tigani60@hotmail.com
أما أن الشيخ جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي غادر الخرطوم حاملاً في حقيبته "وثيقة مكتوبة" من قيادة الحكم في الخرطوم بعد محادثات مستفيضة مع كبار المسؤولين في المؤتمر الوطني الحاكم, فهذا ما لا شك فيه ولا خلاف حوله. أما الجدل فيدور حول مضمون ما حملته هذه الوثيقة, وطبيعة التعهدات التي قطعتها, وجدواها السياسية وسط استمرار حالة الشكوك والهواجس المتبادلة بين الخرطوم وواشنطن بشأن مستقبل أوضاع السودان وعلاقاتهما في عهد ما بعد الاستفتاء الوشيك على تقرير المصير.
وعلى الرغم من التواصل الكثيف بين الحكومة السودانية والإدارة الامريكية الذي إزدادت وتيرته مع اقتراب انقضاء أجل فترة الانتقال في اتفاقية السلام الشامل, فإن زيارة كيري, وهي الثانية له للبلاد منذ أن تولى قيادة لجنة العلاقات ىالخارجية وكانت الأولى في أبريل من العام الماضي, تكتسب أهمية خاصة سواء من ناحية أجندتها, أو توقيتها. فمحادثات, الشخصية المرموقة في الحزب الديمقراطي, تمثل أهمية حيوية بالنسبة للخرطوم على وجه الخصوص من باب أنها تسهم في سد فجوة مهمة في جبهة الحوار المفقود مع الكونغرس, الذي تسود قناعة في أوساط الحكم هنا بأنه دأب على تبني سياسة متشددة في مواجهة الخرطوم خلافاً لمواقف أكثر مرونة, على الأقل من ناحية الاستعداد للحوار والتواصل الدبلوماسي, التي تتبناها الإدارة الأمريكية. أما توقيت الزيارة فدلالته تكمن في أنها أتت قبل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في الثاني من نوفمبر وسط تحديات تجابه الحزب الديمقراطي للحفاظ على سيطرته على المجلسين.
جاء كيري إلى السودان حاملاً القناعة المركوزة في دوائر صناعة القرار السياسي الأمريكي, وكذلك في أوساط الناشطين وجماعات الضغط, من أن انفصال جنوب السودان أصبحت مسألة وقت لا أكثر, كما يشير إلى ذلك ما أورده في بيان صحافي قبيل وصوله إلى السودان من "أن كل المصادر الموثوقة تشير إلى أن جنوب السودان سيصوت للانفصال عند الاستفتاء على تقرير المصير, مما يؤدي لتقسيم أكبر أقطار القارة الإفريقية حاملاً معه ثلث مساحة السودان, و80% من الاحتياطيات النفطية المؤكدة", ولفت إلى أن هدف زيارته هو الحصول من قادة الشمال والجنوب على ضمانات بعدم العودة للحرب, والتأكيد على التعايش السلمي بعد الانفصال.
ومن المؤكد أن الشيخ كيري حصل على التطمينات التي جاء يسعى إليها من قادة المؤتمر الوطني الحاكم على وجه الخصوص, وعلى نحو ربما كان أكثر مما ينتظره من الخرطوم من قبيل تأكيدات لفظية بإجراء الاستفتاء في موعده, والقبول بنتيجته, فقد حصل على "وثيقة مكتوبة" تتضمن ما هو أكثر من ذلك, خارطة طريق للعلاقة المستقبلية بين الشمال والجنوب, بعد الانفصال بالطبع, تقوم ليس فقط على ضمان نبذ الحرب, بل تتجه بخطوات أبعد من ذلك إلى تقديم عرض سخي للتعاون الوثيق بين الدولتين العتيدة والوليدة في مجالات واسعة وشديدة الحيوية.
وحسب البيان الصحافي الصادر عن كيري قبيل مغادرته الخرطوم, فقد أعلن عن تسلمه "قراراً", على حد توصيفه للوثيقة, من الحكومة السودانية تعهدت فيه التزامها بقبول نتائج الاستفتاء, وتعهدت كذلك بأنها ستقيم علاقات تعاون واسعة النطاق مع جارتها في الجنوب تشمل قضايا الاقتصاد, السياسة والأمن. ولم يكشف عن تفاصيل ما تضمنته الوثيقة السودانية قائلاً إنه جرى تسليمها لإدارة أوباما. ووصف كيري الخطوة بأنها "تمثل واحدة من الخطوات الإيجابية العديدة بين يدي الاستفتاء في التاسع من يناير, وللاستقرار في المستقبل".
