هشاشة الثورات وتوازن الضعف
عبدالله مكاوي
25 February, 2022
25 February, 2022
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
صحيح ان عوامل انفجار الثورات في المنطقة العربية كانت مهياة منذ امد طويل، بعد ان تكلست انظمة الحكم، واصبحت تعيد انتاج الفساد والتردي علي كافة الاصعدة. الشئ الذي جعل حياة الشعوب سلسة من المعاناة والحرمان من كافة الحقوق. لتُخيِّم حالة من البؤس والاحباط، كقدر ملازم لسكنات وحركات معظم شعوب المنطقة العربية. ومع انفتاح شباب المنطقة علي عوالم العولمة، وما تتيحه من فرص للحياة الافضل، بعد الخلاص من شروط الاستبداد والفساد. شكل ذلك الدافع الاساس للحراك الثوري في المنطقة العربية. ولكن توقيت الثورات العربية للانعتاق من ربقة الاستبداد، والتطلع للحكم الديمقراطي والدولة المدنية، تزامن للاسف مع مرحلة افول النموذج الديمقراطي بنسخته النموذجية، وصعود الخطابات الشعبوية، وانظمة اقتصادية وحشية، خصمت من منجز الحرية الفردية ودولة الرعاية الاجتماعية.
وفي ذات السياق برزت تجارب سياسية تستفيد من منجز الحداثة، علي مستوي النظم الادارية والانضباط التنظيمي ومضاعفة القدرات الاقتصادية، كمحرك للحياة الاجتماعية، علي حساب النموذج الديمقراطي وما يتيحه من فرص للحريات السياسية والتداول السلمي للسلطة وحصانة حقوق الانسان. ويقف علي راس هذا النموذج تجربة الصين و روسيا الي حدٍ ما. وهذا النموذج الذي يقايض الحرية بالرفاه او الاستقرار، يستمد جذوره من ثقافة الاستعباد، ولذلك ليس مصادفة ان نجد نسخة مطابقة لهذا النموذج ولو باسلوب رجعي، راسخ في منطقة الخليج، كجزء من تقاليد بيئة بدوية، وجدت في المال الريعي ما يكرسها كحالة مقبولة.
ويبدو ان هذا النموذج الاخير (السلطة للقادة/الامراء/الضباط، وبقية الشعب هم ما تجري عليه السلطة اجراءتها، اي الشعب مجرد موضوع لذات السلطة) هو ما يراد للثورات العربية ان تحتجز فيه. ومن اجل ذلك يتم اجهاض احلام الثورات العربية، بدول تنعم بالحرية والسلام والعدالة. وهذا النموذج المطلوب بطبعه، يحتاج لمستبد لادارته. وهو ما دفع القوي المعادية للثورات، لرعاية نماذج من المستبدين الجدد، لوراثة الثورات او قطع الطريق عليها. وهي نماذج قد تكون ناعمة كقيس سعيد في تونس او عبدالحميد تبون في الجزائر، او نماذج خشنة كحالة السيسي في مصر، وذلك من اجل ارسال رسائل تحذيرية للقوي الثورية، من عواقب اصرارها علي مشروعها الثوري. وهي نماذج وجدت قدر من النجاح بسبب استقرار حالة الدولة في تلك التجارب، علي عكس ما يواجه هذا النموذج في دول هي بطبعها غير مستقرة او ينقصها الرسوخ، كالسودان وليبيا واليمن، وهو ما يجعل من الصعوبة بمكان تطبيق هذا النموذج فيها، من غير تعريض بقاء الدولة (الهشة) نفسها للخطر. ومن هنا يبرز تناقض الثورات الذي يسبب الهشاشة، اي الدول الاستبدادية ذات المؤسسات المستقرة قابليتها للثورة اصعب، ورغم ان نجاح الثورة فيها اقل كلفة، إلا ان عملية التغيير اكثر تعقيد بسبب رسوخ تلك البني الدولتية، ولذلك من السهولة بمكان اجهاضها. اما الدول المستبدة الفاشلة في ترسيخ مؤسسات الدولة، فعملية قيام الثورة فيها سهلة نسبيا، إلا ان كلفتها عالية لانعدام الحساسية بقيمة الانسان، كما انه يصعب السيطرة علي الثورة بسهولة او اجهاضها تماما، ولكن في ذات الوقت، غياب مؤسسات الدولة يُصعِّب من نجاح الثورة والايفاء بوعودها. اما الفشل فغالبا ما يقود لتفكك الدول (الهشة) او حكمها بقوة الحديد والنار، الشئ الذي يجعل مجرد الكلام عن دولة او مجتمع هو من باب المجاز.
عموما، ورغم التشابه اقلاه في محصلة الربيع بين جميع دول الثورات، إلا ان هنالك اختلاف بين خصوصية كل دولة وتجربة واساليب التخريب الداخلية والخارجية التي اسهمت في اجهاضها او اضعافها. اما حالة السودان كدولة فقد كان الاوفر حظا من التناقض، فرغم ثراء الدولة إلا ان شعبها الاكثر فقرا، ورغم استقلالها مبكرا ونجاح ثورتين في تاريخها ضد النظم الاستبداية، إلا ان تجربتها السياسية هي الاقل استقرارا، والمنتجة لاكثر الانظمة تسلطا وفسادا. والمقصود تجربة تحالف الايديولوجية الدينية والمؤسسة العسكرية، ومؤكد هكذا مركب جهل وغرور وعنف، هو الاكثر تاهيل لتنفيذ اي برامج غض النظر عن واقعيتها او كلفتها. وهو ما لم يتاخر كثيرا، لانه في ظرف ثلاثة عقود كالحة، شهدت تطبيق المشروع الحضاري (الهلامي)، تحولت البلاد الي كومة رماد، بعد ان اهدر الموارد وصادر كافة حقوق المواطنين! وهو ما ارجع البلاد الي حالة اللادولة، بعد ان ازاح الحياة السياسية والمؤسسات المدنية، لصالح سيطرة تحالف العسكر والمليشيات والراسمالية الدينية، مع غلبة سطوة المليشيات (العقائدية والقبلية) بما يتلاءم وضحالة ما تبقي من شبهة مؤسسات الدولة.
