا خروج رئيس الوزراء من وراء اختبائه فيكشف للشعب كل المخبوء من عراقيل ومتاريس المرحلة الفائتة ،أسباب التباطؤ بالاضافة الى تصور متكامل لخطة طريق استنفار كل القوى للاندفاع نحو الغد المأمول .لا بد من انتقاء عناصر المؤتمر بحيث يصبح قادرًا على إعادة بناء السلطة وبلورة برنامج عمل ممرحل من مهام المؤتمر إبانة الخطوط الحمر و إزالة خطوط الإلتباس بين مجلسي الوزراء والسيادة . لا جدوى من كل هذا الجهد مالم يتزامن مع انفضاض المؤتمر تشكيل المجلس التشريعي سلطة عليا مطلقة للمراقبة والمحاسبة.
aloomar@gmail.com