هكذا وجدت البلد.. وهكذا اتوقع ما سيحدث لنا … بقلم: طلحة جبريل
31 December, 2009
talha@talhamusa.com
كنت في صدد الكتابة عن انطباعاتي خلال اسبوعين في الخرطوم. وفي ظني أن ما ينتظره قراء من صحافي هو أن يكتب لهم ماذا سمع وشاهد وايضاً ماذا قال.
ليس فقط قراء الخارج بل أيضاً قراء الداخل. حيث ستجد سؤالاً في انتظارك اين ما اتجهت: "كيف وجدت البلد...هل هناك تغيير". وهو السؤال نفسه الذي يقوله ناس الخارج وإن بصيغة اخرى :"كيف وجدت البلد ...ماذا يحدث هناك؟".
وبدا لي الأمر مقبولاً ومعقولاً ، أن أكتب في محاولة للاجابة عن السؤالين، خاصة ان هناك الكثير الذي سمعت، والمثير الذي شاهدت، وأن أعود الى ما قلت في مكانين لهما مكانتهما العلمية والثقافية .
قلت الكثير في " مركز عبدالكريم ميرغني " في امدرمان ، وقد ذهبت الى هناك وفاءً لذكرى صديق عزيز يرقد الآن ليس بعيداً عن المركز في مقابر البكري في امدرمان. واعني " طيبنا الصالح". أما المكان الثاني قد كان "جامعة الاحفاد" التي زرتها باقتراح من شخص عزيز وامضيت فيها وقتاً ممتعاً ومفيداً.
بيد أنني ارتأيت هذا الاسبوع أن اقف عند قضية آنية، لا علاقة لها بالانطباعات أو ما سمعت وشاهدت.
وهي "حكاية" الخلافات التي تنشب وتهدأ بين الشريكين في ما يسمى " حكومة الوحدة الوطنية"، أي حزب " المؤتمر الوطني" و" الحركة الشعبية لتحرير السودان" وكان آخرها ما قيل حول موضوع الاستفتاء المرتقب في الجنوب والمقرر بعد 12 شهراً.
وأود التوقف عند ما حدث بشأن قانون الاستفتاء.
كنت قد قلت في وقت سابق تعليقاً على تداعيات" اسبوع المسيرات" ان المؤتمر الوطني والحركة الشعبية سيجلسان حول طاولة مفاوضات على الرغم من التراشق السياسي الذي جرى بينهما ، وعلى الرغم أيضاً من الاعتقالات والانتهاكات التي حدثت، وان " التحالف الوطني" أو ما بات يعرف باسم "أحزاب جوبا" سيتشتت، بل أقول اكثر من ذلك أن احزاب الامة والاتحادي الديمقراطي (بجميع مسمياتهما) والمؤتمر الشعبي ستقترب أكثر من المؤتمر الوطني قبل انتخابات ابريل، ولا أستبعد مطلقاً تحالفاً بين الحزب الحاكم وهذه الاحزاب.
وما جرى حتى الآن يؤكد صحة هذه التكهنات.
جلس المؤتمر الوطني والحركة الشعبية حول طاولة واحدة واتفقا على الأمور الأساسية. وعاد نواب الحركة الشعبية الى البرلمان ، ولم تعد هناك مسيرات ولا مظاهرات.
بيد أن خلافاً نشب من جديد بين الشريكين، إذ قالت الحركة الشعبية إن حزب المؤتمر الوطني عدل قانون الاستفتاء دون التشاور مع الشريك الاصغر. وهو تغيير ليس جوهرياً لان هدف الحركة الشعبية أن تكون الأغلبية التي تحسم نتيجة الاستفتاء هي 50 بالمائة زائد واحد مع شرط اضافه حزب المؤتمر الوطني مؤداه ان تكون نسبة المصوتين تفوق 60 بالمائة. وعندما سئلت، وكنت غادرت الخرطوم، حول ما إذا كان هذا الخلاف سيؤدي الى نسف الاتفاق الذي تم بين الشريكين ، كان جوابي أن الحزبين سيعودان من جديد الى طاولة المفاوضات في جولة مساومة جديدة. و أقول جازماً انهما سيتجاوزان اي خلاف بينهما قبل اجراء الاستفتاء ، لأن أغلبية كاسحة داخل المؤتمر الوطني والحركة الشعبية تريد الانفصال. والخلاف فقط حول كيف سيبرر كل حزب هذا التوجه.
