هل سيقاتل إسرائيل وحده؟

 


 

 


(1)

يرى كثير من المراقبين الحادبين على القضايا العربية أن ما يجري في سوريا اليوم من حراك شعبي يوشك أن يطيح بنظامها مأساة أكثر منه مدعاة للابتهاج والاحتفال. ومبعث ذلك هو أن سوريا، رغم كل الملاحظات عليها، تبقى واحدة من آخر قلاع المقاومة (نسبياً) ضد الهيمنة الصهيونية الشاملة في المنطقة، وآخر مواقع دعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية.

(2)

أبلغ تعبير عن هذا الموقف جاء في البيان الذي أصدره المؤتمر القومي – الإسلامي (وهو تجمع يمثل تحالفاً بين تيارات إسلامية وقومية) في ختام اجتماعه في العاصمة اللبنانية بيروت الأسبوع الماضي، حيث أعلن عن دعمه للثورات العربية في كل مكان (ذكر البيان السودان رغم أن ثورته ما تزال في رحم الغيب)، ولكنه عند تناول الحالة السورية صرح ب: "دعم مطالب الإصلاح في سورية إلى جانب دعم مواقف سورية الحاضنة للمقاومة الفلسطينية والمساندة للمقاومة اللبنانية والممانعة للهيمنة الأمريكية والشرق أوسطية الصهيو – أمريكية."

(3)

لعل هذه الازدواجية في الأحكام تعكس بدقة مكمن الخلل في الفكر العربي-الإسلامي المعاصر، حيث يسود الاعتقاد بإمكانية الفصل بين تحرير الأمة من الهيمنة الأجنبية وضمان حرية شعوبها من القهر والاستبداد. بل إن هذا الفكر يرى في كثير من الأحيان أن استعباد الأمة لإرادة فرد أو عصابة فيها ليس فقط ثمناً يستحق الدفع في سبيل "الممانعة" (أنظر إلى استخدام اللفظ، وله اشتقاق مقارب ل "التمنع" الذي يستخدم لوصف موقف العذارى من طالبي ودهن)، بل هو قد يكون شرطاً لمثل هذا التمنع و "التدلل".

(4)

الافتراض الكامن في هذه المواقف هو أن واجب التحرير يمكن أن يقوم به قائد واحد، وما على الأمة إلا أن تتحول إلى جيش منضبط، يؤمر فيطيع، دون مساءلة أو مراجعة. وبحسب هذا الفهم، فإن كل تاريخنا كان من صنع أفراد أفذاذ: فالقدس حررها صلاح الدين، والمغول ردهم بيبرس، وعمورية فتحها المعتصم وأعاد معها كرامة الأمة، والقسطنطينية فتحها السلطان محمد، وهكذا. أما الآخرون فهم كومبارس ليس إلا.

(5)

للأفراد والقادة الأفذاذ دورهم بلا شك في صناعة التاريخ، ولكن عظمة الأمم لا تتحقق بإرادة الأفراد، وإنما بمقومات متكاملة، أهمها الثقة بالنفس وإطلاق الطاقات الكامنة، وحسن التنظيم والاستغلال الأمثل للموارد. ولولا ذاك لما تمكنت إسرائيل التي لا تساوي في حجم سكانها حياً من أحياء القاهرة أو بغداد، من هزيمة كل العرب، وهي تغير قادتها كما يغير زعماؤنا أحذيتهم، ولا تقدس منهم أحداً.

(6)

كما ذكرنا في مقالة سابقة، فإن خطأ أنظمة "الممانعة" والتدلل العربية الأبرز يكمن في افتراض آخر، وهو أن الشعوب العربية تحتاج إلى وصاية هؤلاء الأشاوس، بل إلى قمعهم وتأديبهم حتى تصبح مؤهلة وقادرة على دعم الصمود والممانعة، لأنها لو تركت لشأنها وأعطيت الحرية فلن تنجز المهمة. وعليه فإن الشعوب يجب أن تساق بالسوط إلى ميدان المعركة، وإلا فلن تقاتل عدواً وراء بطل الأبطال الممسك بدفة الحكم، وستقول له "إذهب أنت ورجال أمنك فقاتلا إننا ها هنا قاعدون."