المهم، بعد قيام الثورة سقط النموذج الاسلاموي سياسيا وقبلها تم تعريته اخلاقيا، ولكن ظلت هياكله التي تحمي نموذجه في كامل سيطرتها، ان لم تزدد نفوذا وتجردا من كل اعراف المجتمع! اي اورثنا نظام الانقاذ قوي باطشة، عقيدتها العنف وكنز المال، ولذلك هي حريصة علي حماية مصالحها، عبر السيطرة علي السلطة باي ثمن.
وبعد الثورة كان الاعتقاد ان الشراكة ستمكن المدنيين من استخدام ادواتهم السياسية، للحد من نفوذ العسكر وتغول المليشيات. إلا ان ما حدث هو نوع من التحالف بين العسكر والسياسيين لتقاسم الفترة الانتقالية! ولضلوع العسكر في المؤامرات، فقد تم التآمر علي الشركاء السياسيين واقصاءهم، لصالح الحركات المسلحة! ومن ثمَّ اكمال مخطط اجهاض الثورة، كمرحلة اولي في مشروع صناعة المستبد، كهاجس اقليمي. وهذا الدور يمكن ان يلعبه البرهان كخيار اول وحميدتي كخيار ثانٍ. ولكن فشل الانقلاب البرهاني/الحميدتي في السيطرة المطلقة علي السلطة، رغم تحالفه مع كل القوي الحاملة للسلاح، واستناده علي مؤسسات الانقاذ المسيطرة علي جهاز الدولة، وحرصه علي بناء قنوات تواصل مع الدول الاقليمية واسرائيل، وتلقيه الضوء الاخضر للقيام بالانقلاب. والسبب ان قوي الثورة ما زالت حية وناشطة وقادرة علي السيطرة علي الشارع، وكذلك الرفض الخارجي الذي ادان الانقلاب الارعن، لدرجة ايقاف كل مشاريع الدعم وتحسين العلاقات الذي قطع شوطا كبيرا، وما ترتب علي ذلك من زيادة للضائقة المعيشية، مما حول حياة المواطنين الي قطعة من الجحيم.
وبسبب فشل الانقلاب في حسم الامور لصالحه، وعجز القوي الرافضة للانقلاب في اسقاطه، وصلنا الي ما اسمته الدكتورة اماني الطويل توازن الضعف. والحال كذلك، من يستطع حسم الصراع هو من يقلب دفة التوازن لصالحه. فالقوي المدنية اذا ارادت تعديل ميزان التوازن، عليها قبل التفكير في تكوين جبهة واحدة، التخلص من اسباب الفرقة لتصبح الوحدة ممكنة. وسبب الفرقة في اعتقادي يرجع الي احتكار الثورة ومن ثمَّ شرعية تمثيلها، ولذا من دون تحرير الثورة من السيطرة والاحتكار والتمثيل، وجعلها شراكة. يصعب تقديم تنازلات، او الاتفاق علي تصور مشترك. ويكفي تجربة الحرية والتغيير في احتكار الثورة وتمثيلها، وما جره ذلك من تداعيات وكوارث ما زلنا نعاني تبعاتها. والخطوة التالية يجب دراسة الخصم ومعرفة نقاط ضعفه وقوته من غير تهويل او تصغير، ومن ثمَّ اختيار افضل اساليب المواجهة، التي تراعي توازن القوي واحوال العباد وحالة الدولة. خاصة ان المشلكة ليست في الفشل في اختيار الاسلوب المناسب او خسران اي جولة مواجهة، ولكن في عدم تقدير نوعية الخصم وطبيعة الصراع وخطورة تداعياته.
وبما ان القوي المدنية ما زالت تعاني حالة تضعضع الثقة بين المكونات وتضارب الاولويات، ومحافظة لجان المقاومة علي ابقاء جذوة الصراع مشتعلة، ولكن من غير وجهة محددة. فقد وقفنا في محطة الجمود، وفيها يركز المكون العسكري علي تمكين حالة الامر الواقع. ولكن هذا المكون نفسه يعاني تناقضات قد تعصف بتماسكه. فالبرهان مثله مثل حميدتي يتطلع للعب دور المستبد الذي ترغبه الدول الاقليمية، وايضا يماثله في عرض كافة الخدمات التي تسمح له بلعب هذا الدور. وهو يستفيد في ذلك من دعم الدولة العميقة، سواء في المؤسسات المدنية او العسكرية او الامنية او الاقتصادية. ولكن نقاط ضعفه تمثلها تحالفه المرحلي مع منافسه الاكبر حميدتي. كما ان حليفته الاقرب مصر اصبحت اقل ثقة فيه، وتاليا رهانا عليه، خصوصا بعد ما اظهره من ضعف علي مستوي القيادة، وانعدام المصداقية علي مستوي الاقوال والافعال.