قبل ان تخمد الأصوات التي تتحدث عن " خيانة" حزب المؤتمر الوطني للاتفاقية كما قالت الحركة الشعبية وسايرتها في ذلك عواصم كبرى في مقدمتها واشنطن ، سيعلن رياك مشار نائب رئيس حكومة الجنوب ان القانون المتنازع عليه سيعود من جديد الى البرلمان يوم الاثنين المقبل. وقال مشار بصريح العبارة في مؤتمر صحافي عقده في الخرطوم ""اتفقنا على إعادة القانون إلى البرلمان يوم الاثنين على أن يجاز وتعاد إليه المادة التي اسقطت".
وللتذكير فإن المادة مثار الاعتراض تتعلق بالجنوبيين الذين يحق لهم التصويت سواء كانوا يقيمون في الشمال او الخارج ، بينما ترى الحركة الشعبية أن التسجيل و التصويت يجب أن يتم في جنوب البلاد فقط تجنبا لحدوث تزوير أو ضغوط على الجنوبيين كما يقولون.
من الواضح أن الاسلوب نفسه يعاد تكراره من الجانبين. الحركة الشعبية تعترض وتحتج ، والمؤتمر الوطني يقول إن ما يقترحه يتسق مع الدستور والقوانين السائدة، ثم لا تلبث أن تعود الأمور الى طاولة المفاوضات ، سواء في إطار "ترويكا الرئاسة" اي الرئيس ونائبيه، أو بوفدين موسعين.
وبعد ذلك اتفاق جديد ، وبرلمان لايملك الا " المصادقة والاقرار".
ما يلفت الانتباه حقاً قبل تصريحات رياك مشار هو البيان الذي وزعته الخارجية الامريكية . وقراءة ذلك البيان يتيح لنا بالفعل فهم بعض جوانب الصورة. يقول البيان " إن الولايات المتحدة قلقة حول التقارير التي تقول إن المجلس الوطني أجاز قانون الاستفتاء بناء على صيغة اضافها حزب المؤتمر الوطني تختلف عن الصيغة المتفق عليها بين قيادة حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية. إن التراجع عن الاتفاقية التي جري الاتفاق عليها بين الحزبين في 13 ديسمبر يقوض عملية السلام ويعرض للخطر تطبيق اتفاقية السلام الشامل، ويشعل شرارة العداء السياسي بين الحزبين. اننا ندعو الحزبين اجازة ما تبقي من مشاريع قوانين، ويشمل ذلك الاستفتاء المقرر في أبيي، بالاعتماد على النص الذي تم الاتفاق عليه، واعادة قانون الاستفتاء في جنوب السودان الى الصيغة التي اتفق عليها قبل إجازته كقانون. وتعبر الولايات المتحدة عن قلقها على إجازة قانون الامن الوطني المعدل والذي لايشتمل على إجراءات لمحاسبة قوات الامن. وحتى تكون هناك مصداقية للانتخابات ، أصبح لزاماً على النظام الالتزام فعلاً وقولاً بان هذا القانون لن يستغل لاعتقال وسجن المعارضين السياسيين. وعلى حكومة السودان أن تبادر الى اجراءات فورية وملموسة لتحسين الأجواء الانتخابية، ويشمل ذلك السماح بالمظاهرات السلمية، ووضع حد للرقابة على الصحف، والسماح للمعارضة بالتعبير عن مواقفها. إن تسجيل عدد كبير من الناخبين تبين الرغبة الواضحة للشعب السوداني في المشاركة في التحول الديمقراطي كما هو منصوص عليها في روح ونص اتفقية السلام الشامل. إن الولايات المتحدة تدعو جميع الاطراف للعمل معاً من أجل ضمان اجراء انتخابات واستفتاءات بطريقة موثوقة بها".