وبالطبع فإن العرض الذي تضمنته الوثيقة السودانية رهين بالتوصل إلى تسويات مقبولة بشان القضايا الخلافية العالقة, أبيي, ترسيم الحدود, وترتيبات ما بعد الانفصال, وهو ما يجعل لجولة المحادثات المقبلة في أديس أبابا بين الشريكين بقيادة الرئيس الجنوب إفريقي السابق ثابو إمبيكي ذات أهمية استثنائية عند الشيخ كيري الذي اعتبرها فرصة فائقة الاهمية "لحلحلة القضايا الرئيسية, ولوضع حجر الأساس للمستقبل السياسي والاقتصادي الجديد للطرفين".
و"الوثيقة" التي تسلمها كيري والتي حملت صفة "قرار" على حد تعبيره, تصنفها أوساط صناعة القرار في الخرطوم بأنها تمثل "استراتيجية الحكومة", أو "خطة البشير" لمستقبل العلاقات بين "دولتي" الشمال والجنوب, وكذلك لمستقبل العلاقات بين الخرطوم وواشنطن, ولعل المصادفة وحدها هي التي جعلت "استراتيجية حكومة البشير" تأتي في مثل هذا التوقيت من العام الماضي (الأسبوع الثالث من أكتوبر 2009) الذي أعلنت فيه إدارة أوباما استراتيجيتها الجديدة تجاه السودان, ولعل الارتياح الذي أعرب عنه كيري لدى تسلمه "الوثيقة السودانية" ما يعطي دلالات واضحة بأن الزعيم الديمقراطي, رأى فيها تجاوباً إلى حد كبير من الخرطوم مع السياسات التي أطلقتها إدارة أوباما في استراتيجيتها تلك.
ومن الملاحظ أن الكشف عن هذه "الوثيقة" جاء من قبل المسؤول الأمريكي, إذ لم تتم المبادرة بالإعلان عنها رسمياً من قبل الحكومة السودانية مما جعلها محل لغط وتأويلات شتى بشأن مضمونها ومراميها, خاصة في ظل الشكوك المحيطة بحقيقة نيات واشنطن تجاه مستقبل الوضع في السودان بعد الانفصال, كما أن خارطة الطريق الأمريكية للتطبيع مع الخرطوم التي كشفت عنها إدارة أوباما الشهر الماضي تتضمن سلسلة من الوعود كما لا توجد ضمانات حقيقية لتنفيذها, فضلاً عن أنها مرتبطة بسلسلة من الاشتراطات, في حين أن تاريخ الوعود الأمريكية المنكوثة تجاه الخرطوم في السنوات الأخيرة الماضية جعل ظهر عرابو الرهان على التطبيع مع واشنطن مكشوفاً, ولا يزال كذلك على الرغم من كثافة التأكيدات الأمريكية بأن الوضع هذه المرة مختلف عن التجربة الماضية, وأن إدارة أوباما تعني ما تعهدت به للخرطوم, وجادة في تنفيذه.
ولعل السؤال الذي يبرز بقوة لماذا بادرت الخرطوم, أو تجاوبت مع مطلب أمريكي, لتقديم وثيقة مكتوبة تتعهد فيها بإجراء الاستفتاء في موعده والقبول بنتائجه, وتتعهد بتعاون وثيق سياسياً وأمنياً واقتصادياً مع الدولة الجديدة في جنوبها؟. وما هي الفوائد والمصالح التي تجنيها من ذلك على الرغم من سوء الظن العميق في وفاء الإدارة الأمريكية بالوصول إلى نهاية الشوط في تطبيع العلاقات بين الجانبين؟.
