وادي النيل .. الحاجة لاستراتيجية تعاون جديدة … بقلم: خالد التيجاني النور

 


 

 


tigani60@hotmail.com
 
 
مع التحولات الجيوسياسية الكبرى التي تشهدها منطقة وادي النيل في الوقت الراهن، لم تعد تلك المسلمات والأطر السياسية التي ظلت تدار بها العلاقات السودانية المصرية على مدار العقود الماضية، وتشكلت محدداتها على مدار القرنين الماضيين، ذات جدوى في مخاطبة التحديات الجديدة البالغة الأهمية، والتأثير على حياة شعوب الوادي، كما لا ترقى لحجم المخاطر التي تواجهها في المستقبل القريب، وهي تحديات حقيقية تتعدى مجرد الجدل العقيم حول طبيعة العلاقات السياسية وحدودها إلى قضايا أعمق تتعلق بالوجود والبقاء.
 لم تكن مبادرة الرئيس عمر البشير بالذهاب إلى القاهرة كأول رئيس عربي يزور أرض الكنانة بعد ثورة 25 يناير، وزيارة رئيس الوزراء المصري عصام شرف للخرطوم وجوبا في أول مهمة خارجية له، إلا دلالة على الوعي المشترك للقيادة السياسية بأولوية العلاقة بين البلدين وإدراك عمقها الاستراتيجي، ولكن مع ذلك ينبغي التنبيه إلى أن الطرفين لا ينطلقان من نقطة الصفر، ولا يأتيان بجديد لم يكن معهوداً في سيرة العلاقات السودانية المصرية، ولكنها تؤكد من ناحية أخرى أن تغير الأنظمة والحكومات لا يغير من حقيقة أن مصالح الشعوب في الوادي هي الأبقى، وأزلية علاقاتها ليست مجرد تعبيرات عاطفية، ولكن تفرضها بالضرورة تشابك وترابط مصائرها وهو ما يقتضي استمرار التواصل على الرغم ما يعتور العلاقات الرسمية من فتور بين الفينة والأخرى.
 وليس سراً أن العلاقات الرسمية شهدت على مدار العقود الستة الماضية الكثير من حالات المد والجذر، والصعود والهبوط، والتقارب أحياناً والتباغض في أحايين أخرى، وظلت محاصرة بالهواجس والظنون المتبادلة إلا أنها مع ذلك ظلت محتفظة برباط التواصل ولم تصل إلى حالة القطيعة حتى في أحلك أوقاتها عند منتصف التسعينيات من القرن الماضي مع محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك باديس ابابا التي وجهت اصابع الاتهام فيها لأطراف في الحكومة السودانية، وعلى الرغم من انه يصعب القول بوجود حميمية في العلاقة على مستوى قيادة البلدين في اغلب فترات العقدين الماضيين، الا انه مع ذلك يلاحظ بوضوح ان نظام مبارك لعب أدوارا مهمة في اوقات صعبة ومفصلية في تقديم العون والسند لحكومة البشير، كما اسهمت في تخفيف الضغوط الدولية الكثيفة عليها في احيان اخرى. على الرغم من ان هناك في الخرطوم من لا يقرون بذلك.
 ومهما يكن من امر فان تغيير النظام في مصر، والملاحظ انه حظي باحتفاء مبالغ فيه في اوساط النخبة الحاكمة في السودان، لا يعني ان غيابه في حد ذاته يوفر ضمانا لمستقبل افضل للعلاقات، فالمشكلة لم تكن في النظام نفسه اذ انه لم يشكل عقبة كأداء في طريق تعزيز العلاقة، ولا كان ينقصه الوعي بخصوصية العلاقة وبعدها الاستراتيجي في حساباته، ولكن ربما تكمن المشكلة في نمط التفكير واسلوب التعبير عن سبل تجسيد هذه الاولوية المحسومة، ولعل ما يجمع عليه المراقبون في هذا الخصوص ان