اما حميدتي رغم ما يبديه ظاهريا من عناصر القوة، سواء من خلال تمدد قوات الدعم السريع، او النفوذ الاقتصادي المحمي بقوة السلاح، او تمتين علاقاته مع ابوظبي وتل ابيب، او استفادته من وسائل الدعاية وشراء الذمم. إلا ان نقاط ضعف حميدتي تمثلها، ان قواته تفتقر للعقيدة العسكرية او الاصح ان المال هو عقيدتها الاساس، وهو بطبعه سلاح ذو حدين. اضافة الي الطابع العائلي والقبلي الذي يسم قيادة قواته، مما يخل بمبدأ الكفاءة والاهلية، وتاليا يقمع طموح الافراد المنتمين للقوات من خارج معيار الافضلية القرابية. اما المعضلة الكبري ان حميدتي نفسه غير مؤهل للقيادة التي يطمح اليها، مهما استثمر فيه المستثمرون! وما يقف عقبة امام تاهيله، ان تكوينه نفسه مشدود لمحصلة وعيه وتربيته، اي الاساليب البدوية والبدائية للقيادة! والحال كذلك، حميدتي يراهن علي تحويل ادارة الدولة، الي ادارة اهلية، يعتلي شخصه رئاسة نظارتها! لذلك ليس مصادفة انه يحاول جاهدا، ضخ الدماء في شراين الادارة الاهلية المتيبسة، والتي سلفا تجاوزتها التطورات الادارية، ولو ان ذلك لا يمنع توظيفها في حدود الاعراف المحلية. ومؤكد حميدتي يستفيد من حالة غياب الدولة، في سعيه لبعث الحياة في الاجسام والهياكل ما قبل الدولة، لتشكل له حاضنة قليلة الكلفة وسهلة التوظيف. اما حلفاؤه في الخارج فيستخدمونه كاداة فقط، وليس عن قناعة ترفعه لمستوي التعامل الندي. وهذا ما يفسر ان كل لقاءته تتم في الظلام، ولاغراض لا يمكن الافصاح عنها.
اما قيادة الحركات المسلحة، بعد ان سقطت سياسيا واخلاقيا بمشاركتها في الانقلاب، وقبلها بيع شعارات الثورة ودماء الثوار وانصار الحركات وعشيرتها، في مؤامرة اتفاقية جوبا المعيبة، فقد توقف حمار طموحات قادتها عند عقبة تطلعات البرهان/حميدتي! لتتحول الي مجرد ادوات بيد البرهان وحميدتي، نظير مكاسب وامتيازات تتلاءم وحدود دورهم، اي كموظفين في مشروع البرهان حميدتي. وهو ما يبرر القول ان مكاسبهم الذاتية الصغيرة، تناسب حجمهم كقادة صغار.
اما بخصوص القوي المدنية، فلجان المقاومة مصدر قوتها، هي قدرتها علي تحريك الشارع، كاكبر قوة ضغط ضد القوي الانقلابية. وكذلك التمتع بالنقاء الثوري، الذي عماده الصدق في الاقوال وترجمتها لافعال. ولكن نقاط ضعفها، التاخير في تحويل ضغط الشارع لفعل سياسي يخدم اهداف الثورة، لان تحريك الشارع يظل في النهاية اداة وليس غاية. وهنا نقطة ابتعادها او صعوبة التقاءها مع الاحزاب السياسية. وهنالك نقطة ضعف اخري، وهي طريقة الادارة الافقية للجان المقاومة قد تناسب الفعل الثوري، ولكنها غير مناسبة للعمل التنظيمي، الذي يحتاج لقيادة موحدة، تمكنها من ادارة الصراع بكفاءة. واحتمال هذه الطريقة نفسها في العمل، هي ما يعيق تكوين تحالف جديد، يستفيد من اخطاء تحالف الحرية والتغيير. لان الاشكال يظل ليس في التحالف، ولكن من يديرون التحالف، ويوظفونه لخدمة اغراض خاصة.
اما تحالف الحرية والتغيير، رغم انه اكبر تحالف سياسي تشهده البلاد، إلا ان مشاركته في السلطة، وقبله انفراد جزء منه بادارة الحوار مع العسكر، من غير توافق سياسي علي طبيعة الحوار واجندته وسقوفاته، وقبل ذلك اختيار فريق تفاوض مؤهل، مع تزويده بخبراء تفاوض، كل ذلك اصاب هذا التحالف بالضعف واوجد بين مكوناته الخلافات الجذرية! وهذه المسالك الانفرادية في اتخاذ القرارات، عكست نزعة تسلطية لعديد من مكونات التحالف! ليساهم كل ذلك في انتاج التجربة البائسة للشراكة، حتي وجه له المكون العسكري الضربة القاضية باقصائه من السلطة. وما ترتب علي هذه التجربة الفاشلة، من احباط وعدم اقتناع بجدوي التحالف، وما شكله ذلك من حجر عثرة امام تكوين تحالف جديد، رغم الحاجة الماسة اليه، للتخلص من الانقلاب باقل كلفة وفي اسرع زمن، ومن ثم الشروع في التاسيس لدولة حديثة.
اما الحزب الشيوعي فيحسب له قدرته الماهرة علي تحليل الصراع، ولكن علته تكمن في ادارة الصراع، وبما في ذلك النقص في امتلاك قدر من المرونة السياسية، تسمح له باستخدام الاساليب التي تتلاءم مع كل مرحلة! والاهم استخدام اللغة والاساليب السياسية عوض عن استخدام اللغة والاساليب الثورية علي طول الخط. اي آن للحزب الشيوعي ان يتخفف من حمل عبء قيادة الجماهير، ويكتفي بدور المساهم في الثورة والتغيير كغيره من المساهمين.
اما ما يخص بقية مكونات الشعب، فيبدو انها تقف كعادتها علي الحياد، او المشاركة القلبية كاضعف الايمان. وفي انتظار ميلان الكفة للجهة المنتصرة، والقادرة علي احداث الاستقرار، غض النظر عن كلفته. ولكن لسوء حظ هؤلاء ان الاوضاع الراهنة لا تعد باي استقرار، اذا ما استسلموا لسلبيتهم وترك عبء النضال علي الثوار.