من المفيد أن نذكر هنا بما أشرنا إليه آنفاً من التحركات الأمريكية بإتجاه السودان تنطلق في وقت الراهن من افتراض أساسي وهو أن انفصال الجنوب أصبح أمراً محتوماً, وأن الاستفتاء لا يعدو أن يكون مجرد ممارسة توكيدية رمزية لخيار الانفصال على الرغم من كل دعاوى النزاهة والحرية المطلوبة كمعايير لضمان موثوقيته, وبالتالي فإن أولوية واشنطن الأولى معنية بنزع فتيل القنابل الموقوتة التي سيخلفها الانفصال والعمل على منع العودة إلى الحرب خشية أن تخلق فوضى في السودان المحاط بعشر دول مما يجعله ملاذا آمناً مثالياً للجماعات الجهادية المناهضة للسياسة الأمريكية. بأكثر مما هي معنية حقاً بميلاد دولة الجنوب وفق أسس ديمقراطية سليمة, لا تتوفر الشروط الموضوعية لممارستها حتى وإن خلصت النيات. ولا شك أن احتمال اندلاع فوضى في السودان على خلفية الأوضاع المعقدة حالياً وتبعات الانفصال غير المرتب أصبح يشكل هاجساً حقيقياً للإدارة الأمريكية.
وبالمقابل فإن قادة المؤتمر الوطني الحاكم باتوا الآن أكثر قناعة بأن الانفصال بات بالفعل أمر محتوماً, ولا أدل على ذلك من قراءة التصريحات المتواترة هذه الأيام التي تحولت بسرعة من خانة الدفاع عن الوحدة, والإصرار على أنها ممكنة إذا اتيح استفتاءً حراً ونزيها للجنوبيين, إلى خانة التقليل من شأن الانفصال وتأثيراته السلبية على الشمال, من قبيل التصريحات التي تصف الانفصال بأنه ليس كارثياً, ولن يكون نهاية التاريخ, ولا نهاية الدنيا, ولا حتى إيذان بنفخ الصور يوم القيامة.
ومع ذلك فإن إطلاق الشعارات البلاغية لم يعد بذي نفع فالمطلوب مواجهة استحقاقات هذا التطور الخطير بما يقتضيه من تجاوز مجرد إرسال تطمينات للرأي العام الشمالي, إلى الاستعداد الفعلي لقيام بالتبعات المترتبة على ذلك. والمطلوب أكثر من مجرد التأكيد على عدم العودة إلى الحرب, بل الذهاب إلى أبعد من ذلك بوضع خارطة طريق جدية لسيناريو ما بعد الانفصال بكل تعقيداته. وهذا أمر لا يمكن القيام به من طرف واحد في ظل تشابك أجندة أطراف محلية ودولية حوله. كما أنه لا يمكن تجاوز الدور الأمريكي فيه تحديداً.
وما ورد في "الوثيقة" التي جرى تسليمها لكيري في الخرطوم من تعهد بقيام الاستفتاء على تقرير المصير في موعده, والقبول بنتائجه, لا يقرر موقفاً جديداً للخرطوم, فقد سبق التصريح بذلك والـتأكيد عليه في أماكن ومناسبات عدة, أهمها تعهد نائب الرئيس علي عثمان في نيويورك عند انعقاد الاجتماع التشاوري الدولي بشأن السودان, وكان هنا لا يزال أملاً في أن يكون هناك موقفاً دولياً ملتزماً بوحدة السودان, بيد أن التعهد هذه المرة يحمل جديداً فهو يأتي في إطار ما بات مفهوماً في المسرح الدولي من أن الإلتزام بقيام الاستفتاء في موعده والقبول بنتائجه يعني بداهة الانفصال, وليس أي شئ آخر, وأن الاستفتاء مجرد ممارسة شكلية توكيدية لذلك, وبالتالي فإن تعهد الخرطوم المكتوب هذه المرة يعني ضمنياً أنها لم تجد مناصاً من السير في الاتجاه ذاته.
ومضى الحزب الحاكم في "وثيقة كيري" إلى خطوة أبعد باقتراح ترتيبات لما بعد الانفصال في إتجاه خلق علاقة تعاون واسعة, وليس صراع, مع الدولة الوليدة يغطي المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية, ومن الواضح فإن الخرطوم تهدف من خلال ذلك إلى اصطياد أكثر من عصفور بحجر واحد, فهي من جهة ملزمة أصلاً بالوفاء بتعهدات اتفاقية السلام التي تتضمن خيار الانفصال, كما أنه ليست في نيتها ولا مصلحتها التراجع عنها, وبالتالي فمن الأفضل أن تتعاطى إيجابياً مع التطورات المتسارعة في هذا الاتجاه بما يؤكد مصداقيتها, ويقلل الآثار السلبية للانفصال, وبما قد يمهد الأجواء لأوضاع أكثر إيجابية.