القاهرة ظلت تنظر للعلاقة مع السودان من ثقب المنظور الأمني، أي ما يعطي الانطباع بأنها مهدد أمني بأكثر ما هي مجال لعلاقة أوسع آفاقاً، ولذلك ظل ملف العلاقات بين البلدين محتكراً في أيدي أجهزة المخابرات، وهو أمر ضيق واسع، وحبس العلاقة في دائرة الشكوك والتوجس وحرمها من الانطلاق في فضاءات أرحب وأكثر نفعاً لمصالح الشعبين، لأن وجود المصالح الحقيقية هو أكبر ضامن لتوفير الأمن وحفظه وليس العكس.
 ولئن حررت ثورة الشباب إرادة مصر ووضعتها على درب استعادة دورها الريادي على المحيطين الإقليمي والدولي، فقد أتاحت سانحة أيضاً لتحرير علاقات مصر بالسودان من ربقة حشرها وأسرها في الدوائر المخابراتية، ولعل زيارة رئيس الوزراء المصري للخرطوم حملت أولى الرسائل في هذا الخصوص، أي استعادة الإطار الأوسع للعلاقات، فقد خلت قائمة الوفد الكبير الذي رافقه من وجود ظاهر للعيان لتمثيل مخابراتي، وقد كان مدير المخابرات المصرية السابق اللواء عمر سليمان الحاضر الابرز في اغلب زيارات الوفود الرسمية للسودان خلال السنوات الماضية. وهو امر من المؤكد لم يحدث صدفة لان التبرم السوداني من هذه الوضعية ليس جديدا. ولعل حكومة الثورة المصرية قصدت التنبيه الى استعدادها للانتقال الى مربع جديد في شأن العلاقة مع جنوب الوادي.
 ومن المهم الإشارة في هذا المقام إلى أن التحولات الجيوسياسية الراهنة في وادي النيل توفر فرصة جديدة لإعادة تعريف العلاقات بين أطرافه وتحديد مصالحها المشتركة وإعادة ترتيب أولوياتها وسبل تنفيذها ضمن استراتيجية جديدة تضع في الحسبان المعطيات الجديدة. وعامل الثورة المصرية وتغيير النظام وإعادة ترتيب البيت المصري ليس هو المتغير الوحيد في هذا الخصوص، ولعل المصادفة وحدها هي التي قادت لأن يرافق التحول المصري تحول آخر في الطرف الآخر في هذه العلاقة، فالسودان الموحد الذي تعاملت معه القاهرة على مدى أكثر من قرن لم يعد موجوداً، وفي طريقه لأن ينقسم ويصبح دولتين في غضون أشهر قليلة، وهو آخر ما كانت السياسة المصرية تتمنى حدوثه، ولكنه أصبح واقعاً ويحسب لمصر أنها تجاوزت ما كانت تعتبره خطاً أحمر في وقت مناسب وتهيأت له وتعاملت مع حقائقه المرة بواقعية ونجحت في كسب ود الجنوبيين ذلك أنها لم تقف في طريق طموحهم للحصول على الاستقلال.
 والتحول الثوري الذي حدث في مصر، فضلاً عن الواقع السياسي الجديد في السودان وبروز دولتين فيه، تجعل الأطراف الثلاثة في مواجهة تحولات جديدة تجاوزت وقائع التاريخ والجغرافيا التي سادت طوال العقود الماضية، وهو ما يضعها جميعاً أمام مراجعات جذرية تتطلب بالضرورة التأسيس لمحددات جديدة لمفاهيم الأمن القومي، والبناء الوطني، ورسم استراتيجيات جديدة سواء على الصعيد الداخلي في كل واحدة منها، أو على صعيد العلاقات بينها بعد ان تحولت من علاقات ثنائية إلى علاقة ذات ثلاثة أطراف، وبالنظر إلى تداخل المصالح الحيوية المشتركة بينها فإن المهددات التي قد تطال أيا منها سينعكس بالضرورة سلباً على بقية أطرافها، وهو ما يعني أن هناك حاجة ملحة لإقامة علاقة جديدة تقوم على تحقيق التوازن بين مصالح الدول الثلاث، وتحقيق الاستقرار والأمن والتعاون بينها سيبقى ضرورة ملحة، لأن أية محاولة لخلق محور ثنائي خارج هذا الإطار والمعني هنا مصر وشمال السودان بحكم تقارب مكوناتهما، ووضع الدولة الجنوبية في مرتبة تالية أو اعتبارها مجرد رديف في هذه العلاقة لن يحقق أهداف الشراكة الاستراتيجية المرجوة لدول وادي النيل الثلاث بحكم ترابط المصالح بينها.