(7)

بالطبع فإن هذا لو صح عن هذه الشعوب فإنها لا تستحق الحرية، ولا تستحق أن يكرمها الله بمثل هؤلاء الأبطال المنقذين، لأن الاستعمار والعبودية هي جزاؤها الوفاق. وبالمقابل كان عنترة بن شداد قد أرسى قديماً مبدأً استبطنه العرب: وهو أن العبد لا يجب أن يطالب بأن يحارب دفاعاً عن الكرامة، لأن من سلب كرامته الشخصية غير ملزم بالدفاع عن الكرامة الجماعية للفئة التي سلبته حريته. فكيف إذا كانت الأمة كلها في حالة استعباد دائم للحاكم والفرد ومماليكه الأمنية ممن أعلنواالحرب على الشعب؟

(8)

هناك إذن وهم عشش طويلاً في الأذهان، وسقط في حبائله مفكرون كبار، كما اعتنقه عوام الناس. لم ينفرد العرب بذلك، فقد شاركهم في ذلك أهل الصين منذ عهد الأباطرة، والروس منذ أيام القياصرة، ومعظم أهل أوروبا حتى الثورات الديمقراطية الحديثة، وحتى بعدها. ألم ينصب الفرنسيون نابليون امبراطوراً عليهم بعد سنوات قلائل من إرسال لويس السادس عشر إلى المقصلة مثلما طالب قوم موسى بصنم يعبدونه بعد أن نجاهم الله من مصر؟

(9)

الفرق هو أن الإسلام كان قد نهى أتباعه عن عبادة البشر، حتى إذا زعموا أنهم رسل الله على الأرض، ونصبوا أنفسهم مترجمين لتعاليم السماء. فكل إنسان مسؤول أمام الله بصفته الفردية، ولن يكون له عذراً أن يقول إن فلاناً من القساوسة أو "العلماء" أو الأحبار أفتاني بكذا فاتبعته. ومن باب أولى أنه لن يغني عنه شيئاً أن يقول إنني أطعت الدكتاتور الفلاني فأضلني السبيل.


(10)

ولكن أبلغ حجة ضد كل طاغية يؤله نفسه ويستعبد الناس هي أنه يقود الناس حتماً، رغم كل دعاواه، إلى هزيمة منكرة. ولا نحتاج هنا أن نعدد الشواهد التاريخية القريبة والبعيدة على هذه الظاهرة. فكم من دكتاتور صغير ملأ الدنيا ضجيجاً ثم كان أول السابقين إلى الركوع أمام العدو المزعوم حتى ينقذ نفسه وعرشه المتهاوي. فمن لا يصدق القرآن عليه أن يصدق التاريخ.

(11)

الحالة السورية لا تختلف عن غيرها إلا عبر مكر ودهاء القائمين عليها، ونجاحهم في التسويق المزدوج لسياسات النظام هناك. فاحتلال لبنان يسوق لدى الغرب على أنه ضرب للثورة الفلسطينية ونصر للمسيحيين، ويسوق عربياً على أنه قطع للطريق على احتلال إسرائيل للبنان. أما المشاركة في الحرب ضد العراق فيسوق دولياً على أنه تأكيد لدور سوريا "المسؤول" عالمياً، ويسوق عربياً على أنه دعم لسيادة الكويت. أما قمع المواطنين داخلياً فيسوق عالمياً على أنه ضرب للإرهاب "الإسلامي"، وعربياً على أنه ضرب لعملاء الغرب. وهكذا. ولكن اللعبة قد وصلت إلى نهايتها هنا كما هو الحال دائماً مع حبل الكذب القصير.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]

 

آراء