وبتزامن مع هذا البيان الذي يدعم صراحة موقف الحركة الشعبية، سيقول ازيكل لول جاتكوث رئيس بعثة الجنوب في العاصمة الامريكية في تصريحات اعلامية إنه يتوقع أن يصوت 98 في المائة من الجنوبيين في الاستفتاء لصالح الانفصال.
تيار كاسح داخل حزب المؤتمر الوطني يريد الانفصال وبات يعبر عن ذلك صراحة ، والحركة الشعبية تضع نسبة المؤيدين في سقف يقترب من الاجماع، إذن لماذا هذه المماحكة بين الجانبين.
في اعتقادي ان حزب المؤتمر الوطني يريد القول في الظاهر إنه سعى من أجل " وحدة جاذبة" بين الشمال والجنوب ، بل انه حاول أن يشدد شروط الانفصال ، لكن مساعيه لم تكلل بالنجاح ، في حين تريد الحركة الشعبية ضمانات مؤداها أن الذين سيصوتون الى جانب الانفصال اغلبية مريحة، لذلك لا يمكن المجازفة باي صوت سواء كان في الشمال أو خارج البلاد.
هذه هي حقائق الاشياء.
إن الصورة تبدو لي مثل شجرة. جذورها مدفونة في باطن الأرض لا تراها العين في حين أن الفروع والاوراق مجرد ظواهر مؤقتة عمرها بضعة أيام. رغبة الجانبين في الانفصال مدفونة في النفوس ، في حين ما يقال علناً والخلافات التي تطفو بين الفينة والاخرى مجرد ظواهر مؤقتة وهي تماماً مثل فروع واوراق الشجرة ليست سوى ظواهر مؤقتة عمرها ليس أياماً بل ساعات في بعض الاحيان .
التنناقض والصراع بين الشمال والجنوب بدأ قبل ان تنال بلادنا استقلالها ، وهو من نوع الصراعات الكبرى في تاريخ الشعوب لا يمكن فضه بالحيل السينمائية ولا باسلوب الصدمات الكهربائية ولا بالسطة التي يستمدها الحكام من أبهة المنصب، او بالاوهام التي تقول إن حروباً بدأت في توريت في مطلع خمسينات القرن الماضي ، يمكن أن تجد حلها في شعار " الوحدة الجاذبة" يعرف حتى الذين اخترعوه في نيفاشا أنه مجرد كلام القي في الهواء .
نحن وبالدليل الملموس شعب ما يزال يعيش مرحلة التناحر وصلت في الجنوب الى حالة حرب اهلية لا جدال حول واسبابها ومبرراتها، وكان ضرورياً ان نصل الى ما وصلنا اليها حتى يتطابق الواقع الجغرافي مع حمولات التاريخ ومساره المنطقي.
إن المطلوب الآن ، وكما قلت وما زلت اقول، أن نفكر في مرحلة ما بعد الانفصال. نحن لا نريد دولة في الجنوب تصبح عبئاً على الشمال بسبب واقعها القبلي وتمزقاتها الأثنية والفساد الاداري والمالي الذي يعشعش في إدارتها المفككة، بل علينا ان نعمل على استقرار هذا الجنوب حتى وان رفع علمه وصاغ نشيده الوطني وسلح جيشه وفتح سفاراته في عواصم العالم.
إن تاريخاً جديداً على وشك أن يبدأ . وكل ما يفعل ويقال الآن هو قبض ريح.
حداث"
مقالات سابقة
جميع المقالات السابقة والمنشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى يمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط
http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1