وامام هذا الجمود والهشاشة والتحديات الجسام، لابد ان يكون الفعل المقاوم معادل لها او يزيد. وهو ما يتطلب التوافر علي جسم مرن يتعدي الدعوات للتظاهرات، الي بناء استراتيجية لاسقاط الانقلاب وترتيب الاوضاع لما بعده. ولصعوبة تكوين هكذا جسم، في ظل اوضاع معارضة طابعها الانقسام والتشرذم، يمكن البدء بتحديد طبيعة الصراع واطرافه، ومن ثمَّ كيفية حسمه لصالح الثورة ومشروع التغيير.
وفي هذا السياق يمكن المجازفة بالقول ان الصراع ذو وجهين، وجه يتعلق بالاطار السياسي و وضع يتعلق بكيفية المحافظة علي كيان الدولة من الانهيار؟ وعليه الثورة امام تحدي التاسيس لوضع سياسي جديد، من دون المرور بكارثة فقدان الدولة، او دخولها في دوامة عنف لا يبقِ ولا يذر.
اذا صح ذلك، لكي تنجح الثورة باقل كلفة واسرع طريقة، يجب ان تملك خطاب قادر علي مخاطبة الكتلة الساكنة او الوافقة علي الحياد والباحثة عن الاستقرار وهي الغالبية. وهذا الامر ازداد صعوبة بعد النموذج البائس الذي قدمته حكومة حمدوك، وبالاخص في الجانب الاقتصادي! لان حمدوك طبق مشروعه الاصلاحي بقسوة لا تتلاءم مع احوال الغالبية الفقيرة، الشئ الذي ترك انطباع سلبي علي مجمل رهان الثورة، وكذلك ضعضع الثقة في جدوي المدنية وكفاءة المدنيين. وعليه، كسب هذه الشريحة او نصيب كبير منها، هو ما يمنح الثورة فرصة اكبر لحسم الصراع. الذي هو في اصله ضد نخبة عسكرية ومليشياوية قبلية وطبقة راسمالية طفيلية، ولكنها تملك السيطرة علي الثروة والقوات الحاملة للسلاح، وتتمتع بدعم اقليمي مهول، اضافة للاستفادة من جهاز الدولة المصمم لخدمة الانظمة الاستبداية والقادة الانقلابيين، او اقلاه مصمم للتعايش معهم.
ومن هنا يجب الاشارة للعنصر الاهم لكسب الصراع، وهو قدر ة التاثير علي المؤسسة العسكرية، وكسبها لخط الثورة. ومكن الصعوبة في هذا المجال، هو فقدان الثقة بين الطرفين، بسبب ما تعرضت له هذه المؤسسة من تشويه، حرفها عن واجبها الاحترافي، الي خدمة قادة انقلابيين او انظمة شمولية، نظير امتيازات ضخمة تنالها نخبة الضباط الكبار. لذلك كسب هذه المؤسسة يحتاج لمفارقة الخطاب العاطفي، من شاكلة شرفاء الضباط، وغيرها من اضفاء صفات بطولية او وطنية، يصعب تصديقها لمن ينتمي لمؤسسة، مارست كل هذا التخاذل ضد شعبها. ولذلك ما يجب التفكير فيه والاستعداد لمنحه، هو امتيازات ووضع مريح خلال الفترة الانتقالية وما بعدها، لهذه المؤسسة المعتلة، حتي استتباب احوال الدولة المدنية، وذلك بالقدر الذي يحفزها للانضمام لمشروع التغيير. واهمية وجود هذه القوات في صف المعارضة، ليس لخيريتها التي لم نشهدها تاريخيا، ولكن لانها افضل السيئين، مقارنة بمليشيات الدعم السريع وجهاز الامن وقوات الحركات المسلحة. خاصة بعد التجريف الذي تعرضت له الحياة السياسية، وغزو الفضاء السياسي والسلطوي بواسطة هذه القوات المسلحة. اي نحن حيال واقع غير سياسي ويصعب ادارته بلغة السياسة فقط، وعليه لابد من وجود جهة عسكرية قادرة علي حماية الثورة والدولة وانتزاع السلطة، والاهم قادرة وراغبة في لجم استعدادات اجهزة وقدرات مليشيات مصممة للقتل والنهب ومرتبطة بالسلطة وجوديا. واذا صح ذلك، لا مكان من الاعراب للاءات لجان المقاومة بهذه الكيفية الحاسمة، إلا اذا انكرنا طبيعة الواقع وحركتنا الرغبات. بمعني، ليس هنالك من يرفض خروج العسكر من السلطة وبناء دولة مدنية محترمة؟ ولكن السؤال كيف يتم ذلك في ظل واقع معسكر كليا، ودولة منهارة وسيولة شاملة تحكم المشهد؟ وهذا بدوره يردنا لمسالة هشاشة الثورات امام عظمة التحديات. وصحيح انه ليس هنالك مستحيل امام الاصرار والعزيمة، ولكن الاكثر صحة ان الوعي السياسي الناضج يتعامل مع الواقع كما هو، اما الوعي السياسي الرغبوي فتشده الطموحات الكبري، مما يدفعه لتهميش حجم العقبات، وهو ما ينذر بعواقب وخيمة. اي ما تحتاجه الثورة لكي تعبر ليس الشجاعة فقط، ولكن الحكمة ايضا.
والخلاصة، يبدو ان السبب الاساس في هشاشة الثورات اضافة الي انها عملية هدم وبناء في ذات الوقت، انها تواجه معضلة في منطقتنا الشرق اوسطية، وذلك لانها اما تواجهه بنية دولتية مستبدة يصعب تغييرها، او بنية دولتية هشة قابلة للانهيار.
واخيرا
نسال الله الرحمة والمغفرة للشهداء، والحرية للمعتقلين والعودة للغائبين، وعاجل الشفاء للمصابين، الذين يحتاجون لاكثر من الدعاء، وهو المساهمة الايجابية في علاجهم، كجزء يسير من رد الدين. ودمتم في رعاية الله.
