نهاية تقلبات البشير

 


 

 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

كيفما يتقلب عمر البشير ويغير تكتيكاته، ويعتمد الكذب والتمويه والمداراة والذئبية واللف والدوران كأدوات لحكم البلاد لأطول فترة، كلما تقلب معه قومه الإخوان المسلمون حتى لو يعني ذلك تجريدهم من السلطة، طالما ظلت ثرواتهم في مكانها وشركاتهم على قيد الحياة ونساؤهم يرحن ويجئن من وإلى دبي وكوالالمبور ولندن متبضّعات ومتمنطقات بأطنان من الذهب. ويبدو لي أنهم قد توافقوا مع البشير علي هذه المعادلة: (لا نجادلك فيما ترى من تكتيكات لا تؤثر في استراتيجيتنا الأساس، ولا ننازعك الحكم؛ فقط أتركنا وشأننا مثل كلب أهل الكهف "باسطين أذرعنا بالوصيد" إلى جوارك، ولا نريد أن نسمع فزاعة "القطط السمان" مرة أخرى.)

وهذا ما نراه في الساحة السودانية بكل وضوح؛ فقد عسكر البشير حكومته، على الأقل نوابه وحكام الولايات، ثم خلط المعادلة العسكرية برموز مضمونة ومدجنة من طاقمه القديم – إيلا وأحمد سعد عمر ووزير الخارجية ووزير العدل، ضارباً عدة عصافير بحجر واحد: أولاً، بذلك يطمئن ثعالب المؤتمر الوطني على أنهم ما زالوا في الصورة؛ وثانياً، يضع العسكر في حجمهم الطبيعي، فلا يسترسلون في أحلام زلوط بأنهم استولوا على السلطة (وقد هبطت لهم من السماء في حقيقة الأمر، كمن قام من نومه ولقى كومه)؛ وثالثاً، قد يفلح المظهر العسكري المسلح بقانون الطوارئ في إرهاب الشارع، ويدخل في روعه أن النظام مسترسل في القمع للنهاية (عسي أن يدخل كل فأر جحره كما قال البشير في احتفال المدفعية بعطبرة قبل نيف وشهر).

ولكن، كما لاحظ بعض معلقي الفضائيات، فقد تأكد بما لا يدع مجالاً للشك أن البشير يحكم البلاد بمفرده، وقد ذهب الجميع مع مياه غسيل التدوير وبقي هو بلا شق أو طق ظاهر، وما برح يتلاعب بأطقم الحكم كيفما شاء، كأنه الخليفة عبد الله ول تور شين أو أحد أباطرة السلطنة السنارية في أوج عهودهم الأوتوقراطية؛ وليس هنالك لوبي داخل الدولة يستطيع أن يقف في وجه البشير. ولقد أصيب كثير من المراقبين بالذهول والدهشة وهم يبصرون أمامهم رجلاً متوسط الذكاء وضئيل القدرات، والوحيد من جيله الذي لا يتحدث الإنجليزية بطلاقة، وبلا تاريخ نضالي أو بطولات عسكرية في سوح المعارك التي خاضها الجيش السوداني طوال القرن العشرين – رجلاً من صنيعة العراب حسن الترابي الذي اصطفاه لما آنس فيه من عدم طموح وضمور كفاءة، ولما يبديه من طاعة وطأطأة وأدلجة لحد العبودية للإمام العراب، ومن افتتان بمتع البطن والهندام المتأنق، عسكرياً ومدنياً، وحب لدرجة الوله للرازماتاز والظيطة والظمبريتة والطرب وإرزام الطبول والرقص على أنغامها، وإدمان لمحافل و"ملمات" الهتيفة القرويين ليخطب فيهم كيفما اتفق، فعنده لكل مقام مقال، ليس من باب الحكمة، إنما من باب الماكيافيلية وتعلم الحلاقة على رؤوس الأيتام، وإرسال القول على عواهنه والكذب الذى لا ينضب.

ما الذى جعل رجلاً كهذا يستفرد بالحكم لثلاثين عاماً حسوما، تخلص في مبتداها من ربيب نعمته الإمام العراب، كما تخلص بعد ذلك من نائب الإمام - علي عثمان - الذى كان الآمر الناهي طوال العشرين سنة الأولى من عمر النظام، خاصة فيما بعد إقصاء الترابي عام 1999م؟؟ وما الذى جعل رجلاً عادياً كهذا يتحدى ثورة شعبية نادر مثلها في التاريخ، عمت البوادي والحضر ودامت بإصرار وفدائية لا تقل عن الثورة المهدية، واستقطبت جميع فئات الشعب ومعظم ألوان الطيف السياسي، بما في ذلك الرموز الإسلامية المعروفة مثل غازي وحسن مكي والتجاني عبد القادر إلخ؟؟