 وليس سراً أن التحرك المصري السريع جنوباً يأتي مدفوعاً إلى حد كبير بالانزعاج من التطورات المقلقة بشأن حصتها من مياه النيل بعد توقيع بوروندي الدولة السابعة التي تقر الاتفاقية الإطارية لمبادرة دول حوض النيل مما يمهد الطريق لتفعيل الاتفاقية التي تتحفظ عليها مصر والسودان، وتعتبرها القاهرة خصوصاً خصماً على الحقوق التاريخية المكتسبة في حصتها في مياه النيل. كما يقلق مصر أيضاً شروع إثيوبيا في تنفيذ سدود ضخمة على النيل الأزرق بدون تنسيق وتوافق بين الطرفين.
 والخبر السعيد الذي حمله الوفد المصري لدى عودته تأكيد حكومة الجنوب بأنها ستحترم اتفاقيات مياه النيل التي ظلت سارية بين السودان الموحد ومصر، بيد أن المشكلة الحقيقية التي تواجه مصر هي أن حصة المياه التي تحظى بها حالياً لن تكون كافية لحاجتها في ظل التزايد الكبير في عدد سكانها، وبالتالي فإن المطلوب مصرياً ليس فقط الحفاظ على حصتها الحالية بل البحث عن موارد إضافية، وهو أمر ممكن إذا تم تنفيذ قناة جونقلي التي أوقفت حرب الجنوب العمل فيها عند منتصف الثمانينيات من القرن الماضي.
 ومن المؤكد أن إحياء مشروع الاستفادة من مياه المستنقعات في الجنوب التي تتبدد بفعل التبخر لن يكون أمراً تلقائياً بل يحتاج إلى إطار جديد لعلاقة استراتيجية جديدة تشترك دول الوادي الثلاث في رسمها بحيث تحقق توازناً في المصالح المتحقق منها للأطراف الثلاثة. وعلى الرغم من أن مسألة المياه ستظل هي القضية المحورية في أية علاقات مستقبلية بين دول وادي النيل إلا أنها ليست المجال الوحيد الذي يستدعي التعاون بينها، فمسألة الأمن الغذائي للدول الثلاث ستظل شاغلاً لها بأقدار مختلفة، فكل واحدة من الدول الثلاث تواجه مشكلة خطيرة في توفير أمنها الغذائي بما في ذلك السودان الذي كان ينظر إليه بحسبانه منتجاً محتملاً للغذاء بما يغطي حاجة العالم العربي فإذا به اليوم عاجز عن توفير الغذاء لنفسه. وقد ارتفعت فاتورة استيراده للغذاء العام الماضي لتبلغ 2.5 مليار دولار ما يوازي خمسة وعشرين بالمائة من فاتورة وارداته، وستزداد مشكلته بعد تراجع عائداته النفطية بعد الانفصال.
 وهذا الواقع البالغ التعقيد لاتستطيع دول الوادي مجابهته منفردة أو بأطر التعاون المحدودة الحالية، فهناك حاجة حقيقية لأن تتبنى حكومات الدول الثلاث رؤية جديدة واستراتيجية مشتركة لوضع إطار جديد لآفاق شراكة اقتصادية متعددة الأغراض تجسدها مؤسسة فعالة للتعاون بين دول وادي النيل. ولعل في صيغة مجلس التعاون لدول الخليج العربي تجربة ثرة يمكن الاستهداء بها.

عن صحيفة (إيلاف) السودانية
30 مارس 2011
 

 

آراء