/////////////////////////////
بسم الله الرحمن الرحيم
صحيح ان عوامل انفجار الثورات في المنطقة العربية كانت مهياة منذ امد طويل، بعد ان تكلست انظمة الحكم، واصبحت تعيد انتاج الفساد والتردي علي كافة الاصعدة. الشئ الذي جعل حياة الشعوب سلسة من المعاناة والحرمان من كافة الحقوق. لتُخيِّم حالة من البؤس والاحباط، كقدر ملازم لسكنات وحركات معظم شعوب المنطقة العربية. ومع انفتاح شباب المنطقة علي عوالم العولمة، وما تتيحه من فرص للحياة الافضل، بعد الخلاص من شروط الاستبداد والفساد. شكل ذلك الدافع الاساس للحراك الثوري في المنطقة العربية. ولكن توقيت الثورات العربية للانعتاق من ربقة الاستبداد، والتطلع للحكم الديمقراطي والدولة المدنية، تزامن للاسف مع مرحلة افول النموذج الديمقراطي بنسخته النموذجية، وصعود الخطابات الشعبوية، وانظمة اقتصادية وحشية، خصمت من منجز الحرية الفردية ودولة الرعاية الاجتماعية.
وفي ذات السياق برزت تجارب سياسية تستفيد من منجز الحداثة، علي مستوي النظم الادارية والانضباط التنظيمي ومضاعفة القدرات الاقتصادية، كمحرك للحياة الاجتماعية، علي حساب النموذج الديمقراطي وما يتيحه من فرص للحريات السياسية والتداول السلمي للسلطة وحصانة حقوق الانسان. ويقف علي راس هذا النموذج تجربة الصين و روسيا الي حدٍ ما. وهذا النموذج الذي يقايض الحرية بالرفاه او الاستقرار، يستمد جذوره من ثقافة الاستعباد، ولذلك ليس مصادفة ان نجد نسخة مطابقة لهذا النموذج ولو باسلوب رجعي، راسخ في منطقة الخليج، كجزء من تقاليد بيئة بدوية، وجدت في المال الريعي ما يكرسها كحالة مقبولة.
ويبدو ان هذا النموذج الاخير (السلطة للقادة/الامراء/الضباط، وبقية الشعب هم ما تجري عليه السلطة اجراءتها، اي الشعب مجرد موضوع لذات السلطة) هو ما يراد للثورات العربية ان تحتجز فيه. ومن اجل ذلك يتم اجهاض احلام الثورات العربية، بدول تنعم بالحرية والسلام والعدالة. وهذا النموذج المطلوب بطبعه، يحتاج لمستبد لادارته. وهو ما دفع القوي المعادية للثورات، لرعاية نماذج من المستبدين الجدد، لوراثة الثورات او قطع الطريق عليها. وهي نماذج قد تكون ناعمة كقيس سعيد في تونس او عبدالحميد تبون في الجزائر، او نماذج خشنة كحالة السيسي في مصر، وذلك من اجل ارسال رسائل تحذيرية للقوي الثورية، من عواقب اصرارها علي مشروعها الثوري. وهي نماذج وجدت قدر من النجاح بسبب استقرار حالة الدولة في تلك التجارب، علي عكس ما يواجه هذا النموذج في دول هي بطبعها غير مستقرة او ينقصها الرسوخ، كالسودان وليبيا واليمن، وهو ما يجعل من الصعوبة بمكان تطبيق هذا النموذج فيها، من غير تعريض بقاء الدولة (الهشة) نفسها للخطر. ومن هنا يبرز تناقض الثورات الذي يسبب الهشاشة، اي الدول الاستبدادية ذات المؤسسات المستقرة قابليتها للثورة اصعب، ورغم ان نجاح الثورة فيها اقل كلفة، إلا ان عملية التغيير اكثر تعقيد بسبب رسوخ تلك البني الدولتية، ولذلك من السهولة بمكان اجهاضها. اما الدول المستبدة الفاشلة في ترسيخ مؤسسات الدولة، فعملية قيام الثورة فيها سهلة نسبيا، إلا ان كلفتها عالية لانعدام الحساسية بقيمة الانسان، كما انه يصعب السيطرة علي الثورة بسهولة او اجهاضها تماما، ولكن في ذات الوقت، غياب مؤسسات الدولة يُصعِّب من نجاح الثورة والايفاء بوعودها. اما الفشل فغالبا ما يقود لتفكك الدول (الهشة) او حكمها بقوة الحديد والنار، الشئ الذي يجعل مجرد الكلام عن دولة او مجتمع هو من باب المجاز.
عموما، ورغم التشابه اقلاه في محصلة الربيع بين جميع دول الثورات، إلا ان هنالك اختلاف بين خصوصية كل دولة وتجربة واساليب التخريب الداخلية والخارجية التي اسهمت في اجهاضها او اضعافها. اما حالة السودان كدولة فقد كان الاوفر حظا من التناقض، فرغم ثراء الدولة إلا ان شعبها الاكثر فقرا، ورغم استقلالها مبكرا ونجاح ثورتين في تاريخها ضد النظم الاستبداية، إلا ان تجربتها السياسية هي الاقل استقرارا، والمنتجة لاكثر الانظمة تسلطا وفسادا. والمقصود تجربة تحالف الايديولوجية الدينية والمؤسسة العسكرية، ومؤكد هكذا مركب جهل وغرور وعنف، هو الاكثر تاهيل لتنفيذ اي برامج غض النظر عن واقعيتها او كلفتها. وهو ما لم يتاخر كثيرا، لانه في ظرف ثلاثة عقود كالحة، شهدت تطبيق المشروع الحضاري (الهلامي)، تحولت البلاد الي كومة رماد، بعد ان اهدر الموارد وصادر كافة حقوق المواطنين! وهو ما ارجع البلاد الي حالة اللادولة، بعد ان ازاح الحياة السياسية والمؤسسات المدنية، لصالح سيطرة تحالف العسكر والمليشيات والراسمالية الدينية، مع غلبة سطوة المليشيات (العقائدية والقبلية) بما يتلاءم وضحالة ما تبقي من شبهة مؤسسات الدولة.