ولذلك فإن تعهد الخرطوم في "وثيقة كيرى" لا يعدو أن يكون في الواقع من باب تحصيل الحاصل وتأكيد المؤكد, ولكنه في الوقت نفسه يمكن أن يكون سبيلاً لتعزيز الثقة في سياساتها, وفي تعزيز فرص وفاء واشنطن بتعهداتها بتطبيع العلاقات بين البلدين, وكذلك مساعدة الأطراف السودانية في تحقيق الاستقرار واستدامة السلام باعتباره هدفاً مشتركاً لجميع الأطراف.
وحصول الشيخ كيري على هذه الوثيقة من الخرطوم في هذا التوقيت بالذات سيقوى من موقف إدارة أوباما المتهمة من قبل جماعات الضغط, وحتى من نواب في الكونغرس, بالتساهل مع الحكومة السودانية, وهي خدمة تحتاجها الإدارة بين يدي انتخابات التجديد النصفي للكونغرس, صحيح أنه ليس متصوراً أن تكون عنصراً حاسماً لصالحه, ولكنها على الأقل ستلعب دوراً في تخفيف غلواء منتقدي سياسة اوباما بشأن السودان.
والأمر الآخر الذي قد يتحقق من هذه الخطوة أن يقود إلى كسب ود إدارة أوباما في هذه اللحظة المفصلية من تاريخ السودان مما يجعلها أكثر موضوعية وأكثر استعداداً للعب دور الوسيط النزيه مما يسهم بصورة أكثر فعالية في حلحلة القضايا العالقة وترتيبات ما بعد الانفصال, وهو تطور إذا حدث فإن من شأنه أن يشكل عامل ضغط على الحركة الشعبية ويجعلها أكثر مرونة في مواقفها وقبولاً للحلول الوسط, ولن تكون في وضع تراهن فيها على دعم أمريكي بسقف مفتوح, فإدارة أوباما أضحت إدراكاً أكثر من أي وقت مضى إلى الحاجة الملحة لضمان استدامة الاستقرار والسلام في السودان, وهو ما تحتاجه ليس فقط من أجل مصالح حلفائها في المنطقة بل كذلك من أجل مصالحها الذاتية كما صرح بذلك الرئيس أوباما الاسبوع الماضي. ومن المهم التذكير بأن هذا الموقف ليس جديداً فقد طرحته استراتيجية أوباما العام الماضي حين شددت على ضرورة أن يمضي السودان بعد الاستفتاء إلى بلد موحد مسالم, أو دولتين قابلتين للعيش بسلام.
ومن المهم أيضاً الإشارة إلى أن "وثيقة كيري" لا تمثل تحولاً درامياً بل تتماشى مع مواقف المؤتمر الوطني الحاكم المعلنة تجاه واشنطن, إذ لم يعرف أن للخرطوم في عهد الحكم الحالي موقفاً أيدلوجيا مناوئاً للسياسة الأمريكية من ناحية المبدأ, بل ظلت دوماً تأمل في علاقات طبيعية بين البلدين, وانتقادات قادته كانت تنصب على أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة لم تف أبداً بوعودها بتطبيع العلاقات بين الطرفين, على الرغم من الخرطوم مضت بعيداً في التعاون مع واشنطن في أكثر الملفات حساسية, وكانت نتيجة ذلك تطبيعاً أمنياً كاملاً فحسب في حين ظل التطبيع السياسي والاقتصادي عصياً على الرغم من المؤتمر الوطني ساعد إدارة جورج بوش الإبن في تحقيق أحد أهم إنجازاتها السياسية بلعب دور لعب إنهاء اطول حروب القارة الإفريقية, بالتوصل لاتفاقية السلام الشامل برعاية أمريكية.
عن صحيفة (إيلاف) السودانية
الأربعاء 27 اكتوبر 2010