يقول بعض الكتاب إن الحظ المحض دائماً يتنزل علي البشير، وإنه على كل حال يجيد مكيدة واحدة، وهي الفت في عضد الخصوم واستغلال االتناقضات الموجودة بينهم مهما كانت صغيرة، وهو بارع كذلك في اللعب برغبات الطامحين في السلطة، وما فتئ يشرك فيها كل من هب ودب، ولكنه يعيد تدويرهم ويتخلص منهم بنفس السرعة التى استقطبهم بها، ويكون بذلك قد مرغهم في أوحال نظامه وأسكتهم وشوش تاريخهم السياسي وأبطل مفعولهم المستقبلي المحتمل. ويزعم المحللون إن البشير أخذ يتفنن في عملية إعادة التدوير للأطقم الحاكمة، عله يترك انطباعاً بأنه يبحث عن تجديد الدماء، وهو في الحقيقة باحث عن سبل اقتسام الكيكة مع أكبر عدد ممكن من اللصوص المتربصين، الذين دلت تجربة الثلاثة عقود المنصرمة على أنهم سرعان ما يتحولون إلى لصوص محترفين، وبذلك يصبحون طرفاً في سجل النظام الزاخر بالفساد، ويكون دم الوطن قد توزع بين القبائل.

و لكن اللعبة لم تصل لنهايتها بعد، فلقد انتفض الشارع منذ منتصف ديسمبر الماضي، و ما برح مشتعلاً بعنفوان متجدد مع كل صباح؛ و يردد الثوار نفس المقولة التي كانت تتردد بميدان التحرير إبان الثورة المصرية في يناير 2011م وهي: (لا رجوع للمنازل، و لا تنازل قيد أنملة عن شعار الثورة الأساس وهو تنحي الرئيس وسقوط نظامه).

ولقد استمرت الثورة المهدية لأربع سنوات من عام 1881م حتى يناير 1885 عندما سقطت الخرطوم واغتيل حاكمها العام شارلس غردون؛ كما استمرت الحرب العالمية الثانية لسبع سنوات من 1939 حتى 1945 عندما دك الحلفاء حصون الفاشية والنازية في روما وبرلين وطوكيو. وهكذا، فإن ثوار السودان ينظرون لمنازلتهم مع نظام البشير كحرب طويلة الأمد وليست معركة خاطفة عابرة من نوع الblitzkrieg؛ و الحرب فيها الكر والفر، ولكنها تعني الصمود للنهاية مهما استطالت المعامع ومهما تمادى الخصم في صلفه وغروره وبطشه وإجرامه وانتهاكه للحرمات و قتله للصبية والأطفال، فإن مثل هذه التضحيات تزيد النار ضراماً والنفوس إصراراً والعزيمة مضاءً حتى الوصول للنتيجة الحصرية وهي المعالة الصفرية: سقوط النظام وذهاب هذا الدكتاتور المتشبث إلى لاهاي.

و كما قال الكاتب فتحي الضو فإن البشير لو تمكن من الصمود في وجه الثورة واستمر في طغيانه غير مباه بالشارع وبالحراك النشط الذي استمر به طوال هذه الفترة غير المسبوقة، فإن (الجنرال الإقتصاد) وحده كفيل بهدم هذا النظام وكتابة الفصل الأخير في الملحمة لصالح الشعب المنتفض؛ فببساطة شديدة، لا تعني عسكرة النظام إلا المزيد من الصرف على الآلة الأمنية على حساب معاش الناس وعلى حساب الخدمات التي ظلوا يتطلعون إليها وظلت الدولة مقصّرة فيها، وهي التعليم والصحة ونظافة البيئة والأمان وخدمات البلديات والبنية المؤسسية التي تخلق إنتاجاً يفيد الإقتصاد ويصلح من حال الناس، مثل مشروع الجزيرة والمصانع الحكومية وغير الحكومية، وكافة الإهتمامات والمسؤوليات المدنية التي تجعل من الدولة مكاناً يسهل العيش فيه، مكاناً يليق بالبني آدمين.

و الإقتصاد السوداني في الوقت الراهن يمر بأزمة مركبة تسير من سيئ لأسوأ، وكلما أفلست الحكومة بسبب أولوياتها المتهافتة الباحثة عن بقاء النظام فقط – تلك الأولويات التي تركز على إزهاق موارد البلاد في الأغراض الأمنية على حساب البنود الأخرى – كلما استطالت صفوف البنزين والخبز والبترول والإي تي إم، وكلما تحولت نلك الطوابير لتظاهرات مستدامة بالشوارع لن تهدأ إلا بزوال هذا النظام الآثم المتجبّر، وذلك فجر أوشك أن ينبلج.

عاش كفاح الشعب السوداني !
#تسقط_بس

fdil.abbas@gmail.com

 

آراء