المهم، بعد قيام الثورة سقط النموذج الاسلاموي سياسيا وقبلها تم تعريته اخلاقيا، ولكن ظلت هياكله التي تحمي نموذجه في كامل سيطرتها، ان لم تزدد نفوذا وتجردا من كل اعراف المجتمع! اي اورثنا نظام الانقاذ قوي باطشة، عقيدتها العنف وكنز المال، ولذلك هي حريصة علي حماية مصالحها، عبر السيطرة علي السلطة باي ثمن.
وبعد الثورة كان الاعتقاد ان الشراكة ستمكن المدنيين من استخدام ادواتهم السياسية، للحد من نفوذ العسكر وتغول المليشيات. إلا ان ما حدث هو نوع من التحالف بين العسكر والسياسيين لتقاسم الفترة الانتقالية! ولضلوع العسكر في المؤامرات، فقد تم التآمر علي الشركاء السياسيين واقصاءهم، لصالح الحركات المسلحة! ومن ثمَّ اكمال مخطط اجهاض الثورة، كمرحلة اولي في مشروع صناعة المستبد، كهاجس اقليمي. وهذا الدور يمكن ان يلعبه البرهان كخيار اول وحميدتي كخيار ثانٍ. ولكن فشل الانقلاب البرهاني/الحميدتي في السيطرة المطلقة علي السلطة، رغم تحالفه مع كل القوي الحاملة للسلاح، واستناده علي مؤسسات الانقاذ المسيطرة علي جهاز الدولة، وحرصه علي بناء قنوات تواصل مع الدول الاقليمية واسرائيل، وتلقيه الضوء الاخضر للقيام بالانقلاب. والسبب ان قوي الثورة ما زالت حية وناشطة وقادرة علي السيطرة علي الشارع، وكذلك الرفض الخارجي الذي ادان الانقلاب الارعن، لدرجة ايقاف كل مشاريع الدعم وتحسين العلاقات الذي قطع شوطا كبيرا، وما ترتب علي ذلك من زيادة للضائقة المعيشية، مما حول حياة المواطنين الي قطعة من الجحيم.
وبسبب فشل الانقلاب في حسم الامور لصالحه، وعجز القوي الرافضة للانقلاب في اسقاطه، وصلنا الي ما اسمته الدكتورة اماني الطويل توازن الضعف. والحال كذلك، من يستطع حسم الصراع هو من يقلب دفة التوازن لصالحه. فالقوي المدنية اذا ارادت تعديل ميزان التوازن، عليها قبل التفكير في تكوين جبهة واحدة، التخلص من اسباب الفرقة لتصبح الوحدة ممكنة. وسبب الفرقة في اعتقادي يرجع الي احتكار الثورة ومن ثمَّ شرعية تمثيلها، ولذا من دون تحرير الثورة من السيطرة والاحتكار والتمثيل، وجعلها شراكة. يصعب تقديم تنازلات، او الاتفاق علي تصور مشترك. ويكفي تجربة الحرية والتغيير في احتكار الثورة وتمثيلها، وما جره ذلك من تداعيات وكوارث ما زلنا نعاني تبعاتها. والخطوة التالية يجب دراسة الخصم ومعرفة نقاط ضعفه وقوته من غير تهويل او تصغير، ومن ثمَّ اختيار افضل اساليب المواجهة، التي تراعي توازن القوي واحوال العباد وحالة الدولة. خاصة ان المشلكة ليست في الفشل في اختيار الاسلوب المناسب او خسران اي جولة مواجهة، ولكن في عدم تقدير نوعية الخصم وطبيعة الصراع وخطورة تداعياته.
وبما ان القوي المدنية ما زالت تعاني حالة تضعضع الثقة بين المكونات وتضارب الاولويات، ومحافظة لجان المقاومة علي ابقاء جذوة الصراع مشتعلة، ولكن من غير وجهة محددة. فقد وقفنا في محطة الجمود، وفيها يركز المكون العسكري علي تمكين حالة الامر الواقع. ولكن هذا المكون نفسه يعاني تناقضات قد تعصف بتماسكه. فالبرهان مثله مثل حميدتي يتطلع للعب دور المستبد الذي ترغبه الدول الاقليمية، وايضا يماثله في عرض كافة الخدمات التي تسمح له بلعب هذا الدور. وهو يستفيد في ذلك من دعم الدولة العميقة، سواء في المؤسسات المدنية او العسكرية او الامنية او الاقتصادية. ولكن نقاط ضعفه تمثلها تحالفه المرحلي مع منافسه الاكبر حميدتي. كما ان حليفته الاقرب مصر اصبحت اقل ثقة فيه، وتاليا رهانا عليه، خصوصا بعد ما اظهره من ضعف علي مستوي القيادة، وانعدام المصداقية علي مستوي الاقوال والافعال.
اما حميدتي رغم ما يبديه ظاهريا من عناصر القوة، سواء من خلال تمدد قوات الدعم السريع، او النفوذ الاقتصادي المحمي بقوة السلاح، او تمتين علاقاته مع ابوظبي وتل ابيب، او استفادته من وسائل الدعاية وشراء الذمم. إلا ان نقاط ضعف حميدتي تمثلها، ان قواته تفتقر للعقيدة العسكرية او الاصح ان المال هو عقيدتها الاساس، وهو بطبعه سلاح ذو حدين. اضافة الي الطابع العائلي والقبلي الذي يسم قيادة قواته، مما يخل بمبدأ الكفاءة والاهلية، وتاليا يقمع طموح الافراد المنتمين للقوات من خارج معيار الافضلية القرابية. اما المعضلة الكبري ان حميدتي نفسه غير مؤهل للقيادة التي يطمح اليها، مهما استثمر فيه المستثمرون! وما يقف عقبة امام تاهيله، ان تكوينه نفسه مشدود لمحصلة وعيه وتربيته، اي الاساليب البدوية والبدائية للقيادة! والحال كذلك، حميدتي يراهن علي تحويل ادارة الدولة، الي ادارة اهلية، يعتلي شخصه رئاسة نظارتها! لذلك ليس مصادفة انه يحاول جاهدا، ضخ الدماء في شراين الادارة الاهلية المتيبسة، والتي سلفا تجاوزتها التطورات الادارية، ولو ان ذلك لا يمنع توظيفها في حدود الاعراف المحلية. ومؤكد حميدتي يستفيد من حالة غياب الدولة، في سعيه لبعث الحياة في الاجسام والهياكل ما قبل الدولة، لتشكل له حاضنة قليلة الكلفة وسهلة التوظيف. اما حلفاؤه في الخارج فيستخدمونه كاداة فقط، وليس عن قناعة ترفعه لمستوي التعامل الندي. وهذا ما يفسر ان كل لقاءته تتم في الظلام، ولاغراض لا يمكن الافصاح عنها.
اما قيادة الحركات المسلحة، بعد ان سقطت سياسيا واخلاقيا بمشاركتها في الانقلاب، وقبلها بيع شعارات الثورة ودماء الثوار وانصار الحركات وعشيرتها، في مؤامرة اتفاقية جوبا المعيبة، فقد توقف حمار طموحات قادتها عند عقبة تطلعات البرهان/حميدتي! لتتحول الي مجرد ادوات بيد البرهان وحميدتي، نظير مكاسب وامتيازات تتلاءم وحدود دورهم، اي كموظفين في مشروع البرهان حميدتي. وهو ما يبرر القول ان مكاسبهم الذاتية الصغيرة، تناسب حجمهم كقادة صغار.
اما بخصوص القوي المدنية، فلجان المقاومة مصدر قوتها، هي قدرتها علي تحريك الشارع، كاكبر قوة ضغط ضد القوي الانقلابية. وكذلك التمتع بالنقاء الثوري، الذي عماده الصدق في الاقوال وترجمتها لافعال. ولكن نقاط ضعفها، التاخير في تحويل ضغط الشارع لفعل سياسي يخدم اهداف الثورة، لان تحريك الشارع يظل في النهاية اداة وليس غاية. وهنا نقطة ابتعادها او صعوبة التقاءها مع الاحزاب السياسية. وهنالك نقطة ضعف اخري، وهي طريقة الادارة الافقية للجان المقاومة قد تناسب الفعل الثوري، ولكنها غير مناسبة للعمل التنظيمي، الذي يحتاج لقيادة موحدة، تمكنها من ادارة الصراع بكفاءة. واحتمال هذه الطريقة نفسها في العمل، هي ما يعيق تكوين تحالف جديد، يستفيد من اخطاء تحالف الحرية والتغيير. لان الاشكال يظل ليس في التحالف، ولكن من يديرون التحالف، ويوظفونه لخدمة اغراض خاصة.
اما تحالف الحرية والتغيير، رغم انه اكبر تحالف سياسي تشهده البلاد، إلا ان مشاركته في السلطة، وقبله انفراد جزء منه بادارة الحوار مع العسكر، من غير توافق سياسي علي طبيعة الحوار واجندته وسقوفاته، وقبل ذلك اختيار فريق تفاوض مؤهل، مع تزويده بخبراء تفاوض، كل ذلك اصاب هذا التحالف بالضعف واوجد بين مكوناته الخلافات الجذرية! وهذه المسالك الانفرادية في اتخاذ القرارات، عكست نزعة تسلطية لعديد من مكونات التحالف! ليساهم كل ذلك في انتاج التجربة البائسة للشراكة، حتي وجه له المكون العسكري الضربة القاضية باقصائه من السلطة. وما ترتب علي هذه التجربة الفاشلة، من احباط وعدم اقتناع بجدوي التحالف، وما شكله ذلك من حجر عثرة امام تكوين تحالف جديد، رغم الحاجة الماسة اليه، للتخلص من الانقلاب باقل كلفة وفي اسرع زمن، ومن ثم الشروع في التاسيس لدولة حديثة.
اما الحزب الشيوعي فيحسب له قدرته الماهرة علي تحليل الصراع، ولكن علته تكمن في ادارة الصراع، وبما في ذلك النقص في امتلاك قدر من المرونة السياسية، تسمح له باستخدام الاساليب التي تتلاءم مع كل مرحلة! والاهم استخدام اللغة والاساليب السياسية عوض عن استخدام اللغة والاساليب الثورية علي طول الخط. اي آن للحزب الشيوعي ان يتخفف من حمل عبء قيادة الجماهير، ويكتفي بدور المساهم في الثورة والتغيير كغيره من المساهمين.
اما ما يخص بقية مكونات الشعب، فيبدو انها تقف كعادتها علي الحياد، او المشاركة القلبية كاضعف الايمان. وفي انتظار ميلان الكفة للجهة المنتصرة، والقادرة علي احداث الاستقرار، غض النظر عن كلفته. ولكن لسوء حظ هؤلاء ان الاوضاع الراهنة لا تعد باي استقرار، اذا ما استسلموا لسلبيتهم وترك عبء النضال علي الثوار.
وامام هذا الجمود والهشاشة والتحديات الجسام، لابد ان يكون الفعل المقاوم معادل لها او يزيد. وهو ما يتطلب التوافر علي جسم مرن يتعدي الدعوات للتظاهرات، الي بناء استراتيجية لاسقاط الانقلاب وترتيب الاوضاع لما بعده. ولصعوبة تكوين هكذا جسم، في ظل اوضاع معارضة طابعها الانقسام والتشرذم، يمكن البدء بتحديد طبيعة الصراع واطرافه، ومن ثمَّ كيفية حسمه لصالح الثورة ومشروع التغيير.
وفي هذا السياق يمكن المجازفة بالقول ان الصراع ذو وجهين، وجه يتعلق بالاطار السياسي و وضع يتعلق بكيفية المحافظة علي كيان الدولة من الانهيار؟ وعليه الثورة امام تحدي التاسيس لوضع سياسي جديد، من دون المرور بكارثة فقدان الدولة، او دخولها في دوامة عنف لا يبقِ ولا يذر.
اذا صح ذلك، لكي تنجح الثورة باقل كلفة واسرع طريقة، يجب ان تملك خطاب قادر علي مخاطبة الكتلة الساكنة او الوافقة علي الحياد والباحثة عن الاستقرار وهي الغالبية. وهذا الامر ازداد صعوبة بعد النموذج البائس الذي قدمته حكومة حمدوك، وبالاخص في الجانب الاقتصادي! لان حمدوك طبق مشروعه الاصلاحي بقسوة لا تتلاءم مع احوال الغالبية الفقيرة، الشئ الذي ترك انطباع سلبي علي مجمل رهان الثورة، وكذلك ضعضع الثقة في جدوي المدنية وكفاءة المدنيين. وعليه، كسب هذه الشريحة او نصيب كبير منها، هو ما يمنح الثورة فرصة اكبر لحسم الصراع. الذي هو في اصله ضد نخبة عسكرية ومليشياوية قبلية وطبقة راسمالية طفيلية، ولكنها تملك السيطرة علي الثروة والقوات الحاملة للسلاح، وتتمتع بدعم اقليمي مهول، اضافة للاستفادة من جهاز الدولة المصمم لخدمة الانظمة الاستبداية والقادة الانقلابيين، او اقلاه مصمم للتعايش معهم.
ومن هنا يجب الاشارة للعنصر الاهم لكسب الصراع، وهو قدر ة التاثير علي المؤسسة العسكرية، وكسبها لخط الثورة. ومكن الصعوبة في هذا المجال، هو فقدان الثقة بين الطرفين، بسبب ما تعرضت له هذه المؤسسة من تشويه، حرفها عن واجبها الاحترافي، الي خدمة قادة انقلابيين او انظمة شمولية، نظير امتيازات ضخمة تنالها نخبة الضباط الكبار. لذلك كسب هذه المؤسسة يحتاج لمفارقة الخطاب العاطفي، من شاكلة شرفاء الضباط، وغيرها من اضفاء صفات بطولية او وطنية، يصعب تصديقها لمن ينتمي لمؤسسة، مارست كل هذا التخاذل ضد شعبها. ولذلك ما يجب التفكير فيه والاستعداد لمنحه، هو امتيازات ووضع مريح خلال الفترة الانتقالية وما بعدها، لهذه المؤسسة المعتلة، حتي استتباب احوال الدولة المدنية، وذلك بالقدر الذي يحفزها للانضمام لمشروع التغيير. واهمية وجود هذه القوات في صف المعارضة، ليس لخيريتها التي لم نشهدها تاريخيا، ولكن لانها افضل السيئين، مقارنة بمليشيات الدعم السريع وجهاز الامن وقوات الحركات المسلحة. خاصة بعد التجريف الذي تعرضت له الحياة السياسية، وغزو الفضاء السياسي والسلطوي بواسطة هذه القوات المسلحة. اي نحن حيال واقع غير سياسي ويصعب ادارته بلغة السياسة فقط، وعليه لابد من وجود جهة عسكرية قادرة علي حماية الثورة والدولة وانتزاع السلطة، والاهم قادرة وراغبة في لجم استعدادات اجهزة وقدرات مليشيات مصممة للقتل والنهب ومرتبطة بالسلطة وجوديا. واذا صح ذلك، لا مكان من الاعراب للاءات لجان المقاومة بهذه الكيفية الحاسمة، إلا اذا انكرنا طبيعة الواقع وحركتنا الرغبات. بمعني، ليس هنالك من يرفض خروج العسكر من السلطة وبناء دولة مدنية محترمة؟ ولكن السؤال كيف يتم ذلك في ظل واقع معسكر كليا، ودولة منهارة وسيولة شاملة تحكم المشهد؟ وهذا بدوره يردنا لمسالة هشاشة الثورات امام عظمة التحديات. وصحيح انه ليس هنالك مستحيل امام الاصرار والعزيمة، ولكن الاكثر صحة ان الوعي السياسي الناضج يتعامل مع الواقع كما هو، اما الوعي السياسي الرغبوي فتشده الطموحات الكبري، مما يدفعه لتهميش حجم العقبات، وهو ما ينذر بعواقب وخيمة. اي ما تحتاجه الثورة لكي تعبر ليس الشجاعة فقط، ولكن الحكمة ايضا.
والخلاصة، يبدو ان السبب الاساس في هشاشة الثورات اضافة الي انها عملية هدم وبناء في ذات الوقت، انها تواجه معضلة في منطقتنا الشرق اوسطية، وذلك لانها اما تواجهه بنية دولتية مستبدة يصعب تغييرها، او بنية دولتية هشة قابلة للانهيار.
واخيرا
نسال الله الرحمة والمغفرة للشهداء، والحرية للمعتقلين والعودة للغائبين، وعاجل الشفاء للمصابين، الذين يحتاجون لاكثر من الدعاء، وهو المساهمة الايجابية في علاجهم، كجزء يسير من رد الدين. ودمتم في رعاية الله.
/////////////////////////////